خلال النسخة الثانية من الأيام العلمية بمدينة تافراوت) فبراير (2025، المنظمة في إطار مشروع التهيئة المستدامة للمدينة; نحو مدينة مستدامة مسؤولة ونموذجية، توقفتُ عند نقطة بدت للبعض في البداية لغوية بحتة، لكنها في العمق تمس قلب الهوية الأمازيغية: معنى كلمة تمازيرت. كيف يمكن نقل هذا المفهوم من الأمازيغية إلى العربية أو الفرنسية أو الإنجليزية دون أن نفقد روحه؟ الكلمات التي نعتمدها عادة ( البْلاد او المْدينة في العربية الدارجة، أو « الوطن » (le pays) في الفرنسية، أو homeland في الإنجليزية ) تبدو وكأنها مجرد ظلال باهتة أمام المعنى الكامل الذي تحمله تمازيرت في مخيال الإبودرارن، سكان جبال تافراوت.
هذا السؤال اللغوي كان مدخلاً لموضوع أوسع: تمازيرت ليست مجرد كلمة، بل هي إطار وجودي ومعرفي وأخلاقي يشكّل علاقة الإنسان بالمكان. فهي تختزن ذاكرة الأجداد، وتؤطر العلاقات الاجتماعية، وتمنح الأفراد إحساساً بالأمان والشرعية. ومن هنا، يصبح فهمها مدخلاً لفهم البنية العميقة للانتماء لدى المجتمعات الجبلية في الأطلس الصغير. هذا الإطار الوجودي والمعرفي لا يبقى حبيس التصورات المجردة أو القيم الرمزية، بل يتجسد يومياً في الممارسات الحسية والذاكرة البصرية والسمعية للمكان. فـ « تامازيرت » كما يعيشها أبناء تافراوت ليست مفهوماً ذهنياً فحسب، بل هي خبرة متجسدة في تفاصيل الجغرافيا المحيطة وفي نسيج الحياة اليومية، حيث تتحول الطبيعة إلى كائن حيّ ينبض بالتاريخ والذكريات…
عندما ينطق أحد سكان تافراوت بكلمة « تامازيرت »، فهو لا يشير إلى مجرد موقع على الخريطة، بل إلى فضاء تنبض فيه الحياة بالتاريخ والذكريات. الجغرافيا هنا ليست طبيعة جامدة، بل كائن حي، له روح يتغذى من الحكايات الشفوية، ومن الأعراف الجماعية (إزرفان)، ومن المشاهد اليومية التي تتكرر منذ قرون. الجبال المحيطة، بقممها وأوديتها، ليست مجرد تضاريس؛ هي مسرح للعلاقات بين الإنسان والأرض. في كل عين ماء حكاية عن من سقاها وحافظ عليها. في كل شجرة لوز أو ارگان او زيتون ذكرى عن يد زرعتها واعتنت بها. حتى الحجارة التي بنيت بها البيوت الطينية تحمل بصمة الأجداد، وتستبطن إحساساً بالاستمرارية والدوام.
هذا الفهم للجغرافيا يعكس ما يسميه علماء الأنثروبولوجيا « الفضاء المعاش » (espace vécu)، أي الفضاء الذي يتجاوز بعده المادي ليصبح جزءاً من الذاكرة الجمعية، ويمتزج فيه الحسّي بالمخيالي، واليومي بالرمزي. فالجبال، والأودية، والحقول المدرّجة، ليست عناصر طبيعية معزولة، بل هي مكونات في سردية كبرى يعيشها الناس جيلاً بعد جيل. في هذا السياق، الطبيعة ليست خلفية صامتة للحياة الاجتماعية، بل شريك فاعل في تشكيلها؛ إذ تمنح الإيقاع للزمن الاجتماعي من خلال مواسم الحصاد وجني اللوز و الارگان، وتحدد أنماط السكن عبر طبيعة التضاريس، وتفرض أساليب معينة للتنقل والعمل والتعاون.
من منظور أنثروبولوجي، يمكن القول إن تمازيرت تمثل « منظومة بيئية-ثقافية » (système éco-culturel) حيث يتبادل الإنسان والطبيعة التأثير باستمرار. فالمكان لا يُعاش فقط كموطن للعيش المادي، بل يُعاش كإطار للتجارب الحسية (رائحة التراب بعد المطر، أصوات المواشي، ملمس الحجر الدافئ في الظهيرة) التي تختزنها الذاكرة وتعيد إنتاجها في الشعر، والأمثال، والأغاني. هنا، يتجسد ما يسميه ميرسيا إلياد بـ « المكان المتمركز » (lieu-centre)، أي الفضاء الذي يشكّل محوراً رمزياً تتنظم حوله حياة الجماعة.
