بقلم: لحسن ملواني ـ قلعة مكونة
1 ـ تقديم عام للشعر الأمازيغي
إن الشعر الأمازيغي شعر غائِيٌّ بعيد عن التيه والتجريب اللامحدود الذي أدخل الشعر في العبثية والرمزية المغلقة، ولم ينْجُ الشعر العربي من هذه العملية التي حولت بعضه فصار ألغازا لا سطح لها ولا عمق فيها، وظل بهاته الصفة شعرا مؤسسا علـى اللامعنى، شعرا يعيش على الهذيان والتعالي عن الواقع بمرارته وحلاوته، بمتاعبه ومطامحه، مما جعل الشعراء مطوقين في أبراجهم العاجية، مفصولين عن عوالم بقية الآدميين الذين يشاركونهم في الآلام والآمال، في الأفضية والأزمنة بما تحمله من أفراح وأتراح. فالقفز على الضوابط والقضايا الاجتماعية جريا وراء التجريب، لن يدفع الإبداع الشعري سوى إلى هوة الإهمال والانعزال. إن النص الشعري في نظرنا يستنبت وجوده عبر اتصاله وتواصله بالمتلقي «وان كان أول متلقيه هو الشاعر ذاته. وبذلك لن يكتب الوجود الحقيقي لقصيدة سوى من خلال التلقي والتقبل». ومن هنا فإن التقبل دائم المثول أثناء عملية الإبداع وبعدها»1، والظواهر الإبداعية والأدبية بالخصوص لا تنشأ بالطفرة، فهي تحتاج إلى التطور عبر التفاعلات عبر الزمان والمكان وتشابك العلائق، فالأدبية – على حد قول توفيق الزيدي – ليست من القوى الغيبية، وليست من القوانين التي تستعمل بصفة آلية، وهي أخيرا ليست بالطفرة إنها تكون بالترقي والتطور وإن خفيت العوامل والعلل وتداخلت أطوار التدرج.
إن الشعر أخذ تسميته من الشعور الذي يتولد عبر التواصل مع الذات في علاقتها بالآخر. والشعر الأمازيغي شعر الحياة لأنه لا ينفصل عن التعبير عن همومها المختلفة، ولا يكتفي بذلك، وإنما يقدم الأفكار والرؤى بأسلوب من قبيل السهل الممتنع، أسلوب يحمل السلاسة المغلفة بحسن التصوير والصياغة، الأمر الذي جعله شعرا شعبيا يحمل التعبيرات المشتركة إزاء الواقع المعيش، ولعل هذه السمة المميزة لهذا الشعر مصدرها كون جل أو كل الشعر الأمازيغي شعرا يؤَلف من أجل التغني به بناء على ألحان خاصة بالآلات الموسيقية أو بدونها. فهو ليس إبداعا من قبيل النوافل والكماليات، بل إنه رافق وسيرافق الأمازيغي في استقراره وترحاله، في أعراسه وأعياده، في أفراحه وغضبه واحتجاجاته، فهو وسيلته الحميمية من أجل التعبير عن المشاعر والحاجات.
لذا نجد هذا الشعر باعتباره جوهر الأغاني والأهازيج حاضرا بامتياز في الحصاد والدرس والجلسات العائلية… فسار بذلك رفيق الكلام اليومي بكل ما يحمله التعبير والتواصل الضروري في المجتمع.
أمام هذه السمات الإيجابية المرتبطة بالشعر الأمازيغي نخشى أن يُنحرف به بادعاء التجريب بحثا عن المختلف إلى شعر تطوقه الفردانية وتحوله إلى رموز غامضة عمياء صماء لن يدرك مدلولاته حتى منتجها نفسه. «والتجريب ومنتجه الشعري لا يضني صاحبه فقط وإنما يضني القارئ معه ويكد ذهنه ويرهقه ويضعه في حيرة من أمر ما يقرأه فينصرف عنه، إلاَّ قارئا مختصا متذوقا يملك من أسلحة الثقافة وعدتها ما يُعينه على الصمود والمجاهدة من أجل الخروج بدلالة أو دلالات مناسبة لما يقرأه. ويبدو هذا شيئا مدركا حتى في أوساط ثقافية مفكرة، فالنزعة التجريبية في الفن – كما يقرر «مالكوم برادبري» و»جيمس ماكفارلن» – لا توحي بالتكلف والغموض وحسْب، وإنما توحي أيضا بالتفكك والغربة والضبابية. وكل هذا يجعل التجريب بطبيعته طريقا مبهمة تدفع إلى اتهامه بل إدانته بالتسبب في غموض الشعر وإبهامه وتعقيده» 2، والحال أن الشعر الأمازيغي حتى الآن بعيد كل البعد عن التحديث الاندفاعي والعشوائي الذي من شأنه إغراقه في الانغلاقية والتعمية والإبهام، الأمر الذي قد يسقطه في العبثية واللاجدوى.. والخشية كل الخشية أن ينزاح الشعر الأمازيغي وهو يروم التغيير والحداثة فنقفز به قفزة في الهواء، تسيء إليه وتفقده الأرضية والفضاء الزمكاني الذي يتقاطع معه وجمهور المستمعين والقراء.
