تُهمةُ الانفصال… تهمة الريف الأزلية

ذ. عبد السلام خلفي

عندما أعلنت الأغلبية الحكومية عن موقفها من الحراك باتهام أهل الريف بالانفصال والخيانة وتلقي العمولات من الخارج، لم تكن، في الحقيقة، تُعبر إلا عن مخيال سياسي موروث تشكّل عبر عقود من الشحن الإيديولوجي ضدّ مواطنين ذنبُهم الوحيد هو أن شخصاً إسمُه محمد بن عبد الكريم الخطابي ظهر فيهم وقادوا معه أعنف مقاومة ضد الاستعمار تحت راية شكلت آنذاك رمزاً للتحرير وللموت في سبيل وطن.

وإننا إذ نغوص في الطبقات السفلى لهذا الموقف الإيديولوجي المكروه الذي أعادت اليوم تكريسه هذه الأغلبية الحكومية الممقوتة ومن يمشي في ركابها، سنجد أنه نفس الموقف الذي عبّر عنه، بأشكال مختلفة، حكام 1956 وحكام 1958 وحكام 1984 ثمّ حُكام 2017؛ ففي سنة 1956 كان أول قرار للسلطة المركزية هو ادعاء هذا الموقف واتخاذه مشجباً لتهميش المنطقة واستبعاد النخب الريفية المتعلمة والمقاوٍمة من المشاركة في التدبير السياسي والاقتصادي والثقافي للوطن، وذلك إما بالادعاء تارة أن النخب الريفية المتعلمة غير صالحة لكي تتحمل قسطاً من المسؤولية لكونها تعلمت في المدارس الإسبانية ولا تتقن اللغة الفرنسية، والضرورة تقتضي، في نظرهم، تفويت المناصب لمن يتقن لغة الأم فرنسا، أي لجماعة الوطنيين الذين تعلموا على أيادي المستعمر ببعض الحواضر؛ أو بالادعاء، تارة أخرى، أن هذه النخب ومعها النخب المقاوِمة غير مضمونة الولاء وبالتالي فإن إشراكها في المسؤولية سيؤدي، لا محالة، في تصورهم، إلى منازعتهم السلطة وتفتيت لحمة الوحدة الوطنية التي لن تضمنها إلا الطبقة البورجوازية المدينية العروبية التي تدعي العروبة والإسلام وفي نفس الوقت تمكِّنُ أبناءها من لغة موليير، مديرةً ظهرها للمغرب الأمازيغي العميق وموليةً وجهتها نحو عروبة الشرق إيديولوجياً ونحو فرونكفونية ويعقوبية فرنسا سياسياً وتجارياً واقتصادياً وتقنياً؛ لقد ظل هذا التهميش أو هذا الاستبعاد يحكمهُ لعقود هاجسُ أن الريفيين غير مخلصين وأنه لا أمان لهم وهم لذلك لا يستحقون إلا أن يُهمشوا اقتصادياً وثقافياً ويُستبعدوا من أي مسؤولية ذات خطورة.

وفي سنة 1958 عندما انتفض الريفُ ضدّ السلطة المركزية بسبب الإجراءات التي اتخذتها الدولةُ باستبعادها لكل ممثلي الجماعات والقبائل واستبدالهم بموظفين إداريين متعجرفين وسلطويين لا يعرفون شيئاً عن عوائد وتقاليد وعادات القبائل الريفية، بل ولا يتقنون حتى اللغة الأمازيغية التي هي من المفروض القناة الوحيدة للتواصل مع الساكنة… ظلّت نفس الأسطوانة تتكرر… انفصاليون عرقيون منغلقون … وظلّت صحف ومنابر وسياسات الحكومات والوطنيين والأحزاب تُكرس نفس الادعاءات والاتهامات وتُقدمُ نفسها البديل الوحيد الأوحد؛ لقد كانت شعارات 1958 التي رُفعت في الحسيمة وفي هوامشها وفي الناظور وفي القبائل والمداشر والأسواق المحيطة مختزلةً كما يحكي لي والدي رحمةُ الله عليه، وهو أحد الذين شاركوا فيها : “يحيا محمد الخامس، مَشَ نخسْ ثاصْغارث نّغ”؛ ولم يكن هناك شعارٌ واحدٌ يدعو إلى الانفصال أو إلى الفتنة؛ على العكس من ذلك كان هناك وعيٌ عام بالانتماء الجماعي إلى وطن إسمُه المغرب؛ إلا أن النتيجة، للأسف، كانت ثقيلة بكل المقاييس… اتهامات بالإتنية والعنصرية والانفصال ثم قتلٌ وتعذيبٌ ونفيٌ واغتصابات واختطافات وتدمير واستيلاء على المنازل وعبث بأعراض الناس وسرقة وتهجير إلى الجبال… آلافٌ من الجنود دكوا أرض الريف وعاثوا بها فساداً…

