نكاد لا نسمع مصطلح الأمازيغ في أي مكان من العالم إلا ويحيلنا في جوهره إلى القضية القديمة المتجددة “الهوية الأمازيغية” وكثيرا ما بدأنا نسمع في تونس دوي الأصوات الصارخة المطالبة بإعادة إحياء الثقافة الأمازيغية خاصة خلال السنوات الأخيرة في إطار توسيع هامش الحريات والتعددية الثقافية والإنتماء الحضاري بعد الثورات المغاربية.
أما في الجانب المظلم من القضية نجد التهميش المتعمد للهوية الأمازيغية في تونس كنتاج لممارسات السياسات المتعاقبة التي ساهمت في بروز أصوات قامعة لكل من يدافع بشراسة عن الهوية بكل مكوناتها اللّغوية والثقافية والتاريخية بتعلة الحفاظ على وحدة الأوطان وعدم تفكيك النسيج المجتمعي والحال أن كل سكان شمال إفريقيا الأصليين هم أمازيغ منذ 2970 عاما حسب التقويم الأمازيغي الرسمي، وحسب البعض من علماء الآثار الأجانب فإن الحضارة الأمازيغية ضاربة منذ القدم في تاريخ البشرية وإعتبروها مهدا للحضارات، وذلك بعد نشرهم لبحوث ودراسات تفيد بأنه قد تم العثور على حفريات أمازيغية بشمال إفريقيا تعود إلى 20000 سنة.
نشطاء الحركة الأمازيغية في تونس إستطاعوا فرض منصة لهم داخل المجتمع المدني سعيا منهم لإيصال رسائل حملتها أجيال متتالية حالمة بالوحدة الأمازيغية للقارة الإفريقية وإصرارا منهم للتعبير عن مواقفهم في إرساء قيم الهوية الأم من خلال بعث العديد من الجمعيات الناشطة في هذا المجال والتي ساهمت في إثراء الحراك الأمازيغي في البلاد.
“إنبتات الشباب وغياب وعيه بقيمة الهوية الأمازيغية”…
السيد محمد خلف الله عضو جمعية تامونت للثقافة الأمازيغية وأحد نشطاء الحراك الأمازيغي في تونس قدم شهادته لجريدة “الوسط نيوز” حول هذا الموضوع.
حدثنا السيد خلف الله عن صمود الحضارة الأمازيغية أمام المنظومات الفاشلة التي تعمدت تهميش البرامج التعليمية المرتبطة بتاريخ الحضارة متسببة في غياب تام للوعي بقيمة الهوية وإنبتات لدى الشباب، مشيرا إلى أن السياسات المتعاقبة إعتمدت أساليب مختلفة في تزييفها للحقائق وطمسها لتاريخ الأمازيغ التي أفرزت بدورها أغلبية مستلبة حضاريا وأقلية واعية بقيمة تاريخها، في حين أن مجلة ناشيونال جيوغرافيك العالمية أصدرت مؤخرا دراسة مفادها أن نسبة 96% من سكان شمال إفريقيا حاملين لجينات أمازيغية مقابل 4% نسبة السكان الحاملين لجينات عربية.
في هذا الإطار، أكد لنا السيد محمد خلف الله أن تاريخ الحضارة الأمازيغية حافل بالإنتصارات والإنجازات التي تستشهد بها الدول العظمى معتمدة على دراسات حول العديد من الشخصيات الأمازيغية التاريخية مثل شخصية القائد العسكري حنبعل الذي تدرس مناهجه وإستراتيجياته الحربية في أكبر الجامعات العسكرية في العالم كمثال يحتذى به في قيادة أكبر معركة على مر التاريخ بين القرطاجيين والرومان.
ولم يفوت الفرصة حتى يحدثنا عن أعظم شخصية نسائية أمازيغية على مر التاريخ “الملكة تيهيا” التي قادت عدة حملات ومعارك ضد الرومان والأعراب والبيزنطيين في سبيل إستعادة الأراضي الأمازيغية التي تم الإستيلاء عليها في أواخر القرن السادس ميلادي وإستعادت في النهاية معظم أراضي مملكتها بعد أن هزمت الرومان هزيمة شنيعة وتمكنت من توحيد أهم القبائل الأمازيغية حولها خلال زحف جيوش الأعراب.