لكن إذا كانت تمازيرت فضاءً مادياً حياً، فإنها تتجاوز ذلك لتصبح بنية اجتماعية وأخلاقية، حيث تتجسد الجغرافيا في منظومة من القيم والعلاقات. فالأرض ليست ملكية فردية محضة، بل هي أيضاً مجال للمشاركة والتضامن، تُدار عبر مؤسسات محلية مثل الجماعة أو أجمّاع، وتُحكم بأعراف مكتوبة أو شفهية تعرف بـإزرفان. هذه الأعراف لا تحدد فقط كيفية استغلال الموارد (المياه، الأراضي الزراعية، المراعي)، بل تضبط أيضاً السلوك الاجتماعي، وتحدد ما يعتبر مشروعاً أو ممنوعاً، وما يُعد شرفاً أو عاراً.
إن الطبيعة في هذا الإطار ليست معطى خارجياً، بل هي حاضنة للقيم الجماعية. فالجبال، بصلابتها وثباتها، تُستحضر كرمز للصمود والكرامة، بينما ينظر إلى الأرض المزروعة على أنها مرآة للعناية والمسؤولية. وبهذا، تصبحتمازيرت نصاً اجتماعياً تُقرأ فيه القيم وتُترجم من خلال الممارسات اليومية: من توزيع المياه عبر قنوات الري الجماعية، إلى المشاركة في بناء الطرق والمساجد، إلى التضامن في مواسم الجفاف أو الكوارث. وبذلك، فإن فهمتمازيرت يتطلب، أنثروبولوجياً، قراءة مزدوجة: قراءة للمكان كمادة محسوسة لها جغرافيا واقعية، وقراءة للمكان كنص اجتماعي وأخلاقي يتشكل عبر الزمن ويتجسد في العلاقات والمعايير.
في منظور سوسيولوجي، يمكن النظر إلىتمازيرت باعتبارها « واقعة اجتماعية كلية » (fait social total)، أي أنها ليست مجرد جانب من جوانب الحياة، بل فضاء يختزل ويجمع في بنيته جميع الأبعاد التي تشكّل الحياة الجماعية وتمنحها معناها. في هذا الإطار،تمازيرت ليست فقط جغرافيا أو انتماء عاطفي، بل هي نظام متكامل يجمع الاقتصاد، والدين، والسياسة المحلية، والقيم الأخلاقية في وحدة واحدة مترابطة.
اقتصادياً، تقوم تمازيرت على أنماط إنتاجية متكيفة مع البيئة الجبلية: الزراعة المدرّجة، تربية الماشية، جني اللوز، الارگان و الزيتون ، وصناعة بعض المنتوجات التقليدية. هذه الأنشطة لا تُمارس بشكل فردي منعزل، بل تتداخل مع علاقات القرابة، وتقنيات العمل الجماعي، ونظم تبادل الخدمات بين الأسر والقرى. فالأرض والماء، وهما الركيزتان الأساسيتان للإنتاج، يخضعان لأنظمة توزيع وضبط متوارثة، ما يجعل الاقتصاد المحلي جزءاً لا يتجزأ من التنظيم الاجتماعي.
دينياً وروحياً،تمازيرت هي أيضاً مجال مقدس تحكمه طقوس موسمية، وزيارات للأولياء والزوايا، واحتفالات مرتبطة بدورة الفصول والأنشطة الزراعية. هذه الممارسات ليست فقط تعبيرات إيمانية، بل أيضاً أدوات لإعادة إنتاج التضامن الاجتماعي، حيث تتحول المناسبات الدينية إلى فضاءات لتجديد الروابط بين القرى والعائلات. أما سياسياً، فإن إدارة شؤونتمازيرت لا تعتمد فقط على مؤسسات الدولة الحديثة بقدر ما ترتكز على بنى تقليدية مثل أجمّاع (مجلس الشيوخ أو الحكماء) الذي يجمع ممثلي الأسر أو الفروع القبلية، ويتولى تنظيم الشؤون اليومية: من حل النزاعات، إلى ضبط مواعيد الري، إلى الإشراف على صيانة المرافق المشتركة. هذه السلطة المحلية تعمل وفق قواعد عرفية (إزرفان) تتمتع بشرعية قوية لأنها متجذرة في الذاكرة الجماعية.
