تنوير أم تعتيم

بقلم: د. عبدالله الحلوي

من التعابير التي يصر أهل المعهد الوطني للأركيولوجيا والتراث على استعمالها في بلاغاتهم عبارة “لتنوير الرأي العامل الوطني” .. سأبين في هذا المقال بأن المعهد وأهله لا “ينورون الرأي العام الوطني” بل يعتمون عليه بشكل مثير للريبة، وذلك من خلال منقاشتي لسياق البلاغين اللذين صدرا عن المعهد في فبراير الماضي وأبريل الجاري بخصوص النقيشة التي قيل إنها اكتشفت في دكالة سابقا ثم أكد المعهد اكتشافها في سطات قبل أيام قليلة من اليوم.

ماذا يحدث بالضبط؟

يوم الخميس 27 أبريل على الساعة 11:14 ليلا اتصل بي أحدهم بواسطة ماسانجر الفايسبوك يخبرني أنه اكتشف وجود نقيشة مهمة في سطات وأنه يريد أن يستفسرني عن قيمتها. طلبت منه أن يبعث لي بصور لها، فأرسل لي ثلاث صور بالأبيض والأسود (الصور 1و2و3) تحمل نفس النص التيفيناغي الذي تحمله تلك النقيشة التي قال مكتشفها الإفتراضي في شهر فبراير الماضي بأنها اكتشفت في منطلقة الولجة ــ دكالة. المثير في الأمر هو أن الصخرة التي في الصور الجديدة التي حصلت عليها مباشرة من “المكتشف” المفترض تحمل نفس نقيشة شهر فبراير، بنفس النص مكتوبا بنفس الأسلوب!

ماذا يحدث بالضبط؟ هل يتعلق الأمر باكتشاف جديد؟ أم أنها نفس النقيشة ونفس الصخرة؟ للتأكد من معلومات سياق الإكتشاف، سألت الشخص الذي قال لي بأنه المكتشف الحقيقي للصخرة: “هل هذه هي نفس اكتشاف الولجة دكالة؟”، فأجابني متعجبا: “لا … سطات، اليوم ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟” … هذا يعني أن الرجل اكتشف هذه النقيشة يوم الخميس 27 أبريل، 2023 في سطات. لكن لماذا تحمل الصخرة نفس النص التيفيناغي، مكتوبا بنفس الأسلوب، ولماذا للصخرتين نفس الشكل (قارن الصور بالأبيض والاسود [سطات] مع لصورة 4الملونة [“الولجة”])؟

وفي اليوم الموالي، أي يوم الجمعة 28 أبريل على الساعة 2:50 دقيقة، نشرت تدوينة نبهت فيها إلى قيام مجهول بسرقة نقيشة مهمة قرب قرية سيدي جعفر بإقليم وارزازات كنت قد سميتها “نقيشة سيدي جعفر” لأني بدأت أحس أن قطاع الآثار المرتبطة بنصوص تيفيناغ لا يتلقى العناية اللازمة التي يستحقها هذا النوع من الآثار ذات النتائج الحاسمة في تحديد فهمنا لماضينا الثقافي والهوياتي.

يوم الجمعة على الساعة 10:29 ليلا، اتصلت مرة أخرى بالشخص الذي قال بأنه اكتشف النقيشة في سطات وكتبت له مستفسرا: ” جميل جدا … ولكن علاش مكتوب فيها نفس الشيء؟ و واش جاو درسوها الناس ديال المعهد الوطني للبحث الأركيولوجي والتراث ولا مازال؟” لكن الرجل لم يرد على مكاتبتي له رغم أنه قرأ رسالتي ..!! استغربت لماذا لم يرد الرجل على هذا السؤال الحاسم؟ .. لماذا امتنع عن الجواب رغم أنه كان متحمسا في البداية لمعرفة رأيي في الموضوع؟ .. هل هناك من “نصحه” أن لا يعطيني أي معلومات عن النقيشة؟ … لقد استغربت كيف لهذه النقيشة أن تحمل نفس نص نقيشة “الولجة” مكتوبا بنفس أسلوبها ولكنها توجد في مكان بعيد عن الولجة (مسافة ساعتين بالسيارة تقريبا)؟ ماذا يحدث بالضبط … ؟ولكني استغربت أكثر للصمت المفاجئ الذي أظهره “مكتشفها” المفترض!!!

مفتاح فهم المسألة

مفتاح فهمنا لهذا الخطاب المرتبك سيكون هو دور المعهد الوطني للأركيولوجيا والتراث. سأشرح.