منذ ذلك التاريخ ظل الريف ينزف ويحملُ في أغواره جرحاً عميقاً… جرحاً لن يندمل ببناء قنطرة أو مستوصف أو معمل… بل ببناء الإنسان عن طريق استعادته والاعتراف به ومحاورته والجلوس إليه والاستماع إلى مكابداته… نعم، لقد ظلّ الريفيون، جيلاً بعد جيل، يعتبرون الدولةَ ظالمة لهم وغير منصفة وغير معترفة بهم وغير مستمعة إليهم ولن يأتي منها الخيرُ أبداً؛ لقد جعلوا منها “بعبعاً” خطيراً يحسن الاحتياط منه؛ ولذلك فإنه ليس صدفة أن تصوغ الساكنةُ الريفية مثلاً أمازيغياً بليغاً يختزلُ كلّ التجربة الْمُرّة التي عاشوها: ” ثيمسّي ذ ربْحار ذ جّارف ذ رمَخزن: أكج أسن” ( النار والبحرُ ومهوى أعلى الجبل والمخزن: ابتعد عنهم”).

وأما في سنة 1984 فإن انتفاضة التلاميذ والطلبة أو ثورة “الكوميرا”، على حد تعبير إدريس البصري، لم تكن تختلف عن الانتفاضتين الأولى (1956) والثانية (1958)؛ لقد جاءت أيضاً تعبيراً عن وضع اقتصادي واجتماعي وثقافي متردٍّ؛ فخرج الناسُ إلى الشوارع، بل وامتدت احتجاجاتهم إلى العديد من القبائل والمداشر. ومرة أخرى لم يحمل الريفيون شعارات الانفصال، بل كل الشعارات التي حملوها كانت تدعو إلى رفع الحكرة الاقتصادية وإرساء أُسس العدالة الاجتماعية وإعادة الاعتبار إلى الرموز التاريخية للريف بما يضمن اندماجه في النسيج الوطني. هل تغيّرَ شيءٌ بعد ذلك؟. كل ما تغيّر هو أن الريفيين منذ ذلك التاريخ أصبحوا يحملون صفة الأوباش، وقضى العديد منهم زهرة شبابه في السجون، بل ومنهم من قضى نحبه ومنهم من هاجر فاراً ومنهم من لا تزال ندوب الجراح ظاهرةً في جسده ونفسيته. صحيح أن الكثير من المياه جرت تحت قنطرة الظلم والتهميش، وأن العديد من الريفيين آمنوا بالعهد الجديد وانخرطوا فيه بحماسة، خاصة بعد الإعلان عن مصالحة وطنية تُجبُّ ما قبلها، إلا أن مشاريع المصالحة التي تمّ الإعلان عنها لم تُنفّذ بالرغم من كونها وقّعت أمام أعلى سلطة في البلاد: الملك. فلا الطرق والقناطر بُنيت ولا المستشفى الجهوي الإقليمي وُضعت أسسه، ولا الجامعة الدولية الحاملة لاسم محمد بن عبد الكريم الخطابي شُيدت، ولا الأمازيغية دُرّست وعُمّمت ولا المصالحة مع تاريخ الريف تحقق (أين متحف محمد بن عبد الكريم، وأين رفاته؟ إلخ)؛ إنها نهاية مأساوية لشيء اسمه: مشروع الإنصاف والمصالحة.

وجاءت سنة 2017 لتُعلنها الدولةُ بشكل رسمي بلا مواربة وعلى أمواج القنوات الوطنية: “الريفيون انفصاليون وخونة ويتآمرون مع جهات أجنبية” !!! وبالرغم من أن حراك الحسيمة خرج عن بكرة أبيه إلى الشارع يندد بهذا الموقف الرسمي الخطير، بل وبالرغم من الشعارات الصّادحة التي عبّر عنها مئات الآلاف من الريفيين في شوارع الحسيمة والناظور والعروي وتروكوت وتماسينت وإمزورن وبوكيدارن وطنجة و.. بل وبالرغم من خروج مئات الآلاف من المواطنين المغاربة بالرباط وفي غيرها من المدن المغربية تندد بهذه الاتهامات، إلا أن الحكومة لم تتراجع ولم تعتذر، بل انتقلت إلى السرعة القصوى عندما بدأت في الاعتقالات وفي اتهام نُشطاء الحراك قضائياً بنفس التهم التي تحيلُ على: الانفصال وإثارة الفتنة والتخوين والتعامل مع جهات خارجية إلخ. وهي تُهم خطيرة أهونُها يؤدي إلى المشنقة.