ولا نعني بهذا عدم الكد والاجتهاد من أجل التطوير والتحديث الفني، وإنما نرى أن يتم ذلك بحكمة وبضوابط يفرضها السياق التداولي العام، فقد يصير التحديث انتحارا بدل أن يصير انتصارا للشعر إذا لم يُقدم في قوالب جديدة تناسب الأذواق وتتماشى مع هموم الجمهور محاولة توصيفها داعية إلى التموقف منها ضمن قالب إبداعي وجمالي إمتاعي.
إن أهمية الشعر وجدواه يقاس بمدى استجابة الجمهور له، وبذلك يؤدي وظيفة اجتماعية وإنسانية، علاوة على وظيفته الإمتاعية، ومن المبالغة ما يعتقده البعض من كون الشعر غايته المتعة والمتعة فقط في الوقت الذي نعتبر أن المتعة ذاتها ترتبط بالتعبير عما له علاقة بالهموم والآمال والأحاسيس المشتركة إزاء الواقع.
إن الفن للفن أو الفن من أجل المتعة فقط، مقولة لن تجد ما يبررها تبريرا يرسم الطريق للمبدع الذي لا ولن يبدع إلا بتصوره أن إبداعه يستهدف به قارئا ينتظره، ولن ينتظره إن لم يعبر عن المشترك من المشاعر والأحاسيس المتولدة جراء التفاعلات بين البشر كفئات في مجتمع تتقاطع فيه المصالح والمفاسد والطموحات والطروحات والعقائد. وللإشارة فالشعر الأمازيغي يتميز بصفات كثيرة تسمه بالتفرد والجماهيرية ومنها:
ـ الارتباط بالقضايا الاجتماعية والحقوقية والإنسانية بصفة عامة.
ـ الانطلاق من الواقع وما يجسده من أمور لها وقعها على النفس سعادة وشقاء.
ـ التعبير عن الوطنية والحرية والحرمان.
-النقد الاجتماعي والسياسي
ـ الموقف من المرأة سلبا وإيجابا.
ـ الحفاظ على العناصر الإيقاعية التي تدخل عنصر التطريب على النص.
ـ الاقتصار على دائرة المواضيع التي يباشرها الشاعر في علاقته مع المحيط والآخر: هموم الوطن ومعاناة الجماهير مع ردود الفعل الذاتية ( التموقفات )
ـ التجديد في المعجم على ضوء التطورات الفكرية والسوسيوثقافية..
ـ عذوبة الوصف.
ـ الإيحاء والرمزية الشفافة التي تتم عبر غلالة رقيقة لا تطبق على المراد والغاية.
ـ ….
إن مثل هذه السمات ونوع القضايا المتناولة في الشعر الأمازيغي ستظل الدعامة القوية التي ستجعل تطويره يأخذ بعين الاعتبار عنصر التقبل من قبل الجمهور العريض في الوقت الذي تحتاج الأمازيغية إلى التعبير عن قضاياها بكل الوسائل الإبداعية والأدبية المتاحة.
2 ـ قراءة موجزة لديوان “تابرات ” لإبراهيم أخياط رحمة الله عليه.