كما تطرق إلى شخصية القائد الأمازيغي يوغرثن (يوغرطة) حاكم مملكة نوميديا سنة 113 قبل الميلاد الذي عرض روما للبيع والقائد ماسنسن (ماسينيسا) الذي واجه الرومان بالمقولة الشهيرة “إن إفريقيا للأفارقة”، كما أنجب الأمازيغ عباس بن فرناس الفيزيائي وعالم الرياضيات الذي عرف بمحاولاته الجريئة للطيران قبل 1000 عام، أيضا لنا مثال في القديس أوغسطينوس الفيلسوف البارز وعالم اللّاهوت الذي ترك أثره في التاريخ المسيحي والعديد من الشخصيات الأخرى المؤثرة في الحضارة الأمازيغية التي لم يطلع عليها شباب اليوم.
وأضاف أن الحضارة الأمازيغية باقية فينا ببقاء العادات والممارسات اليومية المتجسدة في المأكل والملبس والمسكن وذكر لنا على سبيل المثال الأكلة المغاربية الشهيرة “الكسكسي” التي تعود أصولها إلى أجدادنا الأمازيغ، كما تطرق إلى لباسنا التقليدي من “جبة” و”ملية” ومصوغ أمازيغي وما يمتاز به المغرب الكبير من ثراء في موروثنا التاريخي، أما بخصوص المعمار الأمازيغي فقد ذكر لنا أمثلة لعدة مدن تونسية لا تزال صامدة منذ إنشائها كمدينة الزريبة العليا في زغوان ومدينة كسرى في سليانة ومدينة تكرونة في الساحل التونسي، إلى جانب بقاء عدة مدن أخرى في الجنوب التونسي حاملة للطابع والعادات الأمازيغية ولا يزال سكانها ناطقون باللّغة الأمازيغية مثل مدينة تمزرط وتوجان وتوجوت وزراوة والدويرات وأشار إلى أن الأمازيغ هم أول من إستعملوا التجريد من خلال رموز المنسوجات والأوشمة وفي حروف التيفيناغ.
“الصحوة الهواتية”…
“أميمة خمومة” رئيسة جمعية تامورتينو للثقافة الأمازيغية وأصغر شابة باعثة لجمعية أمازيغية في تونس وشمال إفريقيا قدمت لنا من منظورها قراءة للموضوع.
أفادت الناشطة الأمازيغية أميمة في شهادتها ل“الوسط نيوز” بأن نظرة الشباب اليوم لمسألة الهوية قد تغيرت مقارنة بالماضي فأصبح الكثير منهم يشهد صحوة هواتية غير مسبوقة تتجسد في العودة إلى الأصل، فركزوا إهتمامهم على الهوية الأمازيغية بكل مكوناتها اللّغوية، الثقافية والتاريخية، وبكل أشكالها الفكرية، المعنوية والمادية.
وأضافت أنه برغم قلة وعي الشباب وضبابية الرؤية، هناك إستفاقة ملحوظة للكثير منهم خلال السنوات الأخيرة، فسلكوا طريق البحث عن مصادر ومراجع تاريخية قد يجدون فيها ملاذهم وأجوبة شافية عما يجول بخواطرهم من أسئلة عالقة حول القضية الأمازيغية.
في المقابل يعود البعض منهم بخيبة أمل أمام شح المعلومات المقدمة فيعيقه إنسداد الرؤى وسبل البحث عن تاريخه لإكتشاف هويته الأم، وهنا يكمن المشكل الحقيقي، فالعديد من المكتبات الكبرى في تونس تفتقد إلى مراجع تاريخية رسمية تتحدث عن الحضارة الأمازيغية إلى جانب ضعف الموروث التاريخي الموجود بالأرشيف الوطني، فتقتصر المسألة على إجتهادات بعض المؤرخين في تأليف بعض الكتب التاريخية التوثيقية بالتعاون مع نشطاء الحركة الأمازيغية في تونس والمغرب الكبير، ومع ذلك قد يتسبب البعض منهم في نشر معلومات خاطئة تحول دون معرفة الشاب المتعطش للحقيقة فيتحول المشكل من عدم وعي بالهوية إلى فهم خاطئ لها.
ونوهت في حديثها إلى أن كل القادة الأمازيغ الذين وهبوا حياتهم فداء للهوية هم سبب فخرها بهويتها ويكفيها شرفا أن تكون حفيدة الملكة والقائدة “تيهيا” أعظم إمرأة أمازيغية في التاريخ وهو لأمر يحفزها اليوم و يجعلها تدافع بإستماتة عن جذورها أمام كل من يجرأ على تزييف التاريخ.
وأنهت حديثها بالقول أن الإنتماء للحضارة الأمازيغية لا يعني إقصاء بقية الأعراق أو القوميات الأخرى.
سمراء مدوري
المصدر: “الوسط نيوز”