تحقيق: كمال الوسطاني
تم إنجاز هذا التحقيق، الذي يتحرى أسباب تزايد موجات الهجرة السرية من منطقة الريف نحو أوروبا خلال فترة “الحراك”، بدعم من المنظمة الدولية لدعم الإعلام (أيمس) بشراكة مع الجمعية المغربية لصحافة التحقيق (أمجي)، وبإشراف من الصحافي المتخصص في الصحافة الاستقصائية: علي أنوزلا.
قوارب الموت تنبعث من جديد
إحساس رهيب، ذاك الذي عاشه “أنير” (اسم مستعار) ورفاقه في تلك الليلة المظلمة، عندما بدأ الماء ينسل إلى قاربهم المطاطي، واختلطت مياه البحر بالوقود، فكانوا قاب قوسين من موت محقق.
“كنا ثلاثة عشر شخصا، إضافة إلى ربان القارب”، يحكي أنير قصته ولا يكاد يبين،”قمنا بتحضير كافة مستلزمات الإبحار من وقود ومحركات، قام “الباطرون” الذي كان رفقة اثنين من إخوته، بنفخ القارب المطاطي الذي كان لا يتجاوز طوله ثلاثة أمتار، بدا الأمر حينها عاديا. قمنا بشحن براميل مملوءة بالوقود داخل القارب، لكن القارب كان أضيق مما كنا نتصور، وقد بدأ بالانخفاض حتى قبل صعودنا”.
شعر أنير ورفاقه بالخوف حينها، لكنهم رغم ذلك صعدوا على متن القارب المطاطي، الذي بدا من الوهلة الأولى أنه لن يتمكن من إيصالهم للوجهة المنشودة، “لم نكن قد ابتعدنا كثيرا عن الساحل حين أحسسنا بالقارب يغرق بنا، وبدأ الماء يدخل علينا من كل صوب، فانتبهنا حينها إلى أن القارب كان مثقوبا”.
أنير الذي كان هاربا من القمع، الذي طال أغلب نشطاء “حراك الريف”، أصبح الآن، هو ورفاقه، في ورطة، فقد أوصاهم بعض حراس السواحل، الذين قدموا لهم النصح وساعدوهم على الهرب، بألا يرجعوا إلى سواحل الريف مهما كلفهم الأمر.
“نصحنا الحرس باصطحاب راية الهوية الأمازيغية أو راية “جمهورية الريف” معنا، للاستدلال بها، أمام خفر السواحل الإسباني، على هروبنا من موجة الاعتقالات التي تطال نشطاء الحراك الشعبي بالريف، وشجعونا على المغادرة”، أحسسنا بحق، يضيف أنير أن ذلك “المخازني” الأمازيغي كان يرغب في مساعدتنا، و”أخبرنا أن كثيرا من النشطاء مروا من هنا، وهم ينعمون الآن باللجوء في إسبانيا”.
تنازع، أنير ورفاقه، الأمر بينهم، بعدما تبين لهم أن “القارب” غارق لا محالة، وقد علموا من حرس السواحل أن طريق العودة لن تكون أأمن من طريق الخروج، وتحول النزاع إلى عراك داخل القارب وسط البحر في ظلام دامس، فقد كانت الساعة تشير إلى الثانية فجرا، عندما أبحر النشطاء في شواطئ “تمسمان”.
“لقد أصابنا الوقود، بعد اختلاطه بمياه البحر، بحروق بليغة على مستوى أرجلنا، وكدنا أن نودي بحياتنا، لولا تدخل رجل حكيم من النشطاء، كان هو الأكبر سنا بيننا، فأمر السائق بتوجيه القارب نحو أقرب شاطئ، حيث وجدنا الدرك الملكي ومعهم “الشيوخ” و”المقدمين”، الذين “قاموا باعتقالنا على الفور، واقتيادنا إلى المخفر”، يروي أنير، بنبرة يغلب عليها الحزن والأسى.
لم يذكر أنير، الملقب بـ”الزفزافي” من طرف رجال الدرك، أن أحدا من رفاقه تعرض للتعذيب أثناء الاستماع لهم، صبيحة اليوم الموالي داخل المخفر، باستثناء تهديدات مستمرة بالاعتقال على خلفية نشاطهم بالحراك الشعبي، في حالة عدم كشفهم عن هوية “الباطرون”، صاحب ذلك القارب المطاطي الذي كاد أن يودي بحياتهم.