أخلاقياً، تمازيرت تعمل كـرقيب على منظومة قيم ترتكز على الشرف، والتعاون، والكرامة، و الكرم، احترام الكبار، وحماية الضعفاء. هذه القيم ليست مجرد شعارات، بل تتحول إلى ممارسات فعلية: من واجب إغاثة المحتاج، إلى تقاسم الموارد في أوقات الأزمات، إلى التضامن في مواجهة المخاطر البيئية أو الاجتماعية. بهذه الصورة،تمازيرت ليست كيانا متجزئاً، بل هي نسيج معقّد تتقاطع فيه أنظمة إنتاجية، وطقوس رمزية، وهياكل حكم محلية، ومعايير أخلاقية، بحيث لا يمكن فصل أحدها عن الآخر دون الإضرار بتوازن الكل. وهذا ما يجعلها، بالمعنى الدوركهايمي، واقعة اجتماعية كلية يعيشها الأفراد ويعيدون إنتاجها جيلاً بعد جيل. وإذا كانت هذه القيم تؤطر حياة المقيمين في الجبال، فإن حضورتمازيرت يمتد أيضاً إلى أولئك الذين غادروها، حيث تتحول في الذاكرة إلى صورة مثالية ترافقهم أينما ذهبوا.
إن الهجرة، سواء نحو المدن الكبرى أو نحو الخارج، لم تضعف من مركزيةتمازيرت في هوية الإبودرارن. بل على العكس، غالباً ما يؤدي الابتعاد الجسدي إلى تعميق الحضور الرمزي للمكان. فالمهاجر الذي يعيش في الدار البيضاء أو باريس أو بروكسل، يحمل في داخله صورة ذهنية لتامازيرت، حيث الجبال تلتقي بالسماء، وحيث صوت إزلان (الأغاني الأمازيغية) يتردد في الأعراس والمواسم. في هذه الصورة المثالية، تختفي تفاصيل المشقة والبرد وقسوة العمل، لتحل محلها ذكرى التضامن الجماعي، وبساطة الحياة، ونقاء الهواء. هنا، تصبحتمازيرت ملاذاً وجدانياً، و « وطنًا خياليًا » بالمعنى الذي تستخدمه سوسيولوجيا الخيال، أي فضاءً رمزياً يُستعاد في المخيلة كلما شعر الفرد بالاغتراب أو الانقطاع. هذا البعد الرمزي يقودنا إلى قراءة أعمق لتامازيرت باعتبارها تجسيداً لنموذج « المجال الأمومي » في الخيال الجمعي.
في سوسيولوجيا الخيال، يمكن النظر إلىتمازيرت باعتبارها « المجال الأمومي »، أي الحاضنة الأولى التي تمنح الفرد جذوره وشرعيته الرمزية. هذا المجال ليس ثابتاً في الواقع فقط، بل يمتد في الزمان عبر الذاكرة والأسطورة.تمازيرت، بهذا المعنى، ليست مجرد مكان نعود إليه فيزيائياً، بل فضاء نستعيده ذهنياً وعاطفياً. إنها صورة مكتملة لعالم اجتماعي له رموزه وقوانينه وموسيقاه ورقصاته وأمثاله الشعبية. حتى في ظل العولمة، التي تجعل المدن متشابهة والمجتمعات أكثر سيولة، تظلتمازيرت رمزاً للثبات والخصوصية، ومجالاً للمقاومة الثقافية ضد محو الفوارق المحلية. وهكذا، فإنتمازيرت تمثل التقاء الجغرافيا بالذاكرة، والمجتمع بالخيال، والأرض بالإنسان. وهي بهذا المعنى مرآة عاكسة لهوية الإبودرارن، ومفتاحاً لفهم علاقتهم بالعالم من حولهم.
في الوعي الجمعي لسكان جبال تافراوت، يتجاوز مفهوم « تمازيرت » البعد اللغوي والمكاني ليشكل واقعًا اجتماعيًا شاملاً، حيث تتقاطع الأبعاد المادية والرمزية، الاقتصادية والثقافية، والمحلية والعالمية في نسيج واحد متكامل. إن فهم هذا الواقع يتطلب تجاوز القراءة الحرفية إلى تحليل التجربة المعيشية للفاعلين، الذين يعيدون إنتاج معنى تمازيرت عبر ممارساتهم اليومية، وأشكال تواصلهم الاجتماعي، واحتفالاتهم الرمزية. في سياق العولمة وزيادة تنقلات الأفراد وتهجيرهم، تستمر تمازيرت في العمل كمرجعية مركزية للانتماء والهوية، مبينة أن الانتماء لا يُقاس بالمكان الجغرافي فقط، بل بعمق العلاقات الاجتماعية والروابط الرمزية التي تعززها الذاكرة الجماعية والتجربة الحية مع الأرض.