في يوم الجمعة 28 أبريل على الساعة 09:40 دقيقة ليلا، نشر المعهد الوطني للأركيولوجيا والتراث في صفحته الفياسبوكية الرسمية بلاغا وطنيا اعتبره “تنويرا للرأي العام الوطني” يخبر فيه المواطنين أنه “قد تم مؤخرا تحديد مكان الحجرة المذكورة وانتقل إلى عين المكان فريق من المعهد الوطني لعلوم الاثار والتراث بالرباط […] يتكون من السيدين عبد العزيز الخياري ومحمد صلو استاذان بالمعهد والسيد ابو القاسم الشبري مدير مركز التراث المغربي البرتغالي”لذلك فإن المعهد أكد على مجموعة من النقاط أهمها: (1) “أن الحجرة المذكورة وجدت بإقليم سطات وليس بمنطقة الولجة سيدي عابد (إقليم الجديدة)” و(2) أنه “قد تم الكشف عن الحجرة وتم نقلها الى مكان آمن بغرض الدراسة والتوثيق، وسيتم اخبار الرأي العام بالنتائج فور توفرها.”

هناك ثلاث نقاط مثيرة في بلاغ المعهد:

#أولها، تصريح البلاغ بأنه قد ” تم مؤخرا تحديد مكان الحجرة المذكورة”
#ثانيها، تصريح البلاغ بأن “الحجرة المذكورة وجدت بإقليم سطات وليس بمنطقة الولجة سيدي عابد”
#ثالثها، تصريح البلاغ بأنه ” قد “تم نقل [الحجرة] الى مكان آمن بغرض الدراسة والتوثيق”
#الملاحظة_الأولى مثيرة لأنها تكشف عما عتّم عليه المعهد في بلاغه الأول: وهو أن المعهد لم يكن يعرف مكان الصخرة … فكل ما أكده البلاغ الأول للمعهد هو أنه لم يتمكن “من الحصول على معلومات واضحة وأكيدة حول الحجرة المذكورة”، لكن الحقيقة التي تبدو واضحة اليوم هي أن المعهد لم يكن يعرف مكان الحجرة، وبالتالي فإن خبراءه لم يعاينوها ولم يصلوا إلى مكان تواجدها، وأن حكمهم عليها كان فقط من خلال الصور الفايسبوكية التي كان يتداولها رواد فضاءات التواصل الإجتماعي. فهناك فرق كبير بين أن تقول: “لم تكن عندي معلومات حول الحجرة” و”لم يسبق لي أن عاينت تلك الحجرة أصلا”. بلاغات المعهد ليست تنويرية بل تعتيمية.

#الملاحظة_الثانية مثيرة أيضا لسببين: السبب الأول هو أن معرفة مكان النقيشة تأخر لمدة 3 أشهر تقريبا. منذ الإعلان عن اكتشافها إلى اليوم الذي قرر “مكتشفها المفترض” أن يسمح لخبراء المعهد أن يعاينوها. هذا يعني أن المعهد لم يفتح تحقيقا ،بين شهر فبراير وشهر أبريل ولم يبذل أي مجهود خاص لتحديد مكان النقيشة إلا بعد أن تفضل “مكتشفها” المفترض بإتاحتها بعد أن سألته شخصيا إن كان قد سلمها للمعهد. لذلك فإن العبارة الواردة في بلاغ المعهد الأخير والتي مفادها أن “السيد ابو القاسم الشبري مدير مركز التراث المغربي ألبرتغالي […] لعب دورا مهما في الوصول الى مكان الحجرة” عبارة في نفس الوقت:

هي “غامضة” لأنها لا تحدد طبيعة الدور” الذي قام به السيد “أبو القاسم الشبري :

(هل تكاتب مع المكتشف المفترض كما فعلت؟ وهل فعل ذلك قبل أن أسائل “المكتشف” المفترض ما إذا كان قد سلم الصخرة للمعهد أم بعد ذلك ؟ وهل قام بذلك في إطار تحريات المعهد أم بشكل فردي خاص، مما يعني أن المعهد لم يكن يقوم بأي تحريات كما زعم في بلاغه الأول؟ الإجابة عن هاته الأسئلة حاسمة في معرفة ما إذا كان دور المعهد “تنويريا” كما يدعي أم تعتيميا.

وهي “ملتبسة” لأن عبارة “االحجرة المذكورة وجدت بإقليم سطات وليس بمنطقة الولجة سيدي عابد” التي استعملها بلاغ أبريل قد تفهم بطرق مختلفة يدعونا اختلافها إلى الإرتياب في الأمر: فإذا تأملت مليا في الصور التي نشرت للصخرة (الصورة 5) ستلاحظ أن مدفونة بشكل مصطنع في مكان لا تحيط به نباتات كما في صور شهر فبراير (الصورة 4) ، وأن الصور الأخيرة ملتقطة بالأبيض والأسود مما يعتم على طبيعة التربة ويصعب عملية مقارنتها مع طبيعة التربة في الصور الأولى؟ إذا أضفنا إلى هذا أن “المكتشف” المفترض ادعى في تصريحه الشخصي لي أن الإكتشاف كان فقط “اليوم” (أي يوم الخميس 27 أبريل)، فهذا يثير الشك بالفعل في المكان الأصلي للصخرة: هل اكتشفت في الولجة ثم نقلها مكتشفها نحو سطات بعد ذلك؟ هل تم اكتشافها في سطات وتعمد مكتشفها إخفاء مكانها الحقيقي لسبب غير معروف؟ هل “نُصح” المكتشف الإفتراضي بالتستر على مكان وزمان اكتشاف النقيشة لأسباب غير معروفة؟ …