يقول أنير أنه لم يعترف بمن يكون مدبر الهجرة، بالرغم من كونه أول من تم تقديمه للتحقيق، لكن رفاقه فعلوا، بعدما قام الدرك بإقناعهم أن القارب كان مثقوبا قبل الإقلاع، وأن “الباطرون” غشهم وعرض حياتهم للخطر. أدلى النشطاء بأقوالهم ووقعوا محاضرهم ومعهم أنير، الذي قضى ليلة إضافية أخرى تحت الحراسة النظرية، قبل أن يطلق سراحه.
يتحسر أنير على معتقلي حراك الريف “الذين يعانون في السجون المغربية”، وهو يروي قصته بعد مرور حوالي ستة أشهر على الواقعة، وقد عاد اليوم إلى عمله المعتاد، بعد أن هدأ الحراك في جميع مناطق الريف، باستثناء خرجات نادرة، “في بعض المناطق التي لا زالت صامدة”.
من يساعد النشطاء على الهجرة؟
سيفاو، 28 سنة، صاحب خبرة كبيرة في “لحريك” أو الهجرة السرية، فقد هاجر لأول مرة إلى إسبانيا، عندما كان في العشرين من عمره، لكن السلطات الإسبانية ضبطته وقامت بترحيله إلى المغرب، أعاد الكرة أربع مرات لكنه لم يفلح ولو مرة في تحقيق حلمه والاستقرار بهولندا، البلد الذي طالما كان يرغب في الوصول إليه.
يعترف سيفاو، الفلاح الصغير بجماعة “تزاغين” سواحل إقليم الدريوش، أنه قام إبان الهجرات الموالية لقمع حراك الريف، بمساعدة مجموعة من الشباب الراغبين في الهجرة إلى أوروبا، وتأطيرهم، وتنبيههم للمخاطر التي قد تعترض طريقهم.
يقول سيفاو، الذي عاد إلى الريف بعد قضائه أزيد من خمس سنوات تاجرا للحلويات بمدينة فاس، “عندما تقرر مجموعة من الشباب، مكونة من 12إلى 14 شخصا، الهجرة نحو أوروبا، يقومون بجمع قدر من المال، يتراوح بين أربعة آلاف وخمسة آلاف درهم للفرد، فيشترون قاربا مطاطيا إضافة إلى محركين اثنين، يتم الاحتفاظ بأحدهما لحالة الطوارئ”.
“تنتشر نقاط بيع القوارب والمحركات في أسواق سوداء نواحي الناظور، حيث يبلغ الحد الأدنى للمحرك بين 7 آلاف و10 آلاف درهم، بينما يبلغ ثمن القارب المطاطي حوالي 20 ألف درهم، ويتوزع الباقي على مصاريف الوقود والإصلاحات والبوصلة، ومن المهاجرين من يقوم بشراء البذل البلاستيكية” يضيف الشاب الذي شاخت ملامحه بفعل نوائب الزمن.
وفي إطار الاستعداد للهجرة، يقضي ثلاثة أو أربعة أشخاص عدة أيام في مراقبة المكان المحدد لانطلاق قاربهم، حيث يقومون بمراقبة أحوال الطقس، وكذا مراقبة وجود عناصر البحرية المغربية، وعندما تكون كل الظروف ملائمة للإقلاع ينطلق القارب المطاطي ليلا لتجنب سقوطه في أيدي حراس السواحل.
يستغرق القارب المطاطي في الحالات العادية ما بين 10 إلى 15 ساعة قبل الوصول إلى السواحل الجنوبية لإسبانيا، إلا أن أغلب المهاجرين إبان “الحراك” كانوا يتصلون بخفر السواحل الإسبانية، طلبا للنجدة، بمجرد وصولهم إلى مياهها الإقليمية، ويصرحون بعد ذلك بأسباب هجرتهم ويطلبون اللجوء السياسي.
وتشير مصادر إعلامية محلية بالناظور، إلى أنه تم توقيف عدد من الحراس المكلفين بمراقبة السواحل “مخازنية” برفقة وسطاء للهجرة السرية، وذلك بعدما تم ضبطهم في حالة تلبس بتسلم مبالغ مالية عن طريق الرشوة مقابل غضهم الطرف عن عملية تهجير عبر القوارب.
مليلية.. وجهة القرب البعيدة؟
قطع يوبا، ذي الثلاثة والعشرين ربيعا، ما يزيد عن 40 كيلومترا مشيا على الأقدام، دون أن تكون له وجهة محددة؛ ما كان يشغل باله في تلك اللحظة هو الهروب من قبضة الشرطة المغربية، بعدما علم بمحاصرتها لمنزله بإحدى القرى النائية بالريف.
