منذ وصول فلادمير بوتين إلى سدة الحكم في روسيا، وهو يطمح إلى استرجاع أمجاد الإتحاد السوفياتي، حيث راكم الرجل خبرة كافية أثناء عمله في إدارة “بوريس التسين”، كما استفاد من الارتفاع الكبير في أسعار النفط منذ سنة 2005، حين كانت بلاده تنتج ما يناهز 10 مليون برميل يوميا، وجدد خططه العسكرية، وانتشل الجيش من الإهمال والتخلف الذي أصابه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، نفس الأمر بالنسبة لصناعة التسلح التي وضع لها خطط جديدة للنهوض بها، واسترجاع مكانة روسيا في السوق الدولية.
هذه التحولات عززتها سياسة الانفتاح على الغرب، وفق مقاربة جديدة تنبني على تعميق العلاقات الاقتصادية مع أوروبا الغربية، خاصة مع العملاق الالماني، و كان بوتين يسعى إلى تقزيم دور الولايات المتحدة في المنطقة، حيث قال إن “روسيا ضمن أوروبا، في حين أن الولايات المتحدة الأمريكية خارجها”. رهان انبنى أساسا على تحول اقتصاد أوربا الغربية إلى الشرق عوض المحيط الأطلسي وحل حلف الناتو بعد أن انتفت أسباب وجوده.
تنبوءات فلادمير بوتين عصفت بها أزمة أوكرانيا من جهة و الدعم الروسي لنظام بشار الأسد لما يفوق أربع سنوات؛ فالأزمة الأوكرانية و إستلاء روسيا على جزيرة القرم، بالإضافة إلى دعم الإنفصاليين، الناطقين بالروسية، في شرق أوكرانيا ساهم في تغير الحدود الدولية بالمنطقة، إذ فرض بوتين الأمر الواقع، ما يجسد ضعف آليات تطبيق القانون الدولي عندما يتعلق الأمر بالقوى الكبرى في النظام الدولي، في حين كان دعمه لنظام بشار الأسد إحدى نقاط خلافه مع دول الخليج الغنية بالنفط، والتي تملك صناديق سيادية مليئة بالمليارات من الدولارات.
مواجهة الغرب من جهة ودول الخليج من جهة أخرى، يوضح أن الرئيس فلادمير بوتين يتصرف بمنطق الدولة العظمى، في حين أنه لا يتوفر على مقوماتها الاقتصادية و الاستراتجية. كما أنه أبان عن محدودية فهمه للواقع الدولي الراهن، فإجابته على الأزمة الأوكرانية بالأساس بأساليب الحرب الباردة، جعله يضع نفسه خارج سياق مقاربة الاعتماد المتبادل التي تميز الواقع الاقتصادي الدولي الراهن.
صحيح، أن روسيا تملك مصالح ضخمة في أوكرانيا كما في سوريا؛ فالأولى تقع على حدودها، و السماح للغرب بالسيطرة عليها يعني القبول بالناتو على حدودها، بالإضافة إلى مصالح اقتصادية ضخمة، خاصة إذا استحضرنا أن 80 بالمائة من الغاز الروسي الموجه نحو أوروبا يمر بالأراضي الأوكرانية. الأمر نفسه ينطبق على مصالح روسيا في سوريا، هذه الأخيرة تعد منفذها البحري الوحيد على البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى توفرها على أسطول عسكري في ميناء طرطوس. لكن هذه الأزمات الجيو-سياسية لا يمكن حلها في الواقع الدولي الراهن بنفس الأدوات التي كانت سائدة في مرحلة الحرب البادرة.
