ما يجب أن نعرفه، هو أن الصراع الهوياتي مرتبط ارتباطا قويا بمقاومة المستعمر.. في الوقت الذي كان أجدادنا في الريف والأطلس والصحراء يقاومون، كان هناك من يتفاوض، لتوضع مفاتيح التحكم و “القوة” بين يديه، لتسييد نظام أحادي مركزي يعقوبي ينبني على إقصاء “البربري/المتمرد”، ووضعه في خانة الفوضى و “السيبة”، مقابل صورة “العربي” التي تم طرزها ليبدو واعيا رزينا مهادنا ومسالما.
ولعل ظهور الدراسات السوسيولوجية والأنتربولوجية الكولونيالية في المغرب، لم تأت جراء احتدام الصراع بين البروليتاريا والبورجوازية كما هو الشأن في أوربا بعد الثورة الصناعية، وإنما كانت دراسات وصفية تحليلية تمهيدا لتفكيك نمط العيش والتدين وتحطيم البنى السوسيوثقافية للمجتمعات الامازيغية المقاومة، في اتجاه بسط ثقافات جديدة “مسالمة” و “مهادنة” خدمة لمساعي المستعمر.
ولعل الدراسات التي قام بها روبير مونتاني وموليراس و شارل لوكور وجاك بيرك وغيرهم… كلها دراسات غرضها الأول هو خدمة الاطماع الاستعمارية تمهيدا لبسط السيطرة على خيرات المغرب. دراسات مهدت الطريق للقوى العسكرية الاستعمارية ( الفرنسية على الخصوص) أن تتجنب الصدامات المباشرة التي تستنفذ منها العساكر والعتاد والعدة، واختيار الاستعمار “السلمي” الذي يقوم على التحكم في القوى الداخلية وجعلها عنصر موالاة ومحاباة.
نجح المستعمر في ذلك، بتوقيعه لعقد يقتضي منه أن يحمي “المسالمين والمهادنين” من “شغب” و”فوضى” “المتمردين” المحسوبين على مناطق السيبة والمغرب غير النافع. بغية تركيعهم وإخضاعهم لدولة المخزن المركزية، ونظامه الذي أعدت له العدة ليكون أحاديا إقصائيا.
ولعل الاستغلال البشع لظهير 16 ماي 1930، وما تلاه من قراءة اللطيف وتجييش الشعور الجمعي لترى فيه العامة ظهيرا استعماريا يضرب في عمق الاسلام والعروبة، مستغلا عنصر “البربرية”، بينما في حقيقته ظهير يدخل في إطار السياسة الاستعمارية لضبط المجتمعات الامازيغية. وهو ظهير يسعى الى تنظيم أعراف القبائل الأمازيغية، كي تتيسر سبل الهيمنة الاستعمارية على هذه القبائل. قلت أن استغلال هذا الظهير كان مدروسا، لإلصاق الأمازيغية بالمستعمر والتنصير، مقابل عنصر العربية الذي يراد له أن يكون مرادف للوطنية والاسلام. وتمت الاستعانة في هذا الشأن بمنابر المساجد والزوايا.
بحلول أواخر الخمسينات، وبداية الستينات، كان المستعمر قد وضع آخر لبنة في بناء “دولة حديثة” بأسس ورؤى أحادية جديدة، تاركا إرثه في أيدي ورثته المهادنين والمسالمين، ليستكملوا مشروع تصفية “مثيري الفوضى”.
أدت الامازيغية إذن كلغة وثقافة وهوية… ثمنا باهضا عربونا على المقاومة وتصدي القبائل الأمازيغية ل “بناة” الدولة الحديثة. فتم إقصاؤها من الإدارات والوثائق الرسمية والمدارس والجامعات… بل وتكريس خطة المستعمر في شيطنة الأمازيغية واعتبارها عنصرا رديفا للاستعمار والتنصير… وذلك بليّ عنق الظهير الاستعماري 16 ماي 1930، وجعله ظهيرا “بربريا” يستغل الامازيغية للقضاء على الاسلام. في حين -كما أشرت إلى ذلك- هو ظهير يسعى الى المزيد من إحكام قبضة المستعمر على القبائل الأمازيغية.
انتقل المغرب إذن، وبعد إحداث شرخ كبير في البنى السوسيوثقافية للمجتمعات الامازيغية، (انتقل) إلى دولة أحادية إقصائية. وعوض أن يلتجئ بعض المحسوبين على اليسار الى الدراسات السوسيولوجية والانتروبولوجية والتاريخية لخلخلة خطة المستعمر التي وضعت الأسس لدولة أحادية مركزية، كرس (اليسار) هذه الخطة، بانغماسه في العروبة وتكريسه لرؤية المستعمر والبورجوازية الفاسية، على أن الدعوة للامازيغية هي خدمة للمستعمر وسعي نحو التشتيت.
انطلاقا من أواخر الستينات وبداية السبعينات، انطلقت أولى البذور للمقاومة الثقافية الأمازيغية، والتي ستحمل مشعل المقاومة من الاجداد الذين قاوموا مقاومة عسكرية. هذه المقاومة الثقافية الجديدة جاءت كرد فعل على السياسة الاستعمارية التي أحدثت دولة مركزية أحادية مبنية على ركيزة العروبة والاسلام وإقصاء عنصر الامازيغية. وسيكون ثمن هذه المقاومة الجديدة باهضا، أداه مجموعة من المناضلين، منهم من اختطف ولم يظهر له أثر (بوجمعة الهباز)، ومنهم من اعتقل (علي صدقي أزايكو، أعضاء جمعية تيللي) ومنهم من هجّر ومنهم من تم اغتياله بطريقة من الطرق (قاضي قدور)…
الان، أصبحنا حيال وضع جديد. وضع تستمر فيه الدولة على النمط القديم، دون أن تغفل استيعاب العنصر المشاغب (الامازيغية)، ومحاولة احتوائه ليكون واجهة مزركشة لدولة في ظاهرها تعترف بالتعدد، وفي باطنها دولة لا زالت سائرة في النهج الأحادي والإقصائي الذي رسمه وخططه المستعمر.