والسؤال المطروح اليوم: لماذا هذا الإصرار على اتهام منطقة؟ لماذا الإصرار على تدبيج الملفات القضائية استناداً إلى اتهامات تنصّل منها الريفيون وخرجوا بالآلاف والملايين ليعلنوا تنديدهم ورفضهم لها؟ هل تحولت هذه الاتهامات إلى حقيقة بيولوجية خاصة بالريفيين وحدهم كما هي الحقيقة البيولوجية للون البشرة؟ هل أصبحت إرثاً ريفياً جاهزاً للاستعمال ضدّهم كي يسكتوهم إلى الأبد ؟ الكثير من أهل المخزن يستدلون على “انفصالية الريفيين” بكونهم لا يحملون العلم الوطني في مظاهراتهم واحتجاجاتهم؟ وهل يكفي أن لا يحمل المرءُ العلم الوطني كي يُتّهم بالانفصال؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم يُتهم بنفس التّهمة المئات من الآلاف من المغاربة الذين خرجوا في 20 فبراير بمختلف المدن المغربية ولم يكونوا حينذاك يحملون الراية الحمراء؟ لماذا فقط الآن يُتهم الريفيون؟ بل ولماذا لا يُتّهم الإنفصاليون الحقيقيون بالانفصال ويقال عنهم ما يُقال عن الريفيين ظلماً وكذباً؟ ألكونهم يحملون راية محمد بن عبد الكريم الخطابي؟ وهل هي سُبّة أن يحمل هذه الراية حفدة عبد الكريم؟ أليست جزءاً من تاريخنا الوطني؟ لماذا يُراد لنا دائماً أن نتنكّر لرموزنا وتواريخنا وانتماءاتنا ولغاتنا وثقافاتنا حتى يرضى عنّا أصحابُ الثقافة الانصهارية القاتلة واللغة الموحّدة والعرق الذي جاء من اليمن؟ ألسنا وحدويين بجميع مكوناتنا الثقافية واللغوية والعرقية؟ ألا يمكن أن أكون مغربياً بكل التعدد الذي أحملُه معي منذ ما قبل 300000 سنة؛ لماذا إغلاق الأبواب على الريفيين داخل هويتكم أنتم وحدكم، وداخل وِحْدَتِكم أنتم وحدَكم، وداخل لغتكم أنتُم وحدكم، وداخل رموزكم أنتُم وحدكم وداخل تاريخكم أنتُم وحدكم؟ أليست لهذا الريف هويته الخاصة التي يتميز بها والتي تشكل مكوناً أساسياً من هذه الوحدة الوطنية التي تتبجحون بها؟ لقد أجاب ناصر الزفزافي القاضي عندما سأله : لماذا لم تكن تحمل الراية المغربية؟ فأجابه: “الراية في القلب”.

نعم الراية في القلب. لكن ليست تلك الراية التي في أذهانكم. إن راية المغاربة الحمراء التي تتوسطها نجمة هي راية الاعتراف بكل مكونات الوطن الثقافية واللغوية والأجناسية… هي الراية التي يستظل بها المواطنون في دفاع الظلم عنهم… هي راية العدالة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية… هكذا فهمنا نحن القيم التي تتضمنها هذه الراية… ولذلك فنحن لم نرَ فيها أبداً راية التوحيد القهري كما ترون… ولا رأينا فيها راية الانصهار القسري غير المعترفة بتاريخ البلد كما تفعلون… ولا رأينا فيها راية السلطة المخزنية المفروضة بعنف أجهزة الدولة كما تدعون إلى ذلك … إنها راية الشعب… راية الأرض… راية المغرب المتعدد بلغاته وثقافته وراياته… إنها راية العدل والمساواة بين جميع أبناء ومناطق الوطن..

فهل لأننا نومن بكل هذه القيم… تتهموننا بالانفصال والخيانة والعنصرية؟ ….

شاهد أيضاً

الجزائر والصحراء المغربية

خصصت مجموعة “لوماتان” أشغال الدورة السابعة لـ “منتدى المغرب اليوم”، التي نظمتها يوم الخامس من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *