من الصعب اليوم تميز القرية عن المدينة، والمجال القروي عن الحضاري، بعدما كانت القرية المغربية في الماضي البعيد، تحمل كل مواصفات البادية المغربية، من نمط العيش الذي كان يعتمد البساطة في كل شيء ، والاكتفاء بما تنبته الأرض وتجود به البهائم ، وتعده الأيادي وانامل ساكنة هذا المجال الجغرافي، إضافة إلى العزلة الشبه التام مع الوسط الحضاري، في غياب المسالك الطرقية ووعورتها ، وغياب تام للخدمات الأساسية من الصحة والتعليم والاتصال والتواصل.
وبقيت القرية المغربية، مجالا للفلاحة البورية في اعتماد على التساقطات المطرية، والمسقية في الواحات وجنبات الأودية الدائمة الجريان أو بقرب من العيون والسدود ، مصدر للمنتوجات الفلاحية الطبيعية، والالبان ومشتقاته ، واللحوم البيضاء والحمراء.
وفي الجانب الاجتماعي كانت القرية المغربية تعرف كثافة سكانية مهمة جداً ، مما يجعلها مصدر اليد العاملة النشيطة إلى المدن، ومجال جغرافي غني بالعادات والتقاليد ، والطقوس الاحتفالية والخرافية ومكان لممارسة الطقوس الدينية والمعتقدات ، ومجال لإنتاج الخصوصية المحلية في كل المجالات والقطاعات.
وعلى هذا الأساس كانت القرية المغربية ، متميزة عن المدينة المغربية بخاصية الانفراد بالجو والمناخ النقي، والخصوصية المغربية ذات جدور عميق في الأرض والتاريخ والحضارة ، إنها بإختصار مجال الأساس والاسس المتينة لتامغربيت.
إلا أنه وبعد تطور حياة الإنسان، وازدياد نسبة الهجرة إلى المدن وخارج البلاد، وولوج أبناء وبنات القرية إلى التعليم ، ودخول الكهرباء والاتصالات إلى أغلب القرى والمداشر ، لم تعد القرية المغربية تحتفظ بالخصوصية المعروفة، بل أصبحت في موقع فاقد الهوية أمام مجال جغرافي يحاول المحافظة على الطابع التقليدي والبدوي من خلال الملبس والعيش وأساليبه، وكيفية تدبير العلاقات الاجتماعية والعائلية ، وجيل جديد من الأبناء يعيش في البادية بعقلية المدينة وطموحات المدن الكبرى، في ظل تواجد مقومات المدينة بكل إمتياز.
والقرية المغربية اليوم، بعد أوراش تنموية وطنية كبرى، نقف على مسالك طرقية معبدة، ومراكز تغري الزائر، وخدمات عالية الجودة في الاتصالات والتواصل والنقل ، وبناية تحتية عالية، ونمط عيش متطور، يعتمد السرعة والاتصال السريع، والعالمية والرقمنة، تكاد تكون مدينة بصيغة القرية.
وقد تختلط المفاهيم والقراءات السوسيولوجية للقرية المغربية في المستقبل القريب ما لم يتم التدخل للمحافظة وتثمين الخصوصية المجالية للقرية حتى تكون بالفعل أصل المدينة كما أقر بذلك إبن خلدون، وتبقى مجالا جغرافيا يخدم الإنسانية من موقع البساطة والحيوية والطبيعة الخلابة، والخصوصية المجالية الغنية من حيث الثقافة والتاريخ والحضارة والإنسانية.