أمَّا بعد امتحان الكورونا؛
سيكون الأوان قد آن لتوسيع مفهوم الأمن وإخراجه من عباءته الكلاسيكية المنكفئة على رُهَابَيْ الإرهاب والجريمة المنظمة، ليشمل الأمن الصحي والغذائي والطاقي وهلم جرا.. ولنا في جائحة الكورونا حياة.
حتى البارعون في السَّتْرَجَة والدراسات الأمنية قد يُسقَط في يدهم بصدد تَنْطِيقِ ميدان الأمن وتحديد معالمه، كما حصل ذات نونبر من سنة 2011 مع تنظيم اليوم الدراسي المخصص للتحديات الإستراتيجية أمام المجلس الأعلى للأمن: عناصر للتفكير، والذي أشرف عليه المعهد الملكي للدراسات الإستراتيجية؛ فقد عَزَبَ عن بال المنظمين خطر الأوبئة والمجاعات، حين تناولوا بالدرس ما أسموه بالمخاطر التي لا مناص منها، ووضعوا حصريا قائمة بتلكم المخاطر لم تخرج عن المخاطر العسكرية والاقتصادية واضطراب الأوضاع بالساحل والهجمات السيبرانية والإرهاب والجريمة المنظمة.
هل نجد لهذه النزوعات التصنيفية للمخاطر، تفسيرا في كون العسكري هو دوما من يُستدعى عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي؟.
لأمر ما سيتصدر الأمن القومي هاجس المشرع، خصوصا مع الرغبة في وضع إطار دستوري محكم للمعضلة الأمنية، وهكذا سيتبلور في دستور 2011 هذا التوجه بالذات بتنصيص الفصل 54 منه على إحداث مؤسسة جديدة لأول مرة تعزز مسار بناء السياسات الأمنية ببلادنا. فبمنطوق ذات الفصل، فأنه « يحدث مجلس أعلى للأمن، بصفته هيئة للتشاور بشأن إستراتجيات الأمن الداخلي والخارجي للبلاد، وتدبير حالات الأزمات والسهر أيضا على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة. ويرأس الملك هذا المجلس، وله أن يفوض لرئيس الحكومة صلاحية رئاسة اجتماع لهذا المجلس، على أساس جدول أعمال محدد. كما يضم المجلس الأعلى للأمن في تركيبته، علاوة على رئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين، والرئيس المنتدب للسلطة القضائية، الوزراء المكلفين بالداخلية والشؤون الخارجية والعدل وإدارة الدفاع الوطني، وكذا المسؤولين عن الإدارات الأمنية، وضباط سامين بالقوات المسلحة الملكية، وكل شخصية أخرى يعتبر حضورها مفيدا لأشغال المجلس.
ويحدد نظام داخلي للمجلس قواعد تنظيمه وتسييره».
الصيغة المغربية للمجلس الأعلى للأمن استرشدت بالتجارب الدولية في هذا الشأن خصوصا التجربتين الأمريكية والفرنسية، مع فارق مهم أن المغرب دستر هذه المؤسسة في حين أن من بين 193 دولة، نجد عددا قليلا منها جعل من مجالس الأمن مؤسسة دستورية، فيما اقتصرت دول أخرى على إصدار مرسوم رئاسي كما هو الشأن بالنسبة إلى فرنسا.
أهمية النموذج المغربي في إرساء هذه البنية يتمثل من جهة في التنصيص العالي المستوى لترتيب بيت السياسة الأمنية بالمغرب، إِنْ على المستوى الداخلي أوالخارجي، ومن جهة أخرى، الدلالة المائزة لإشراك المدنيين في المشاورات بصدد الشأن الأمني للمغرب وتدبير حالات الأزمات التي قد تشكل مخاطر على أمنه القومي.
وبالرجوع للفصل 54 الآنف الذكر، فإن العسكريين سيجدون أنفسهم لأول مرة يدبرون الأمن إلى جانب رئيس الحكومة، ورئيسي مجلسي البرلمان، والرئيس المنتدب للسلطة القضائية، والوزراء المكلفين بالداخلية والشؤون الخارجية والعدل.
مازال سؤال يفرض نفسه بشأن هذه التركيبة، وهو عدم تمثيلية وزارة المالية (إدارة الجمارك)، إسوة بمجلس الأمن الداخلي في الصيغة الفرنسية.
هل سنشهد بالتالي بداية نهاية أسطورة قدسية المجال الأمني، بفتحه أمام المنتخبين والأحزاب السياسية، وتعميده ضمن السياسات العمومية الأمنية وتعريضه بالتالي للمحاسبة والرقابة البرلمانية؟.
رَجْعُ صدى هذا السؤال يضرب عميقا في المشهد السياسي المغربي ليتصادى مع توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة التي استشرفت أهمية إنجاز إصلاحات قانونية ومؤسساتية كيَّفتها يومئذ بالمستعجلة، وفي هذا الصدد أوصت الهيئة بتطوير سياسات عمومية مبنية على إشراك السياسيين والمدنيين والمؤسسات الوطنية ذات الخبرة في ميادين البحث العلمي فضلا عن مختلف الفاعلين، مع العمل الحثيث على إدراج ترشيد الحكامة الأمنية ضمن مسار إصلاحي تدريجي.
اختبار تدبير أزمة كورونا من اللازم أن ينمي وعينا بأن تعدد القنوات الناقلة للمخاطر خارجية وداخلية المنشأ endogènes aléas exogènes et وتأثيراتها المباشرة على المسار التنموي للبلاد، يلزم بتبني مفهوم واسع للأمن القومي، وهذا يعني لزوم دمج حزمة المخاطر أو التهديدات التي من المحتمل أن تعطل الوضع الطبيعي للدولة ومؤسساتها.
ذات الأزمة يجب أن تعيد ترتيب المخاطر والانشغالات الأمنية للمغرب برمتها، دون الحفــــــــول – بأرثودوكسية غير مبررة- بالوضع الأمني المتدهور بالجزائر تارة، وبالاستهداف السرمدي للمغرب لتبوئه موقعا متقدما على خارطة شمال إفريقيا تارة أخرى، أو حتى بالوضع الليبي المتفاقم، والذي أفرز جولان ما يربو عن 50 مليون قطعة سلاح تم تهريبها فقط في السنوات الأخيرة؛ دونما تبخيس لهذه المعضلات وغيرها، بل يجب الانكباب على الإجابة –وباستعجال- على التحديات الأمنية الرئيسية اليوم؟، على تأثير هذه التحديات ذاتها وعلى اختلافها على المصالح الحيوية للمغرب؟، وعلى كيفية بناء مقاربة مندمجة لإرساء استراتيجية أمنية بشكل يتم فيه تحقيق توازن بين مختلف الأبعاد الأمنية حسب أولويات الدولة.
(*) إعلامي