استمتعت بقراءة الديوان استمتاعا ، وجلت بين ربوعه فوقفت على تأملات صاحبه ومعاناته ورؤيته عما يجري في محيطه في الفترة التي كتب فيها قصائده (نهاية التسعينات) .. ديوان يحمل سبعة وعشرين قصيدة بعد إهداء ومقدمة لمحمد شفيق ، وجاءت عناوين القصائد كالتلي : ـ ييوس ن ـ تافوكت : ابن الشمس ـ تودرت: الحياة ، تابرات ن ـ تايري ، تيلاس ن ـ دونيت: ظلمات الدنيا ،ءامود ـ تايري:بذور الحب ، أوال ن ءومارك : كلام الحب ، ءيكيك: الرعد ، تابرات ن ـ تمازيرت : رسالة البلدة ، لمساق ن ـ تبرات :أعنية الرسالة ، لبريح: النداء ، ءاضو ن ـ تودرت: رائحة الحياة ، ءاس ءيفسان : اليوم المشرق المتفتح ، تيميتار: الشبه ، رشكت :الفرحة ، لحشوم ن ـ ءوزرو:أطفال الحجارة ، تافوكت ن لحشوم : شمس الأطفال ، تيمجيوشت :الغربة ،تادويي لعاقل :فقدان العقل ،ءامزواك : الغربة، ياغاغ ءيءيفي: ظمئنا، تامازيرت ءينو: بلدتي، تاراكت :؟؟؟،تالاليت ن ـ ءوفروخ: ميلاد طفل ،ءامكراز : الزارع،اءفكان ءاكنتور : الإنسان الخروف، ءاسمل ن ـ ءيواليون : إيضاح الكلمات؟؟؟.
ويلاحظ القارئ تقاطع هذه العناوين في تيمات كثيرة أبرزها : الحرية ، والحياة والحب والعشق ، والمعاناة ، والعطاء ، والتحدي ن والغربة ،والوطنية، والفرح والحزن …
وبهذا يواجه القارئ قصائد مفعمة بصور تنضح بأحوال ومآلات ومشاعر جياشة تحاول القصائد البوح بمواجعها وفواجعها بأسلوب من قبيل السهل الممتنع .
يقول في قصيدة” ابن الشمس”:
اضرب وتمرد ايها الظرف وأحدث الآلام في الليالي والأيام
وخلف من الانسان يتامى
وليحدث وجعك غضونا على وجه الارض
لكن سنقول لك كلاما وصدِّقنا فقط
لن نخضع لك كي تسير وتفعل ما تشاء
أبي اكتشفت أنه ابن الشمس
رسخت جذوره في السهول والجبال
فأنبت فيها الحياة ؟؟؟
وقطع البحور والأنهار بلا عدد…
القصيدة تحمل ما يعيد الثقة بالنفس ، تحمل التحدي وتحمل التأكد من تجاوز المحن بشكل ،وكأن الشاعر في لحظة تذكر ما يميز أصله من صلابة وجلد فاستعاد حزمه وعزمه علما أنه يتحدث بالمفرد عن الجماعة. فهو في قصائدها السلسة يغوص بنا لنعيش عمق قضايا المجتمع والذات ضمن صور تركيبية عبر فنية الشاعر الذي يرسم ما يراه دون تنقيح أو رتوشات. فقصائده بصياغتها المباشرة قريبة من وجدان القارئ مما يستميله فيتماهى مع أجوائها الفجائعية والرومانسية أحيانا وأجواء الغربة والتطلعات أحيانا أخرى. وهكذا تشدك القصيدة فتجبرك على تتبع ما ترسمه من صور يتولد عنها الانفعال والتوق إلى نهايات الألم أو مصير الفرحة والطموح.
الديوان مجموعة من الرسائل المفعمة بما يعتلج في أعماق الشاعر من أحاسيس ومشاعر وهموم إزاء ما يجري أمامه فيفقده التوازن النفسي ليهرع إلى قلمه معبرا عما ينغص عليه سعادة يومه ، فهمه موزع بين الكائن والآتي بين الكائن وما ينبغي أن يكون ، بين عالم يرى نقائصه وعالم يرى فيه تحقيق رغباته الإنسانية النبيلة. إنه بشعره العذب الواضح يكسب الأشياء أهمية تجعلك تلتفت إليها وكأنها جديدة تتعرف عليها و القصيدة تقدمها ضمن صورة وتركيبة إبداعية معينة.
والشاعر وإن اختلف زمن كتابة قصائده عن زمن كتابات شعراء جدد في السنوات الأخيرة يتكامل معهم من حيث ترجمة مشاعرهم ورؤاهم في قصائد تتوزع بين العشق والحزن والطموح وضمن قوالب رمزية أحيانا ومباشرة أحيانا ، لتهمس أشعارهم وتبوح بالمكنون والمبتغى .
قصيدة رسالة حب “تابرات ن تايري”
كتبت إليك يا محبوب
رسالتي إليك
كلماتها على أوراق الزهر
نابعة من الأعماق
فضية الشكل ذهبية النقط
شعاعها القمر والنجوم
قصيدة ظلمات الدنيا “تيلاس ن الدونيت”
خرجنا إليك يا دنيا
ولم أعرف في أحضانك سوى المرارة
لا قيتنا بالعصا
تكدرنا فيك يا دنيا
تعبت أقدامنا سيرا
نتلمس طريقنا وسط الطريق.
يقول في قصيدة “أمود” البذور
يا هذا القاطع
مهلا حتى أفاتحك بأخباري
كثيرة هي أخباري
(..)
فرحنا فعلا إن رحلنا
فخلفنا البذور
ستنبت حتما لتعم الفرحة
وستنشر رسالتنا
وتنزرع الحياة على الأرض
وتصل الرحمة عظامنا
قصيدة الرعد “إيكيك ”
قرعوا السماوات بالبرق
و غرسوا الجذور في الأراضي
سقطت الدموع من السماء
تزوجت بها الارض
الآن أنا مطرب.
في قصيدة ” تابرات ن تمازيرت ”
ابني الحنون لا تمكث كثيرا هناك
لا تقطع عنا أخبارك
لا تتراجع أمام الانهار
عد باكرا
مشاغلنا كثيرة كالتي مضت تحتاج إلى عمل
عد أكن لك الحارس الجسور
الرعود لن تتعبنا فحدها الأرض
(…) أنا لك ولابنك البيت والساحة.
تبيح لك القصيدة أن تتعرف على كنهها ولكنها في ذات الوقت تجعلك تعيد النظر في الصورة الظاهرة كي تكتشف أنها تحمل بشفافيتها رمزية ما ، وبهاته اللغة النقية الصافية تستمتع بقدر ما تتأمل وتفكر وتنفعل ، وبذلك يفتح أمامك عوالم بلا ضفاف تحد من سعة دلالاتها.
إن اللغة الواضحة في الشعر ليست رديفة للضحالة كما يعتقد البعض ،بل هي علامة النضج والقرب من الجمهور بعيدا عن الطلاسم الرمزية التي تستعصي حتى على الكاتب الشاعر ذاته. وشهرة أحمد مطر ومحمود درويش ونزار قباني وغيرهم دليل قاطع على ذلك.
وعنوان الديوان و عناوين قصائده كلها رسائل بعناوين مختلفة ، رسائل من شاعر يرى ما قد لا يراه الآخرون ، ومن شاعر يستطيع التعبير عما رآه ورآه الآخرون. إنها العاطفة الطافحة الثائرة الباحثة عن الانفساح والانعتاق من ربقة الهم الساري في أنساغ المجتمع والنفوس ، عاطفة متشحة بالإيحاءات والرموز التي تجعل المعنى دافئا يتغلغل في الدواخل والأعماق. وتبقى تجربة المرحوم إبراهيم تجربة تتكامل في أبعاد قضاياها وآهاتها وفرحتها مع تجارب من سبقه ومن جاء بعده .. تجربة ترسم معاناتها بصور جميلة ،تبوح بلواعجها وفق رؤية الشاعر الذي يدهشه كل شيء.
ويبدو الشاعر إبراهيم رحمة الله عليه صادق العاطفة ، وشعره نابع من حبه لوطنه جاهدا من أجل جعله أجمل وأرقى عبر قصائد نسجها بعفوية مما يجعل المضمون هو الأساس وليس النقيض ، لغة تتوزع بين الهدوء المساعد على التأمل ولغة ثائرة تجعلك تنساق لما يعبر عنه وكأنك وهو ذات واحدة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش :
+ مداخلتي في ندوة حول “الشعر الأمازيغي: هوية، جمالية، رسالة ” التي نظمتها الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي وهي تحتفل باليوم العالمي للشعر. يوم 24 مارس 2019.
1ـ مفهوم الأدبية في التراث النقدي إلى نهاية القرن الرابع – منشورات عيون الطبعة الثانية 1987. ص 10.
2-الإبهام في شع الحداثة – د. عبد الرحمان محمد القعود عالم المعرفة – مارس 2002 ص 142.