لم يجد يوبا، وهو الناشط البارز في “حراك الريف”، على مستوى المنطقة التي كان يقطن بها، ملجأ سوى مدينة مليلية، هذه الأخيرة التي تتيح لقاطني إقليمي الناظور والدريوش الولوج إليها دون تأشيرة، بينما يحرم باقي المغاربة من دخول ترابها إلا بتأشيرة سفر.
اليوم، بعدما قضى بعض المعتقلين على خلفية حراك الريف “عقوبتهم”، وبينما لا يزال بعض القادة ينتظرون مصيرهم في سجن “عكاشة” بالدار البيضاء، يعيش يوبا في مركز لإيواء اللاجئين بمدينة مليلية، بعدما وضع ملف لجوئه لدى السلطات الإسبانية.
يعيش بالمركز التابع للمفوضية الأوروبية للاجئين، خمسة وثمانون لاجئا قدموا من مختلف مناطق الريف، منهم من دخلوا بطريقة قانونية ممن ينتمون لإقليمي الناظور والدريوش، وهناك من وصل إلى مليلية بحرا عن طريق قوارب الهجرة السرية، نظرا لعدم تمكين ساكنة إقليم الحسيمة من دخول مدينة مليلية دون الحصول على تأشيرة.
يوفر المركز للاجئين ثلاث وجبات غذائية في اليوم، بالإضافة إلى حمام وأسرة نوم، وحتى الاستجابة لطلباتهم وتسوية وضعيتهم القانونية، يمنع على نزلاء المركز مزاولة أي نشاط سياسي أو نقابي مهما كانت طبيعته، كما أن اللاجئين هناك، لا يزالون ملاحقين من طرف الشرطة المغربية، أو على الأقل، هكذا يعتقدون.
كان يوبا على وشك إنهاء دراسته بالجامعة، والحصول على الإجازة، حينما باغته الحراك، وانخرط فيه بعفوية، كما فعل عدد من الشباب بالمنطقة، وقد أصبح اليوم يفكر جادا في الهجرة إلى إحدى دول أوروبا الشمالية، بعدما وصل إلى نقطة اللاعودة.
وبخلاف لاجئي مليلية، يتمتع اللاجؤون الريفيون في أوروبا بحرية أكبر، حسب تصريح لأحد رفاق الزفزافي ممن تمكنوا من الهجرة نحو أوروبا، للتلفزة الإلكترونية “ريفيزيون”، أثناء مشاركته في إحدى المسيرات الأوروبية التضامنية مع حراك الريف.
الهجرة في تزايد
زادت وتيرة الهجرة من المغرب نحو إسبانيا، حسب ما تناقلته تقارير دولية، وذهب أغلبها في اتجاه ربط ذلك بقمع الاحتجاجات التي شهدتها منطقة الريف منذ مقتل بائع السمك محسن فكري نهاية أكتوبر 2016.
وسجل تقرير للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، صدر في نونبر الماضي، أن المغرب أصبح ثاني بلد، بعد سوريا، يقبل أبناؤه على الهجرة السرية إلى أوروبا، وذلك بنسبة 9 في المائة من مجموع المهاجرين الذين عبروا البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا ما بين شهري يوليوز وشتنبر 2017.
وسجل التقرير أن إسبانيا شهدت ارتفاعاً بنسبة 90% في عدد الواصلين عبر البر والبحر خلال الفصل الثالث من عام 2017 مقارنةً بالفترة نفسها من عام 2016، وكان غالبية هؤلاء الواصلين البالغ عددهم 7,700 شخص من المغرب وكوت ديفوار وغينيا.
فيما سجل تراجع عدد رحلات العبور من ليبيا إلى إيطاليا، حيث بلغ عدد الواصلين إلى إيطاليا عن طريق البحر بين يوليوز وسبتمبر 21,700 شخص وهو العدد الأدنى في الأعوام الأربعة الأخيرة.
وذكر التقرير أن المهاجرين المغاربة “يستخدمون كل الوسائل للوصول إلى إسبانيا (بحرا) من “جيت سكي” وألواح ركمجة، وزوارق مطاطية، ومراكب خشبية تنقل أحيانا أكثر من ستين شخص”، وفي التقرير ذاته يحتل المغاربة المرتبة الأولى بين المهاجرين الوافدين إلى إسبانيا في يوليوز الماضي، الشهر الذي بلغ فيه قمع حراك الريف حده الأقصى.
وتفيد آخر أرقام نشرتها منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة أنه من فاتح يناير إلى 21 دجنبر 2017، وصل 21 ألفا و468 شخصا إلى المياه أو السواحل الإسبانية مجازفين بحياتهم في مراكب هشة بعد دفع أموال لمهربين، أي أكثر بحوالي ثلاث مرات من 6046، الرقم الذي سجل العام الماضي، كما أن عدد الذين لقوا مصرعهم خلال سعيهم للوصول إلى إسبانيا ارتفع إلى أكثر من 223 مهاجرا سنة 2017.
واللافت في الهجرة المغربية هو تقديم المئات من الشباب المغربي طلب اللجوء السياسي تفاديا للطرد، مستندين في ذلك إلى أزمة حراك الريف في تبرير طلباتهم.
وحسب ما صرح به وزير الداخلية الإسباني، خوان إغناثيوثويدو، أمام البرلمان الإسباني، سجلت مدينة مليلية ارتفاعا في عدد المهاجرين غير النظاميين الذين طلبوا اللجوء، حيث بلغ عددهم 864 طلب لجوء إلى حدود شهر يونيو من العام المنصرم.
لمحة عن تايخ الهجرة بالريف
يرى أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة مكناس، ميمون أزيزا، أن مسلسل هجرة الريفيين إلى أوروبا، الذي انطلق في بداية الستينات، لم يكن وليد الصدفة، “وإنما كان امتدادا لتيارات هجروية سابقة إلى مناطق مغربية أخرى أكثر خصوبة، من أجل الاشتغال في القطاع الفلاحي، فعلى سبيل المثال في القرن الثامن عشر هاجر الريفيون إلى طنجة والعرائش، تحت قيادة القائد أحمد الريفي، للمشاركة إلى جانب السلطان مولاي إسماعيل في محاولة تحرير السواحل المغربية، كما استوطنت مجموعات أخرى منطقة مولاي إدريس زرهون، وفاس”.
وابتداء من منتصف القرن التاسع عشر، يضيف الأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في مقال له بعنوان “قرن من الهجرة في الريف”، انطلقت الهجرة الموسمية إلى الجارة الجزائر للاشتغال عند المعمرين الفرنسيين. وقد وصل عدد المهاجرين في أواخر القرن التاسع عشر ما يزيد عن 20.000 عامل. وسيرتفع هذا العدد تدريجيا، ليصل إلى حوالي 80.000 خلال سنوات الجفاف والمجاعات التي اجتاحت الريف في الأربعينات من القرن الماضي. هذا إضافة إلى مشاركة أزيد من 70.000 من الجنود الريفيين في الحرب الأهلية الإسبانية بجانب الجنرال فرانكو فيما ببن 1936 و1939.
ووفقا للباحث في تاريخ الريف المعاصر، فقد عرفت مساهمة الريف في الهجرة المغربية إلى أوربا، تطورا ملحوظا منذ انطلاق هذا المسلسل في بداية الستينات، “ففي عام 1966 بلغ عدد المغاربة بأوربا 85.000، وأكثر من 29.000 منهم ينتمون إلى إقليمي الناظور والحيسمة، وهو ما يمثل %35 في المائة من العدد الإجمالي للمهاجرين. وفي عام 1971 قدرت السلطات المحلية عدد المهاجرين من إقليم الناظور بحوالي 32.000 مهاجرا، ثم ارتفع عددهم ليصل 40.000 عام 1974 ، و158.800 سنة 1992، مقابل 63.712 بالحسيمة. وهو ما يمثل 20% و 14% على التوالي من مجموع سكان الإقليمين”.
في خضم هذه الظروف، يرى أزيزا أن الريف عرف أكبر عملية لتحويل الفائض الديموغرافي خارج الحدود الوطنية في تاريخ القرن الماضي، “علما بأن مساهمة الوحدات الترابية الريفية في تغذية تيارات الهجرة تبقى جد متباينة. لكن اللافت للانتباه هو أنه إذا كان حجم الجالية المغربية بأوروبا سجل تزايدا مهما في أغلب دول الاتحاد الأوروبي، بدرجات متفاوتة طبعا، فإن أكبر نسبة للتزايد تلاحظ في إسبانيا، فقد صار هذا البلد الذي كان إلى عهد قريب مصدرا للهجرة، القبلة الرئيسية لغالبية مهاجري أقاليم الشمال عموما، وللريفيين على وجه الخصوص، انطلاقا من أواسط الثمانينيات”، ويعود ذلك حسب عدد من الدارسين إلى الأحداث التي عرفتها منطقة الريف خلال هذه المرحلة.