لذلك، فانهيار العملة الروسية في اليومين الماضين، وفقدانها أزيد من 60 بالمائة مقابل الدولار و 45 بالمائة مقابل اليورو، سيجعل الاقتصاد الروسي يدفع ثمن الحروب السياسية الخارجية لفلادمير بوتين، إذ يرى المحللين الاقتصاديين أن استمرار انخفاظ أسعار النفط سيدمر الاقتصاد الروسي في غضون الأشهر القادمة، كما أن الصفقة الصينية الروسية حول النفط، التي تجاوزت 200 مليار دولار، لن توقف نزيف الاقتصاد الروسي. فالطبقة الوسطى الروسية بدأت تستشعر الأزمة، لكونها أكثر ارتباط بالسلع المستوردة، والتي بلغت أثمنتها سقفا قياسيا في الأيام الأخيرة. الأمر الذي سيترتب عنه تداعيات سياسية إذا استمر ثمن النفط في الانخفاط؛ و منها تقوية موقع الأحزاب السياسية المناهضة لسياسة بوتين، كما سيساهم في الرفع من المظاهرات المناهضة لمغامرات روسيا الخارجية الراهنة.
لاشك أن هذه التداعيات يستحضرها صانع القرار الروسي، وستضعه أمام معادلة صعبة، إما القبول بالوضع الدولي الراهن، والعمل وفق أدواته عبر ترجيح آلية التفاوض وتبادل التنازلات، أو الاستمرار في التصعيد وما يترتب عنه من نتائج سياسية على المستويين الداخلي والخارجي.
في الحقيقة كان قرار أوبيك القاضي بعدم تخفيض إنتاج النفط رغم انخفاض أسعاره في السوق الدولية، لعبة جيو-اقتصادية كبيرة ستكون لها تداعيات سياسية في الأمد المنظور على مجموعة من الملفات العالقة في الأجندة الدولية. إذ أنها تستهدف بالأساس إيران وروسيا و فنزويلا، كلها دول مناهضة لمواقف وتوجهات الدول الغربية و حلفائها، ما ترتب عنه مرة أخرى إلتقاء مصالح الدول الغربية ودول الشرق الأوسط في موقف موحد في المستوى الأعلى من النزاعات بالمنطقة.
فانخفاض إيرادات النفط لم تضر فقط بالاقتصاد الروسي، بل أيضا بالاقتصادي الإيراني، الذي ما لبت أن انتشى بتخفيف العقوبات الاقتصادية عليه جراء التقدم الحاصل في مفاوضاته مع الدول الغربية، وترتيب نفقاته على هذا الاساس، سرعان ما بدأ في حساب الخسائر المحتملة جراء هذا الهبوط في أسعار النفط المدروس. أما فنزويلا، فالرئيس “مادورو” بدأ يفقد التوازن، خاصة وأن دولته كانت مسرحا لانتفاضات ضخمة بعد الانتخابات التي فاز بها بفارق لا يتعدى 1.5 بالمائة، حيث تدنت شعبيته إلى ما دون 25 بالمائة، كما أن إجراءاته الاقتصادية لمواجهة هذا التدني في أسعار النفط لم تنجح لحد الان، ما دفعه إلى استعمال نفس خطاب بوتين، أي أن الغرب، والولايات المتحدة في مقدمته، هي مصدر الأزمة والمأساة الاقتصادية التي تعيشها دولته.
فقد أظهر سلاح النفط مرة أخرى أنه سلاح قوى في تغير مخرجات السياسة الدولية، لكن الفرق بين الأمس واليوم هو أن سلاح النفط في الماضي يتم التلويح بوقف إمداداته، كما جرى في أزمة النفط لسنة 1973، لكن اليوم تشكل وفرته وعدم الرغبة في تخفيض مستويات انتاجه الشكل الجديد لتدمير اقتصادات الدول.
خلاصة، تعد الأدوات الاقتصادية آلية فعالة في تدمير اقتصادات الدول، كما أن عائداتها السياسية ستكون كبيرة. ولا شك أننا سنرى مواقف أخرى لينة أكثر في المفاوضات النووية الإيرانية والوضع في أوكرانيا ومستقبل سوريا وغيرها من الملفات، خاصة إذا استمرت أسواق النفط في الانخفاض. كما نرى أن الوضع النفطي الراهن سيساعد الاقتصادات الأوربية والأمريكية في التعافي بسرعة أكبر، كما سيكون الرابح الأكبر من هذه اللعبة الكبرى التنين الصيني، المستهلك الأول لهذه المادة في العالم.
* باحث في العلاقات الدولية