ومما يزيد في دواعي الإرتياب أن الصخرة لا تظهر مدفونة إلا في صورة واحدة تختلف فيها أرضية الدفن التي لا نباتات فيها عن أرضية صور فبراير التي فيها نباتات، ولا تظهر في صور أخرى إلا منزوعة من مكان دفنها الأصلي تبدو عليها آثار الضرب العنيف خصوص من الجهة اليسرى، مما يعني أنها انتزعت من مكانها لا من طرف أركيولوجي مختص بل من طرف إنسان عامي لا يحترف الإستغوار الأركيولوجي … وإذا كان من انتزعها من مكانها الأصلي إنسان عامي، حريص على التشويش على المعلومات لأسباب غير معروفة، وإذا كان أهل المعهد لم يعاينوا الصخرة إلا بعد انتزاعها، فكيف تحققوا بأن الحجرة هي من سطات وليس من عبدة ــ دكالة أو العكس؟ ولماذا لم يوضح المعهد في بلاغة ما إذا كان خبراؤه هم الذين انتزعوا الصخرة وليس “مكتشفها” الإفتراضي؟ عدم توضيح هاته الأمور الحاسمة لا يدل على أي دور “تنويري” للمعهد، بل يجعلنا نرتاب في ميله إلى التعتيم الشديد على المعلومة.

#الملاحظة_الثالثة مثيرة لسبب مهم، وهو أن أحد خبراء المعهد سبق له أن صرح بأن الحجرة هي “شاهد قبر” من النوع الذي يوجد له مثيل في السياق الأركيولوجي الكبير للصخرة، لكن البلاغ لم يذكر لنا ما إذا بذل جهدا خاصا في اكتشاف “هذا القبر” الذي افترض خبير المعهد وجوده. فإذا كانت هذه الصخرة شاهد قبر، فإن خبراء المعهد كانوا سيكتشفون تحته أو إلى جواره رفات عظام، أو آثار بناء القبر، أو أدوات جنائزية ترافق عملية الدفن، أو أي شيء يدل على جنائزية السياق، فهذا مما لا يصعب اكتشافه في آثار القبور عادة. لكن إذا لم يجد أهل المعهد أي آثار لسياق جنائزي، فكان عليهم أن يعترفوا بذلك في بلاغهم “تنويرا للرأي العام” وإعلانا عن عدم دقتهم في تشخيص الصخرة بصفتها “شاهدا قبريا”.

أما بعد،

فواضح أن دعاوي المعهد حول الصخرة المعنية تتأرجح الآن بين :
#دعاوٍ يستطيع المعهد أن يثبت خطأها، كدعواه السابقة التي مقتضاها أن الصخر “شاهد على قبر”، فهي دعوى كاذبة بقدر ما لا يستطيع المعهد تأكيد وجود آثار قبر في مكان استغوره وعاينه،

دعاوٍ يستطيع المعهد أن يبرهن عليها ولم يفعل، كدعواه بأن نص النقيشة يستحيل تشفيره، وهي دعوى كاذبة بقدر ما لا يستطيع المعهد وأهله أن يكذبوا تشفيري للنص (/ئيل ن ئيشيل ن ؤسّدام/ “ورق الجبن المُصفّى”)،

دعاوٍ تثير الكثير من الريبة في المكان الأصلي للنقيشة وأسباب التعتيم على الأمر، فهي دعاو غامضة وملتبسة بقدر ما لا يستطيع المعهد تفسير الإختلاف البين في شكل دفن الصخرة وأرضيتها بين صور فبراير وصور أبريل.

دعوة لمناظرة علنية

لهذا، فهأنذا، عبد ربه الفقير إلى علم العليم الخبير، عبدالله الحلوي، أدعو أهل المعهد الوطني للأركيولوجيا والتراث إلى مناظرة علنية يكون موضوعها الجامع “هل هو شاهد على “جُبْن” أم شاهد على قبر؟” نتناظر فيها عما إذا كان نص النقيشة ذا معنى باللغة الأمازيغية واضح، وعما إذا كان النص قابلا للتشفير، وعما إذا كان تشفير النقائش التيفيناغية القديمة ممكنا؟ فهذه الأسئلة هي جوهر الخلاف وأصله … أما مكان اكتشاف النقيشة فهو موضوع ثانوي لا يكشف لنا سوى عن ميل غريب عند أهل المعهد للتعتيم، ونزوع مريب عندهم للإستهانة بنقائش تيفيناغ … لله وحده المشتكى من هواننا على القوم.

اقرأ أيضا

الإحصاء العام: استمرار التلاعب بالمعطيات حول الأمازيغية

أكد التجمع العالمي الأمازيغي، أن أرقام المندوبية تفتقر إلى الأسس العلمية، ولا تعكس الخريطة اللغوية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *