حفريات في التاريخ الجمعي للريفيين.. مقدمةٌ لفهم حراك الريف

 

بقلم: عبد السلام خلفي*

على سبيل الاستهلال

هذا المقال هو أساساً محاولةٌ للفهم… محاولةٌ لفهم الريف عن طريق البحث قليلاً في التاريخ الجمعي للريفيين… هو مقالٌ لا يدّعي أنه يقدّمُ أجوبةً نهائية عن ما وقع ويقع حالياً من احتجاجات بهذه المنطقة… إنه مقالٌ يتوخّى المساهمة، بشكل ما، في إلقاء الضوء على بعض الجوانب التي تبدو منسية لدى المغاربة عموماً ولكنها مع ذلك حاضرةٌ بقوة، وبشكل لا شعوري، على مستوى السلوك الجمعي لهم (إنْ إيجاباً أو سلباً)…

هي محاولةٌ للبحث في ذلك التاريخ المقموع الذي استبطنَه الريفيون لقرون والذي لا يزال يعود بإلحاح، وبشكل مسترسل، إما في شكل سُلوكات وأنماط عيش وتفكير أو في شكل انتفاضات ضدّ كلّ من يُعتبرُ سبباً في قمع ذلك التاريخ أو إخفائه… فالريف، كما هو معلوم، عَرف، على غرار مناطق أخرى من المغرب، أحداثاً تاريخية كبيرة… إلا أنها أحداث بقدر ما شكّلت تعبيراً عن مطالب اجتماعية وسياسية وثقافية، بقدر ما أثارت أسئلة مزعجة لدى شرائح واسعة من المجتمع المغربي (غير الريفي) تلبَّست مواقف مُسبقة عن منطقة قدمتها السلطة دائماً كما لو أنها مختلفة عن المغرب الرسمي، بل ومُهدِّدة لالتحامه الوطني…

ونظراً إلى غياب المعرفة الموضوعية بهذه المنطقة، واعتباراً كذلك لتاريخها الحديث الذي لا يزالُ يثيرُ، إلى اليوم، الكثير من التأويلات ومن علامات الاستفهام، ثم أخذاً بعين الاعتبار الصورة النمطية التي فرضتها السلطةُ القائمة (ومعها سدنةُ الفكر الوطني العروبي والقومي)، واستعمالها الإعلامي المُغرض للعديد من الوقائع البعيدة (جمهورية الريف، الظهير البربري، السيبة إلخ) أو القريبة (أحداث 1958 و 1984) أو الآنية (أحداث 2017) بهدف إخماد الانتفاضات أو تشويه الإرث الهوياتي للمنطقة أو كذلك لتصفية حسابات سياسية مع النخب المحلية، فإن ذلك كله راكم ثقافة من أحكام الانحياز نتج عنها مخيال جمعي عزّز الموقف التقليدي عن كون الريفيين مختلفين…

ولم يتنكر الريفيون لخاصية كونهم “مختلفين”، بل إنهم، على العكس من ذلك، تبنّوه بما جعل من اختلافهم فخراً لهم يعتزون به؛ صحيحٌ أن هذا المفهوم عن “الاختلاف الريفي” يحملُ معاني مختلفة عن تلك التي قد نجدها لدى السلطة أو لدى أطياف مهمة من الشعب المغربي؛ إلا أنه مع ذلك يظلُّ، في كلتا الحالتين، حياً وقوي الحضور في كل التدافعات السياسية بالمنطقة وعلى الصعيد الوطني. فمن جانب هناك انزعاجٌ للسلطة ولسدنة الفكر الوطني التأحيدي من استمرار هذا “الاختلاف” الذي يُقدمونه بكونه يشكل تهديداً للوحدة الوطنية وللانتماء العربي؛ ومن جهة ثانية هناك اعتزازٌ بهذا “الاختلاف” لدى الريفيين الذين يعتبرون أنفسهم مُمَيّزين بانتمائهم إلى لغة “مختلفة” وإلى ثقافة “مختلفة” أنتجت تاريخاً وأبطالاً كباراً من قامة محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي أسس أول نظام جمهوري بالمغرب… وعليه، فهم لا يتورّعُون أبداً عن إعلانهم لهذا الاختلاف في كل المناسبات حتى وإن كانت المناسبةُ تتعلق بالاحتجاج على غياب مطالب ذات طابع اجتماعي واقتصادي…

لقد رفع الآلاف من المحتجين، خلال الثمانية أشهر الأخيرة، حناجرهم عالياً مخترقةً الآفاق: “عااااااااااااااش الريف”، “عااااااااااااش شعب الريف”، بل وأقسموا جماعةً، وفي جميع المناطق (وحتى في المهجر)، أن “لا عاش من خان هذا الريف”، مؤكدين على انتمائهم الهوياتي الأمازيغي الريفي برفعهم لشعار : “نشين ذ إمازيغن/ نشين ذ إريفين”… لقد كانت المناسبةُ هي المطالبةُ بتنمية المنطقة من خلال بناء القناطر والطرق والمستشفيات والمدارس والجامعة والمعامل… ولم يكن الأمرُ يتعلّقُ بتاتاً بمطالب ذات أبعاد سياسية كما كان الأمر مع 20 فبراير … أو ذات أبعاد هوياتية بحتة … ولكن بالرغم من ذلك استُعيد الريف بكل عنفوانه… استُعيد ذلك الريف الذي يحملُ قيمة الاختلاف التاريخي والذي ظلّ حاضراً، بشكل أو بآخر، في كل الاحتجاجات والحراكات والانتفاضات السابقة… الريفُ المعتز بانتمائه… فتصايح “الحَراكيون” “عاش الريف ولا عاش من خانه”، وحملوا الأعلام التاريخية لجمهورية محمد بن عبد الكريم الخطابي الرّامزة لثقافة المقاومة، وأثثوه بالمئات من الأعلام الأمازيغية التي ترمز إلى هوية المزوغة.

وإن المستمعَ إلى خطابات ناصر الزفزافي وباقي القيادات وهي تُقسمُ بالله أنهُم مُستعدون للموت من أجل الريف… ليتأكد أن الأمر أكبر من مطلب طريق أو مستشفى أو جامعة… والجديرُ بالذكر أنه باسم هذا الريف الساكن في الوجدان، وباسم تاريخه المقدس، كما يقول الحراكيون، بل وباسم محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي كان يجعلُه الزفزافي في مكانة الصحابة بترديد عبارة “رضي الله عنه وقدس روحه” سيرفضُ قادة الحراك بشكل حاسم، ومعهم كلُّ المحتجين، الحديث باسم أي تيار أو حزب أو حركة… فلقد رفضوا الحديث باسم تيارت الإسلام السياسي (حتى وإن استعملَ بعضُهم الدين)، ورفضوا الحديث باسم إيديولوجية تنظيمات اليسار (حتى وإن تبنّوا مطالبهم الاجتماعية والاقتصادية)، ورفضوا الحديث باسم الحركة الأمازيغية (حتى وإن كان مطلبُ الأمازيغية حاضراً بقوة)… ووصل الأمرُ بهم أنهم أزالوا كل اللافتات والشعارات التي ظهر لهم أنها تخدُم جهات معيّنة…

لقد أرادوا بالحراك أن يكون حراكاً ريفياً بالهوية والانتماء، بغضّ النظر عن القناعات السياسية والإيديولوجية للمشاركات والمشاركين فيه… أرادوا أن يذوِّبوا الجميع داخل الريف بوصفه المرجع الهوياتي الجامِع، وبوصفه الدينامو المعبئ للجماهير محلياً ووطنياً ودولياً… ولذلك بدت كلُّ المطالب الاجتماعية والاقتصادية كما لو أنها ذلك الرأس الظاهر من الجليد الذي يسبحُ فوق جبل عارم يختفي عميقاً في محيط الريف / الرمز / الهوية… بل وبسبب ذلك اختلط الحابل بالنابل لدى الأغلبية الحكومية فخرجت تتهمُ الريفيين بالانفصال وبالتعامل مع القوى الأجنبية… إذ لم تتمكن من استيعاب الدرس… لم تتمكن من أن تفهم أن إعلان الاختلاف… إعلان الريف… لا يعني بتاتاً إعلان الانفصال أو الاصطفاف ضد الوطن… لقد كان درساً اكتشفنا فيه، مرة أخرى، غثاثة المعنى الذي تحملُه الدولةُ المغربية عن مفهوم الاختلاف، وعن الريف… كما اكتشفنا، مرّة أخرى، أن الريفيين أكثرُ فهماً لمعنى الاختلاف من الحكومة المغربية… ولذلك خرجوا يوم 18 ماي 2017 بمئات الآلاف ليبينوا لهذه الدولة الكسولة غير المستوعبة للدرس… ليقولوا لهم: نعم نحن مختلفين… نعم، نحن نعتز باختلافنا، ونطالبُ بتنميته، ولكننا وحدويون ومتشبثون بوطن يشكل الريفُ جزءاً منه… لقد كان الخروج درساً للحكام في الأبجديات الأولى لديموقراطية التعدد والاعتراف بالآخر في إطار دولةٍ مدنية غير عنصرية… كما كان رسالةً موجّهة لكل المغاربة الذين ظنوا بإخوتهم الريفيين الظنون بفعل الحملات الإعلامية الحقيرة التي أرادت تشويه الاحتجاج.. فردوا التحية بأكثر منها: خروج مليوني في الرباط وفي الدار البيضاء وأكادير والراشيدية وفي غيرها من المدن المغربية…

نخلصُ من هذا التشخيص الاستهلالي إلى إبراز ملاحظة جوهرية، وهي أن هناك قناعة جوهرية لدى كل المغاربة بريفييهم وغير ريفييهم تتلخصُ في أن الريفيين مختلفون (والاختلاف لا يعني بطبيعة الحال الافضلية). هذا هو المشتركُ الأدنى المتفق عليه. والسؤال المطروح هو: من أين جاء هذا الإحساس بالاختلاف؟ ما هي جذوره التاريخية؟ وكيف كبرُ وتنمّى بل وكيف رفض أن يخمدَ وينطفئ كما انطفأت الكثيرُ من الأحاسيس بالتميّز التاريخي لدى الكثير من الجماعات الهوياتية في العالم؟ هي أسئلةٌ سنحاول الإجابة عنها عن طريق تتبع بعض المسارات التاريخية التي مرت منها منطقةُ الريف منذ التاريخ القديم إلى اليوم. وأعتقدُ جازماً أن الكثير من مآسينا لا تأتي فقط من السياسات المتبعة من طرف الدولة بل تأتي أيضاً من كوننا لم نتمكن من أن نصيخ السمع إلى ما يمورُ في وجدان الشعب. هذا الشعبُ الذي يحمل ذاكرة قوية قد تختفي بعضُ وقائعها المادية، لكنها تظل، على المستوى الرمزي، حاضرة وفاعلة ومبنينة للعقل الجمعي وترفض أن تستكين أو أن تخضعَ لشروط قهر جديدة كيفما كانت. إن عدم الفهم هذا (أو قصْد إساءته) هو الذي يجعل من “اختلاف” منطقة الريف المشروع والمطلوب (ومناطق أخرى أيضاً) خلافاً وتهديداً وعنصريةً وانفصالاً وتُجرّدُ ضدهُ سيوفُ التشويه والقمع و”الحكرة” لخنق أنفاسه، فلا يزدادُ لذلك، مع الأيام والسنين، إلا انبعاثاً واشتعالاً.

مقاربتنا، إذن، هي مقاربةٌ تاريخية… مقاربةٌ ستُحاول أن تفهم الإنسان الريفي المعاصر بالغوص في تاريخه… في قيمه التي نقلها إليها أجداده… في أشكال الأبنية السياسية التي كان يتبناها … هي مقاربةٌ ستحاول أن تُجيب أيضاً عن سؤال: لماذا يرفضُ الريفيون بشكل شامل كلّ الوسطاء الذين تقترحُهم الدولة لتمثيل الريف؟ ولماذا ظلت الثقافة السياسية للريفيين ثقافة مناهضةً “للمركز” الذي يعترفون بمشروعيته سياسياً، ولكنهم يرفضون أدواته القمعية… وبكلمة واحدة: لماذا يُصرُّ الريفيون على أن يظلوا مختلفين؟ !

  • الريفُ قديماً… المجال والنظام
  • مجال الممالك الأمازيغية في التاريخ القديم

الحقيقةُ التاريخية التي يتحاشى الوقوف عندها الكثير من مؤرخينا اليوم عندما يتعلّقُ الأمر بمنطقة الريف، هي أن ما يُسمّى بالدولة المورية الأمازيغية التي ظهرت منذ ما قبل النصف الثاني للقرن الأول (1) ق.م، إنما كان مركزها هو الريف الشرقي؛ هذا ما أصبحت تؤكد عليه الدراسات التاريخية المعاصرة؛ فحسب المؤرخ عبد العزيز أكرير فإن “أقدم مملكة أشارت لها الكتابات التاريخية، وشكلت قبيلة الموريين دعامتها، تبلورت بالجهة الشرقية، في المنطقة التي تمتد شرق جبال الريف وتشمل منطقة وادي ملوية”، بل ويتَّسعُ مجالها الجغرافي، كما يقول، ليمتد “من المحيط إلى نهر ملوية، ثمّ إلى شلف فالأمبساكا” بالجزائر الحالية.

واعتباراً للأهمية الجيو- سياسية والتاريخية للريف القديم فقد حكمها، استناداً إلى نظام تمثيلي قبلي اتحادي، عدّةُ ملوك أمازيغ كبار ينحدرُ أغلبُهم من المنطقة؛ ويمكن لنا، في هذا الصدد، أن نذكر كلاّ من الملك “باكا” والملك “بوكوس الأول” والملك “سوسوس” والملك “بوكوس الثاني” والملك “أسكاليس” والملك “بوغود” إلخ. وقد لعب هؤلاء الملوك دوراً مركزياً ليس فقط في الحفاظ على استقلال المنطقة ومدافعة الأعداء المحيطين، خاصة أولئك الذين كانوا يأتون من الشمال، بل أيضاً في الحفاظ على استقلال ما سيُسمّى، في مراحل لاحقة، بالمغرب الأقصى والأوسط والأدنى.

يذهبُ تيتوس لفيوس، في هذا الصدد، إلى أن أول ملك أمازيغي موري حكم المنطقة إنما هو الملك باكا (BAGA)؛ فخلال تطرُّقه لأحداث الحرب البونية الثانية (218-202 ق.م) بين القرطاجيين والرومان، أشار إلى هذا الملك بالإسم؛ وهو الإسم الذي نجدُ له استعمالاً متواتراً في تسمية الأبناء سواء خلال العصر الوسيط (باجّا، ابن باجّة) أو خلال العصر الحالي بالريف والأطلس المتوسط (باكي/ Baguie). ومما أوثر عن هذا الملك الأمازيغي الموري، حاكم الريف القديم، هو أنه قدّمَ مساعدة كبيرة للملك الأمازيغي النوميدي ماسينيسا في حروبه من أجل استرداد حكم آبائه. فقد ساعده، كما تذكر بعض الكتابات التاريخية القديمة، بـ “أربعة ألف محارب لمرافقته إلى حدود ماسوليا (نوميديا الشرقية) حوالي سنة 206 ق.م”؛ وحسب كابرييل كامبس فإن باكا، أي هذا الملك الموري/ الريفي، “لم يكن ملكاً صغيراً (Roitelet)”، كما تُحاول أن تُقدّمهُ به اليوم بعضُ الكتابات الكولونيالية أو كتابات مؤرخي وطنيي التعريب والعروبة، بل كان، في نظره، “عاهلا تحكَّم في مجال واسع، شمل على الأقل المناطق الموجودة شمال الأطلس الكبير، والممتدة من أعمدة هرقل (مضيق جبل طارق) إلى نهر ملوية”، كما كان مركز حكمه هو شرق مملكة موريطانيا، أي هذه المنطقة الريفية التي تشمل ما بين النكور ونهر ملوية؛ والتي كان وظل الأسبان يطلقون على ساكنتها اسم “المورو” بعد أن شحنوه بمعاني قدحية ضد الساكنة!.

ومن الملوك الذين حكموا المنطقة وشهدوا على عراقتها التاريخية، نجد الملك بوكوس الأول (توفي ما بين 80 و70 ق.م)؛ إذ حسب المؤرخ سالستيوس فإن هذا الملك الموري عاصر الملك النوميدي مكبسا المتوفى سنة 118 ق.م ودخل في صراع مع الرومان وتحالف مع الملك يوغرطة الذي قبض عليه الرومان بمنطقة الريف سنة 105 ق.م. ومرة أخرى سيؤكد لنا المؤرخ سالوست أن الملك بوكوس الأول كان مركز حكمه “بشرق المغرب القديم وبمنطقة ملوية بالضبط” أي في “المجال المنحصر بين ملوية شرقاً وشرق جبال الريف غرباً”، حيث شكّل “نهر ملوكا (ملوية) “حداً فاصلاً بين مملكة بوكوس وجيرانه النوميديين”. بل ويؤكد سالوست أن هذه الرقعة الجغرافية ستمتد إلى حدود نهر شلف شرقاً في نهاية القرن 2 ق.م، على اعتبار أن الملك بوكوس اقتطع جزءاً من الأراضي النوميدية سنة 105 ق.م بعد أن قبض الرومان على يوغرطة (بين نهاية 106 و 105 ق.م)؛ ويؤكد المؤرخ فلوترخوس على حقيقة مفادها أنه نتيجة لتوسع الملك بوكوس الأول إلى الشرق فإن هذا الوضع الجديد سيجعل منه ملكاً مورياً ونوميديا في نفس الآن.

ومن هؤلاء الملوك الموريين المنحدرين من المنطقة والذين لم يعُد يعرفُ عنهم المغاربةُ، للأسف، أي شيء، وإن كانت قيمُهم ما تزالُ مترسخةً في وجدان الريفيين اليوم، نجد الملك سوسوس (ماستانيسوس) الذي حكم بدوره “إلى حدود سنة 49 ق.م (تاريخ وفاته)”؛ ويذكر كابرييل كامبس أن هذا الملك حكم تقريباً ما بعد سنة 118 ق.م وقد كان مركز حكمه يمتد، كما يقول نفس المؤرخ، أي كامبس، “من المحيط إلى نهر الأمبساكا (الواد الكبير)”؛ ويُدقق المؤرخ عبد العزيز أكرير هذا المجال الذي حكم فيه هذا الملك فيحصره في “شرق المغرب وغرب الجزائر” وهو نفس المجال الذي سيتركه لابنه بوكوس الثاني. إذ بعد وفاة الملك سوسوس سنة 49 ق.م كما رأينا، سيتولى الإبن بوكوس الثاني السلطة (توفي سنة 33 ق.م)؛ ومرة أخرى سيتحدد مركز حكمه داخل هذه المنطقة الشرقية من الريف التي يحدها نهر ملوية / ملوكا؛ ويذهب سترابون إلى أن كلاًّ من الملك بوكوس الثاني والملك بوغود حكما مورسيا، أي أرض المور التي هي موريطانيا، والتي يمتد إقليمها حسب نفس المؤرخ “غربَ نهر ملوية”؛ وهذا يعني، حسب العديد من المؤرخين، أن “شرق المغرب الحالي، كان تابعاً لبوكوس الثاني، مثلما كان تابعاً لوالده سوسوس، ولبوكوس الأول، وقبلهما لباكا“. والمعروف تاريخياً أيضاً أن بوكوس الثاني تمكن من ضم أراضي بوغود الغربية، أو ما يُسمّى بموريطانيا الطنجية، إلى أرضه أو دولته بعد الثورة التي اندلعت بطنجي تماماً كما فعل أبوه سوسوس وقبلهما بوكوس الأول وباكا، بل وأوصل حدود مملكته إلى الواد الكبير سنة 46 ق.م بعد هزيمة الملك النوميدي يوبا الأول.

إن هذه الحقائق التاريخية عن الملوك الموريين الأمازيغ بشمال المغرب وشرقه يؤكد لنا على حقيقة جوهرية مفادها أن المنطقة لم تكن منطقة خلاء من التفاعل الحضاري مع مجموع حضارات حوض البحر الأبيض المتوسط (كما يُحاولُ أن يوحي بذلك بعضُهم لأهداف إيديولوجية)؛ بل إنها على العكس، كما تؤكد كل هذه الشواهد، كانت تعجُّ بالأحداث الكبيرة وكانت في قلب التفاعل الحيوي بشعوب المنطقة، وكان للريفيين / الموريين، بملوكهم ورؤساء قبائلهم وأنظمتهم التمثيلية ومجال حكمهم، أدوراً أساسية في الحفاظ على استقلالية الدولة المورية وتنزيل أنظمة سياسية أثرت عميقاً في بناء هذه الحضارة المتوسطية؛ وتأكيداً لهذا الدور، الذي سيستمرّ في المراحل التالية من تاريخ الريف، فإن الأحداث الكبرى للدولة المورية، كالحروب التي وقعت دفاعاً عن المنطقة من طرف ريفيي ذاك الزمن الموري القديم، سنلاحظ أنها كانت تقع، بالدرجة الأولى، على حدود نهر ملوية وليس في موريطانيا الطنجية كما اعتقد أو حاول أن يوهم بذلك بعضُ المؤرخين الذين لا تخفى أهدافُهم الإيديولوجية (تجريد الريف الشرقي الناطق بالأمازيغية من أي دور تاريخي).

  • النظام الديموقراطي التمثيلي القائم على إشراك القبائل في تدبير الشؤون المحلية

إلى جانب هذا الحضور القوي لقبائل الريف المورية في الدفاع عن استقلالها، وبالإضافة إلى أن المنطقةَ حكمَها، بحدودها المشار إليها، ملوكٌ كبار كأولئك الذين أوردناهم من قبل، سنلاحظ أن الريف تميّز تاريخياً، على غرار العديد من الجماعات القبلية التي تشكل منها المجتمع المغربي، بنزوع قوي إلى تبنّي أنظمة سياسية تنزع، في الغالب، إلى تثبيت الديموقراطية التمثيلية المحلية القائمة على الخاصية الاتحادية؛ ولذلك فإن أغلب الأبحاث التي تناولت المنطقة بالدرس، سواء في التاريخ القديم أو في التاريخ الوسيط أو كذلك في التاريخ الحديث، تؤكد كلها على هذه الخاصية؛ وهي الخاصية التي توارثها الأبناء عن الآباء عن الأجداد لقرون طويلة إلى أن وصلت إلينا في مرحلة محمد بن عبد الكريم الخطابي، ثم لتدخل في سبات عميق منذ الاستقلال بعد أن تغؤّلَ نموذج الحكم الفرنسي اليعقوبي بالمغرب؛ فمن المعلوم أن المنطقة، منذ ما قبل 206 ق.م (على الأقل)، عرفت، كما قلنا، نظاماً تمثيلياً “ديموقراطياً” يرتكز أساساً على تدبير شؤونه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحربية استناداً إلى مجالس تمثيلية كان الملوك الأمازيغ القدامى يدْعون إليها، وذلك، كما يذهب إلى ذلك كابرييل كامبس، لإقامة “لقاءات دورية” مع رؤساء القبائل، وللخروج بالقرارات الكبرى التي كانت تهم القبائل أو الاتحاد. وهكذا فبالإضافة أن أمازيغ المنطقة (في ذلك العهد القديم) كانوا معروفين باستماتتهم في الدفاع عن أراضيهم رافضين لكل أنواع الاستعمار والقهر، كانوا أيضاً متشبثين بأعرافهم وبأنظمتهم التمثيلية التي كانت تقيهم الاستبداد والاستعباد والإذلال وطغيان الحكام؛ لقد اعتمدوا في تسيير شؤونهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خلال هذا العهد العريق، نظاماً أمازيغياً متفرداً… نظاماً ملكياً فيديرالياً، في الجوهر، ومتسماً، بطابع مساواتي بين القبائل حيث يلعبُ الملك دور الجامع المبجّل. ولقد ظل هذا النظام التمثيلي حيّاً في أفئدة الأمازيغ لقرون طويلة، من حيث أنه تواصل في العصر الإسلامي مع تشكل أول إمارة إسلامية بشمال إفريقيا، وهي إمارة النكور، كما تواصل في العهد الحديث مع كل من الشريف أمزيان ومع محمد بن عبد الكريم الخطابي، بل وكذلك مع كل أشكال التنظيمات ذات الطابع الفدرالي أو ذات الطابع الاحتجاجي أو حتى ذات الطابع المقاوماتي.

إن الملكية المورية، كما يقول عبد العزيز أكرير، كانت “ملكية قبلية”، أو كما يقول كابرييل كامبس، كانت “ملكية اتحادية” تنتظم داخل مجالس يرأسها الملكُ ويتمتع بعضويتها ممثلو القبائل؛ بل وتُعتبرُ هذه المجالس، كما تؤكد على ذلك القرائن التاريخية، من الأنظمة الاتحادية الأولى في العالم القديم من حيث اتخاذ القرارات السياسية التي يلعبُ فيها رؤساء القبائل دوراً محورياً. صحيحٌ أن معايير التمثيلية كانت تقوم على اعتبارات موضوعية والتي منها (أ) الكثافة السكانية للقبيلة (كلما كانت القبيلة ذات كثافة سكانية عالية كلما انعكس ذلك على موقعها داخل التحالف الاتحادي أو الفدرالي للمملكة المورية) (ب) واتساع المجال الترابي  لها (إذ كلما كان للقبيلة امتداد ترابي أوسع وتتوفر على أراضي صالحة أوسع للزراعة وللرعي كلما كان موقعها السياسي داخل الاتحاد قوياً) (ج) وتحكم القبيلة في الطرق والمرافئ التجارية (إذ كلما كان إشرافها على المسالك والطرق والقوافل التجارية المتوسطية أكبر كلما منحها ذلك موقعاً متقدماً داخل سلطة الدولة الفيديرالية)؛ (د) وانتماء الملك إلى القبيلة (من حيث أن استقرار الملك داخل القبيلة وانتماءه إليها يشكل عاملاً لتعزيز المكانة والقيمة الرمزية لها)؛ (هـ) والقوة الحربية ( إذ كلما كانت مساهمة القبيلة أكبر في إمداد الدولة الفدرالية بالجنود في حالة الحرب كلما تعززت مكانتُها وتمثيليتُها)، إلا أنها مع ذلك (أي المجالس) كانت تؤسس لقراراتها بناء على اجتماعات دورية ديموقراطية يحضرها الممثلون بل وأيضاً المستشارون الخاصون للملك والذين كانوا بدورهم ينتمون إلى قبائل مختلفة ويلعبون أدواراً مهمة في الاضطلاع بالمهام الدبلوماسية أو كذلك في تدبير بعض الشؤون المحلية. يذكر سالوستيوس، في هذا الإطار، أن الملك الأمازيغي بوكوس الأول أرسل إلى مالاريوس ثمّ إلى روما خمسة مستشارين سفراء هم “من بين أصدقائه الخلص”، وذلك كي يتكلفوا بقضايا دبلوماسية تتعلق بأمور “التفاوض لإبرام السلم”، كما أن يوغورطة لم يتمكن من التأثير على هذا الملك (أي بوكوس) للدخول إلى جانبه في الحرب ضدّ الرومان إلا عندما أثر على مستشاريه الخاصين؛ فعن طريق هؤلاء، “وبمساعدتهم –يقول سالوستيوس- وصل إلى الملك ذاته وأقنعه بإعلان الحرب على الرومان”. ومن ضمن هؤلاء المستشارين المذكورين في التاريخ القديم من كان ينتمي أيضاً إلى قبائل النوميد، إذ حسب سالوستيوس دائماً فإن مستشاراً نوميدياً اسمه أسبار (Aspar) كانت “تربطه بالملك علاقة حميمة”، كما “كان في بلاط بوكوس نوميدي آخر من الأسرة الماسينيسية هو دابار (DABAR) نجل ماسوغرادا(MASOUGRADA) “.

هكذا، إذن، يتبين لنا أن هذه المجالس التمثيلية لم تكن صورية، وأن حضورها ووساطاتها بين الملك وباقي القبائل، كان وازناً ومؤثراً وقادراً على تغيير الأوضاع والدفاع عن المصالح المحلية التي قد تغيبُ عن الملك؛ بل وإن هذه المجالس كانت منفتحة أيضاً على قبائل أخرى قد لا تنتمي بالضرورة إلى دولة المور؛ ولكي نعلم قوة حضور هذه التمثيلية القبلية داخل المملكة الاتحادية للموريين، تجدر الإشارة إلى أن قوات الجيش لم تكن تابعة بشكل حصري للقوات الملكية، وهو الأمرُ الذي سيتواصل في العهود الإسلامية التالية وكذا في العهد الحديث؛ إن هذه القوات كانت تابعة، بالدرجة الأولى، لقواد القبائل كما يذكر العديد من المؤرخين؛ فهذا الجيش الذي كان “يتكون أساساً من أفراد القبائل القادرين على حمل السلاح”، لم يكن يظهر له وجود أو يُجمع إلا “مع ظهور الحاجة إليه”، وهي نفس الميزة التي اتسم بها الجيشُ الريفي حتى في زمن محمد بن الكريم الخطابي كما تؤكد على ذلك كل الدراسات المقامة في هذا الإطار (ما أشبه البارحة بالأمس !)؛ وتؤكد الإخباريات التاريخية، في هذا الصدد، أن الجيش الموري كان يتكوّنُ من عدة فرق، تخضع فيه كل فرقة لإمرة “قائد واحد على الراجح، هو زعيم القبيلة أو من يمثله”، ويعضده في ذلك ”القادة الصغار المساعدين الذين يساوي عددهم عدد الفروع المكونة للقبيلة”؛ وأما فيما يتعلق بالملك، أي “القائد الأعلى لهذا الجيش”، فهو كان يمثل ”رئيس المجلس والرمز المبجل الذي تلتف حوله كل القبائل“.

ودون الدخول في بعض تفاصيل أشكال التمثيليات داخل القبيلة نفسها والتي ظلّت حية في وجدان الشعب الريفي إلى حدود منتصف القرن الماضي، كما أوعزنا إلى ذلك، فإن هذه المعلومات التاريخية المبثوثة في ثنايا الكثير من الكتابات الإغريقية واللاتينية تؤكد بما لا يدعُ مجالاً للشك أن أول دولة في تاريخ المغرب القديم، وبهذا النظام المتفرد، إنما ظهرت على الأقل، منذ القرن الخامس قبل الميلاد، في المنطقة التي تشمل الأراضي الممتدة بين جبال الريف وواد ملوية؛ لقد كانت ذات نظام فدرالي اتحادي مؤسس على التمثيلية القبلية في إطار مجالس تُعقد دورياً لاتخاذ القرارات بشكل ديموقراطي، بل والأكثر من ذلك أنها كانت تباشر تدبير شؤون الأمة حتى في حالة شغور وظيفة رئيس الدولة (الملك). إذ حسب المعلومات المهمة حول هذا النظام الفدرالي، فإن الدولة المورية، في حال شغور منصب الملك لسبب أو لآخر، لم تكن تتفتت أو تدخلُ في متاهات اللانظام، بل كانت على العكس تواصل كل وظائفها الأساسية دون أن تتأثر في العمق، وذلك كما حدث، مثلاً، ما بين 33 ق.م و25 ق.م أي بعد وفاة بوكوس الثاني؛ إذ بالرغم من شغور وظيفة الملك، فإن الأجهزة التمثيلية العليا للقبائل بقيت حية وتباشر وظائفها سواء في تدبير شؤونها الاقتصادية والاجتماعية والقانونية أو في مباشرة التزاماتها الدبلوماسية من حيث مواصلة عقد الاتفاقيات مع إمبراطوريات ذلك العهد، والتي منها، مثلاً، ترخيصها للمواطنين الرومانيين بالاستيطان في بعض المواقع الساحلية بالريف، أو من حيث تنفيذ التزاماتها الحربية كما فعلت مع “أوكتافيوس” (الرومان) الذي وجد في هذه القبائل، كما يشير إلى ذلك “ديون كاسيوس”، سنداً قوياً، لمواجهة أعدائه. هل يمكن اعتبار “السيبة” أحد مظاهر هذا النظام في المراحل المتأخرة؟ أعتقد أن هذا يحتاج إلى دراسة وتوثيق، وإن كنا نلاحظ أن هناك تشابُهات كبيرة بينهما.

ومع ذلك يبقى السؤال المؤرق هو: لماذا ينسبُ مؤرخونا مركز الدولة المورية إلى المنطقة الغربية فقط من شمال المغرب، ويعتبرون المنطقة الشرقية خلاء، في حين أن كل الأحداث الحربية الكبرى كانت تقع في الجهة الشرقية منه؟ لقد كان الأولى أن تقع هذه الحروب قرب طنجة أو قرب وليلي وليس على حدود نهر ملوية !؛ ثمّ لماذا تتلافى الدولة المغربية البحث الأركيولوجي بهذه المنطقة وتتجه فقط إلى تكريس هذا البحث في المنطقة الغربية؟ هي أسئلةٌ لا تحتاج فقط إلى أجوبة ذات طابع أكاديمي، كما فعل المؤرخ حسن الفكيكي في مؤلفه الشيق “أطلس الريف”، بل وتحتاج أيضاً إلى الوعي الشعبي بما يُحاكُ ضد التاريخ المحلي والمرافعة من أجل الدفاع عن هذا التاريخ. لأنه فقط بهذا التاريخ يمكن للمزوغة أن تستمر، وبدونه سينتهي المغرب الأمازيغي إلى الأبد، كما سينتهي الريف الذي يحملُه الريفيون اليوم شعاراً للتعبئة.

II– إمارة النكور أو الامتداد التاريخي لنموذج الدولة المورية

إن أول ملاحظة يمكن أن تسترعي انتباه المؤرخ هي أن إمارة النكور في العصر الإسلامي ستظهر في نفس المنطقة التي ظهرت فيها الدولة المورية القديمة. فهل هي صدفة، إذن، أن تتشكل أول إمارة في الإسلام بشمال المغرب وليس في منطقة أخرى؟ هل هي صدفة، إذن، أن تتشكل هذه المملكة في منطقة لم يدخلها الإسلام بالسيف كما وقع في مناطق أخرى من المغرب؟ ثم هل هي صدفة أيضاً أن تستعيد إمارة النكور نفس القيم ونفس أشكال التدبير التي كانت سائدة في الدولة المورية التي ترسخت مع ملوك من أمثال باكا وبوكوس الأول وبوكوس الثاني وأسكاليس وسوسوس وبوغود إلخ؟ ألم يُشكّل كل التراث الثقافي والتنظيمي للدولة المورية امتداداً تاريخياً حياً لكي يستقر في أنظمة التسيير والتدبير لإمارة النكور؟ إن الحقيقة التاريخية التي يسجلها أغلب المؤرخين هي أن هذه الإمارة إنما جاءت امتداداً لخصوصية الريف الذي كان يتميز بنوع من الاستقلالية على مستوى التدبير المحلي الموروث، كما جاء أيضاً كردة فعل ضدّ الظلم والتسلط العنصريين للدولة الأموية المُستعمرة التي أرادت أن تنقل إلى المغرب نظام الاستعباد والتخميس الشرقي وتقضي به على النظام الاتحادي التمثيلي للريفيين. ففي عصر الولاّة، أي في تلك الفترة التي امتدت ما بين وصول الجيوش العربية وتشكُّل الإمارة الإدريسية، وقفت القبائل الريفية ذات النظام الاتحادي في وجه الحكّام وولاة الشرق الأمويين الذين تمَّ تعيينهم قسراً من خارج المجالس التمثيلية الديموقراطية للريفيين؛ بل والذين كان شغلُهم الشاغل هو القتل والسبي وجمع أموال الجزية والخراج والغنائم؛ وبذلك ستعمل القبائل الريفية منذ سنة 80 هـ / 699 م، على إنشاء أول إمارة فدرالية أمازيغية إسلامية بالمغرب الأقصى، هي إمارة النكور (699 – 1094 م)؛ إمارة ذات منزع مساواتي وتستعيدُ نموذجها التدبيري المحلي الموغل في التاريخ الأمازيغي من النموذج الموري، بل وتعمل على تأثيثه بالروحانيات الإسلامية المبنية على قيم العدل والاستقامة بترسيخها لتعاليم إسلام سُنّي متسامح عُرف لدى المؤرخين بمذهب “الاستقامة والاقتداء” (ابن خلدون)؛ إن هذه الإمارة / المملكة التي تكونت من العديد من القبائل الريفية والتي منها نفزة وزناكة وغمارة عملت، من جهة، على الحفاظ على كيانها الهوياتي الأمازيغي من خلال تكريسها لأجهزة التدبير المحلي القائم على التمثيلية القبلية التي كانت سائدة قبل وصول الأمويين؛ كما عملت، من جهة ثانية، على مواجهة الطغيان الأموي بالتحرر من التبعية السياسية للشرق ورفض المكوس والضرائب الجبائية المفروضة من دمشق بل والوقوف في وجه ثقافة السبي والاستعباد والغنيمة وتحكم الولاة العرب؛ ومرة أخرى سنلاحظ أن مملكة النكور ستعتمد، في تشكيلها لمجالس الحكم، نفس معايير التمثيل التي اعتمدتها مملكة المور؛ إذ تؤكد أغلب الدراسات في هذا المجال على أن المملكة اعتمدت مجالس شورى تتكون، على غرار المملكة المورية، من مستشارين وزعماء قبائل وسفراء يمثلون القبائل ويتحدد وزنهم أيضاً بوزن هذه القبائل من حيث (أ) الكثافة السكانية (ب) واتساع مجال القبيلة الترابي (ج) ومدى تحكمها في الطرق والمرافئ التجارية (د) ودرجة مساهمتها في تكوين الجيش المركزي (هـ) وقوتها الحربية والعسكرية ودرجة مساهمتها في مدافعة الأعداء الخارجيين إلخ.

ونظراً إلى قوة هؤلاء الممثلين فإنهم لم يكونوا يقررون فقط في حل الإشكاليات الصغرى ذات التدبير الآني للمملكة، بل إن دورهم الأساسي كان يتعدى أيضاً إلى تولية الأمير نفسه؛ إذ الإمارة لم تكن وراثية بشكل أوتوماتيكي، بل كانت خاضعة لعدة مقتضيات منها أن أهل الحل والعقد من مشايخ نفزة والقبائل المنضوية في المجلس التمثيلي، كما يذكر ذلك الدكتور أحمد الطاهري، كانت لهم سلطات تقريرية واسعة منها اختيار الأمير المناسب. يقول الطاهري محدداً أوصاف هذا المجلس التمثيلي: “يتعلق الأمر بهيئة عليا مكونة من رجالات الدولة الذين ”قاموا بأمر صالح“ (ابن خلدون) بن منصور”. والذين لم يكونوا بطبيعة الحال إلا رجال القبائل. ومن ضمن الشّروط التي كان يفرضُها هؤلاء الممثلين المكونين للمجلس هي أن يقترن “نظام الحكم بالعدل والصلاح في تدبير الأمور”، وأن تحتفظ القبائل، كما يقول أنجلو غريلي، “على استقلالها الذاتي السياسي والإداري وعلى عاداتها وتقاليدها ولغتها”. فلقد قبلت تلك القبائل – كما يقول غريلي- سلطة صالح بن منصور وخلفه بشرط الحفاظ على هذه الاستقلالية التي يمكن تسميتها إذا استعرنا التعبير القانوني المعاصر بالاستقلال الذاتي؛ وعلى هذا الأساس فإن العلاقة التي ربطت حكم أسرة بني صالح، كما يذهب إلى ذلك غريلي، كانت أقرب إلى علاقة تحالف منها إلى علاقة هيمنة لسلطة مركزية على قبائل خاضعة.

هكذا، إذن، سيتبيّن لنا أن الكثير من القيم الأمازيغية على مستوى التدبير السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي ظلت حية في وجدان الريفيين على مر القرون، كما ظلت حية أيضاً في وجدان المغاربة عموماً إذا أخذنا يعين الاعتبار تلك الإمبراطوريات الأمازيغية التي تأسست فيما بعد، وذلك كالإمبراطورية المرابطية (1043- 1147) والإمبراطورية الموحدية (1147- 1269). إذ من المعلوم أن هاتين الإمبراطوريتين تختلفان بشكل جوهري، من حيث أنماط الحكم، عن أنماط الحكم الشرقي الذي تميز بالكثير من المركزة التيوقراطية القائمة أساساً على تعيين الولاة وفرضهم بالعنف العسكري وليس على مبدأ التمثيلية المنبثقة من القبائل. وبالرغم من التأثيرات المشرقية التي فرضها نموذج الحكم التيوقراطي الأموي عليهما، فإن الأكيد هو أن الإمبراطوريتين حافظتا، كما تؤكد الأبحاث التاريخية في هذا المجال، على الهيكل العام للتمثيلية القبلية بوصفها المرجع في اتخاذ القرارات الكبرى أو على الأقل شرعنتها. إذ من منا لا يعلم عن مظاهر التدبير التي كان يعتمدها التنظيم الموحدي عبر مجالسه الشورية، والتي منها مجلس أهل العشرة ومجلس الخمسين ومجلس السبعين؟ فعن هذه المجالس التمثيلية كانت تصدر القرارات السياسية والحربية والتربوية؛ ورغم بساطة هذا الجهاز- كما يقول الدكتور عبد المجيد النجار- فإنه ظل، مع ذلك، “يلبي المطالب الثلاثة الأساسية: 1- جهاز سياسي يقرر المصير 2- وجهاز تربوي يحفظ المبادئ ويعمقها، 3- وجهاز حربي يحمي الجماعة الناشئة ويعمل على نموها وامتدادها”. والأغربُ في هذا كله هو أن تنظيم “الأصدقاء الخُلّص” الذي أشار إليه سالستيوس عند الملوك الموريين هو نفسه الذي سوف يتم استرجاعه مع ابن تومرت والذي سيسميه بدوره بـ” تنظيم الأصحاب”.

ومع ذلك يتجنب مؤرخونا ربط حلقات التاريخ المغربي بعضه ببعض، ويحاولون أن يجعلوا فيه ثقوباً وقطائع حتى لا يبدو متصلاً، بل وحتى يتمكنوا من فصله عن أصوله وربطه بأصول ليست هي أصوله الحقيقية. بل والأدهى من كل ذلك أنهم يحاولون عندما يتحدثون عن التاريخ المغربي البدء من إمارة الأدارسة ليجعلوا منها، ضدا على التاريخ، أول إمارة إسلامية. والحقيقة غير ذلك تماماً. فإمارة النكور هي أول إمارة إسلامية بالمغرب؛ وهي التي أثرت بشكل عميق في تاريخ الريف وتاريخ الغرب الإسلامي وتاريخ الأندلس؛ بل وهي أول إمارة تبنت المذهب السني المالكي ونشرته في ساكنة الريف. ولأنها تشكل امتداداً على مستوى التدبير السياسي للدولة المورية فقد ظلت وفية لقيمها الأمازيغية العريقة التي تميّزت بالعدل والاستقامة والاحتكام إلى مجالس تمثيلية تشارك فيها كل القبائل الأمازيغية.

III- المقاومة الريفية أو الامتداد التاريخي لنموذج إمارة النكور

يذهب الباحث المؤرخ ميمون أشرقي، إلى أن القبائل الريفية لم تكن تعيشُ في فوضى قانونية واجتماعية وأخلاقية كما ظل يكرر ذلك العديدُ ممن يُسمون أنفسهم مؤرخي الوطنية أو مؤرخي الكولونيالية؛ إذ أن الأكيد هو أن هذه القبائل كانت تحتكم إلى سلطتين في تدبير شؤونها، هما (أ) سلطة الجماعة الديموقراطية التي يمثلها الفلاحون المالكون؛ وهذه هي السلطة الحقيقية المدبرة لكل الشؤون المحلية؛ (ب) وسلطة السلطان، وهي سلطة رمزية يمثلها قائد وتكتفي في الغالب بجمع الضرائب التي كانت تُقدّمها هذه القبائل له كي يرسلها للمخزن في المركز. وحسب أنخيلو كيريلي فإن المنظومة القبلية بالريف كانت تعتمد إلى حدود الحماية نظاماً للتدبير السياسي “تمثيلي ينطلق من رؤساء أو شيوخ المداشر [إمغارن أو إزدجيفن] الذين يشكلون مجلس “الجماعة” أو القسمة الصغرى، والذي يعين من بين أعضائه من يمثله في الجمع العام، أي “مياد” [أكراو] الذي يتمخضُ عنه مجلس القبيلة”؛ ومن ضمن خصائص هذا النظام، كما يقول، هي أن القبيلة الريفية كانت “تسيِّر شؤونها بنفسها باعتبارها قبيلة مستقلة عن سلطة المخزن المغربي”؛ فهي سلطة منبثقة أساساً من مجالسها التمثيلية؛ واعتباراً للأعراف التي تُلزم المسؤولين القبليين بتبني “المقاربة التشاركية” في تدبير شؤون القبيلة، فإن هذه الأخيرة، كما يقول كيريلي، شكلت “جمهورية فدرالية صغيرة تتمثل عناصرها في الجماعات المنتظمة في قسمات مستقلة عندما يتعلق الأمر بالحياة اليومية العادية، وتحضر الجموع العامة فقط بهدف اتخاذ قرارات تهم مجموع القبيلة”؛ وعلى العموم فإن كلا من دافيد هارت وبلانكو إيثاكا يقدمان صورة تقريبية عن وظائف هذا التنظيم في الريف ويلخصانه في (أ) وظائف اقتصادية واجتماعية وتعليمية وأمنية وخدماتية كتأمين الطرق وتدبير المياه وأراضي الجموع وجمع الذعائر إلخ. (ب) وظائف سياسية تتلخص في بناء التحالفات (“أغراو” أو “اللف”) (ج) وظائف ذات أبعاد تعاقدية عرفية لها علاقة بالسلطة المركزية، وتتلخص في مباركة هذه الأخيرة لتعيين أحد إمغارن الجماعة أو القبيلة بوصفه ممثلاَ لها (قائداً) على المستوى المحلي، وهذا دون أن تكون له، بطبيعة الحال، سلطة القرار (د) وظائف قضائية وحربية وتتمثل، في الحالة الأولى، في صياغة القوانين وتأويلها وإلزام الناس الامتثال لها، وفي الحالة الثانية، تتمثل في تدبير أمور الحرب من حيث تنظيم الحركات أو الدفاع عن الأرض.

وعموماً فإن من خصائص وظائف هذا التنظيم أن القرارات لم تكن تُتّخذ بشكل استفرادي، بل كانت تتخذ في إطار من النقاش والتعبير الحر الذي يشارك فيه الكل بل والذي قد يصل أحياناً إلى حد استعراض القوة العضلية. ويلخص إمليو بلانكو إيثاكا طبائع الريفيين وهو يتحدث عن تنظيماتهم الاجتماعية والسياسية في كونهم (أ) يحرصون على الحرية (ب) ويتشبثون بروح التعاون (التويزة والوزيعة والدوّارة واللّف والدفاع المشترك) (ج) ويفضلون أشكال الحكم “الديموقراطي” (د) ويحترمون أعرافهم. وبدوره حدد دافيد هارت خصائص هذا التنظيم لدى الريفيين في كونهم ظلوا على الدوام (أ) حريصين على “توزيع السلطة السياسية” (ب) رافضين لمنطق الزعامة (اعتماد “أنظمة منتظمة دون زعامة”) (ج) ومعتمدين نظاماً مساواتياً لا يحصر القرارات “في يد شخص واحد”. وهي بطبيعة الحال قيمٌ متوارثة عن الأنظمة التليدة التي تمتدُّ، كما قلنا، إلى ما قبل الميلاد المسيحي.

وفي نفس الاتجاه يؤكد المؤرخ حسن الفكيكي على هذه الخصائص عند حديثه عن مجلس الشورى الريفي الذي كان يرأسه الشريف أمزيان، ويجمل بعضها في (أ) أن القرارات ذات الطابع الرئيسي لم تكن تتخذ إلا عن “طريق التصويت”، (ب) وأن القرار النهائي كان يتوقف على كسب الأغلبية، (ج) وأن صوت رئيس المجلس لم يكن ليفضُل أصوات باقي الأعضاء، بل كان يتساوى صوتُه بصوت أي عضو من أعضاء المجلس. ونظراً لهذا الطابع المساواتي المطلق بين أعضاء المجلس، كما يقول الفيكيكي، فإن هذا جعل من قائدين كبيرين، مثل “الشريف محمد أمزيان، رئيس الحركة، والقائد الحاج عمر المطالسي، نائبه، لا يحظى كل واحد منهما أثناء اتخاذ القرارات إلا بصوت واحد”.

ولقد أوردت إلتليكراما ذيل ريف (El Telegrama del Rif) قائمة تمثيلية لبعض شيوخ القبائل الذين كان يتكون منهم مجلس الشورى في عهد الشريف أمزيان، فذكرت منهم”الشيخ قدور بن عمر السعيدي، وهو من أعيان بني سعيد المعروفين بمساندة الحركة منذ 1910″، وذكرت “الشيخ البغدادي بن الطيب السعيدي، رأس متطوعي بني سعيد”، وذكرت القائد المدعو بوقدور التمسماني، وكذلك “الحاج عمر التمسماني، من تمسامان؛ ومزيان البويحياوي، ممثل بني بويحيي؛ والشيخ بن الشريف التوزاني، مقدم قوات بني توزين  و”المدعو بولخريف التوزيني و”الشيخ قدور الوليشكي”من ممثلي بني أوليشك إلخ.

ولم تكن سلطة هؤلاء الممثلين للقبائل ذات تمثيلية صورية، كما تؤكد كل الوثائق التاريخية المتحصّل عليها، بل كان لها مضمون سياسي مؤثر على مستوى التدبير والمشاركة في اتخاذ القرارات الكبرى خاصة في مجال الدفاع المشترك والإعلان عن الحرب؛ واعتباراً لذلك يسجل مولييراس أن القبيلة الريفية كانت تنتظم في أقسام مضبوطة لها هياكلها الداخلية وتمثيلياتها الفرعية، مما كان يُسهل مأمورية انخراطها في العمليات الحربية الكبرى التي كانت تُتخذ على أعلى مستوى، أي على صعيد المجالس الاتحادية للقبائل؛ وإننا إذا أخذنا فقط قبيلة مثل قبيلة آيث سعيد، كنموذج على ذلك، فإننا سنجدها، على مستوى التقسيم المجالي، كانت منفسمة إلى “أربعة أقسام”، وكان كل قسم فيها يجند ما مجموعه “4 ألف رجل من المشاة المسلحين ببنادق حديثة”، كما كان مجموع ما تجنده جميع الأقسام يصل إلى “12 ألف” من المشاة. وهذه قبيلةٌ واحدة. بل وبالرغم من هذه الاستقلالية في اتخاذ القرارات الخطيرة، فإنها لم تكن تقطع أبداً علاقاتها الرمزية مع السلطة المركزية التي كانت حاضرة في إطار ذلك التعاقد العرفي القائم بينهما؛ ففي حالة هذه القبيلة بالضبط، لم يكن “تواجد ممثل للمخزن بزقزاو” يطرح أي إشكال طالما أن ذلك التواجد لم يكن ليهدد النظام العام للجماعة أو القبيلة؛ فحضوره كان مستحباً وأساسياً لأنه اعتراف برمزية السلطان؛ ولكنه على مستوى القرار “لم يكن يتوفر على أية سلطة”، بالرغم من كونه كان يمنحُ لنفسه لقب القايد؛ وكما يقول أنخيلو كيريلي، فإن ذلك اللقب “لا جدوى من ورائه”.

ويؤكد عبد المجيد بنجلون هذه الحقيقة وهو يتحدث عن هذه العلاقة التي كانت تربط السلاطين العلويين وأسرة الحطريين السعديين، فيذهب إلى أن هؤلاء لم يكونوا خاضعين للنموذج الكلاسيكي القائم بين السلطة العليا وموظفي هذه السلطة على المستوى المحلي. يقول: “لقد لاحظنا أن كل مساعي هذا العين (من الأعيان) السعيدي لم تكن تدخل في الخانة الاعتيادية للعلاقات الإدارية ذات الطابع التراتبي. فهي تبدو إلى حد ما كما لو أن الحطري كان يشغل موقعاً يتعالى من خلاله على هذا النموذج من العلاقات”؛ ويضيف قائلاً: “إننا لا نؤكد أنه كان يشغل موقعاً أعلى من السلطة، ولكنه كان يشغل بالأولى موقعاً أعلى من التراتبية الإدارية التقليدية”.

وإذا كان بنجلون يفسر هذا الموقع الذي كان يحتله الحطريون إلى نوعية العلاقات الشخصية والقوية بينهم وبين السلطان، فإن الحقيقة هي أن البنية العرفية لقبيلة آيث سعيد، على غرار القبائل الأخرى، لم تكن تسمحُ إلى حدود منتصف القرن التاسع عشر من تجاوز النظام القبلي الموروث القائم على نوع من الديموقراطية المحلية التشاركية لصالح نظام يتجاوز القبيلة ويؤسسُ لسلطة مركزية خارج النظام الاتحادي؛ ولذلك فإن كل ما كان يقوم به السلطان هو مباركة القرارات المحلية في مقابل الاعتراف الرمزي بسلطة المركز.

إن الأعراف المحلية وتنظيماتها التمثيلية كانت تفرضُ، إذن، من خلال آليات المجالس المعتمدة تحمّل مسؤولياتها؛ ولذلك كان ممكناً أن تلتزم القبائل في حالة الدفاع عن حوزة الوطن بتجنيد الآلاف من المقاومين كما وقع خلال الحروب التي قادها كل من الشريف أمزيان ومحمد بن عبد الكريم الخطابي؛ ففي الحالة الأولى تمكنت قبيلة بني سعيد بإرسال 800 من الجنود المشاة كي يحاربوا المستعمر الإسباني، وتمكنت قبائلٌ أخرى بتجنيد أعداد مختلفة مهمة من المقاومين المشاة والفرسان استناداً إلى نفس النظام وتحت قيادة قواد ينتمون إلى هذه القبائل؛ حيث وصلت أعداد هذه القوات، حسب ما أورده الباحث والمؤرخ رشيد يشوتي، إلى حوالي 4980 من المشاة وأكثر من 430 من الفرسان بالنسبة لقبائل كل من “أيث بويفرور” و”آيث بويحيي” و”آيث سعيد” و”آيث سيدال” و”آيت توزين” و”آيث وارياغل” و”إمطَّالسن” و”تفرسيت” و”أولاد ستوت” و”ثمسامان”. وبطبيعة فإن هذا الالتزام لم يكن متروكاً لمزاج القبيلة، بل كان محكوماً، كما يقول حسن الفيكيكي، بمقتضيات شرعية يشهد عليها العدول والقضاة؛ وأما في حالة عدم الالتزام بما تم الاتفاق عليه، فإن الطرف المخل به يتعرض لأداء غرامة عالية قدرها 500 ريال؛ وأما في الحالات الأخطر فإنه يُعتبرُ مستسلماً أو متعاوناً مع الغزاة المحتلين، ويُلحق لذلك بالطوائف التي تجب محاربتها.

الخلاصة

أخلص من كل هذا، ودون أن أورد تجربة محمد بن عبد الكريم الخطابي المعروفة والغنية في هذا المجال، أن أمازيغ الريف طيلة قرون عرفوا أنظمة ملكية مساواتية قائمة على التمثيلية وعلى نوع من الاتحاد الفدرالي. وإذا كُنّا نستحضر هنا هذه التجربة فلأننا نود من خلالها التذكير بأن الريفيين طيلة هذا التاريخ الطويل ظلوا محافظين على هذا النمط من التدبير المحلي الذي شكلت فيه الوسائط الريفية / المحلية أعمدة النظام الملكي. إلا أنه يبدو أن هذا النظام الذي ظل ثاوياً في اللاشعور الجمعي لأمازيغ الريف، اصطدم في مرحلة الحماية ثم في مرحلة الاستقلال باستجلاب نموذج الدولة المركزية اليعقوبية العروبية التي ترفضُ أي إشراك للنخب المحلية في تدبير شؤونها؛ فتكسّرت المجالس القبلية والجهوية، وتهمشت اللغة الأمازيغية التي استُعملت لقرون داخل هذه المجالس، وتمّ إخضاع القبائل بالحديد والنار، وفرضت إدارة بيروقراطية وأجنبية عن المنطقة، بل وتمَّ تعيين إداريين من خارج المنطقة لا يتقنون لغة الأهالي ولا يعرفون شيئاً عن أعرافهم ولا عن حساسياتهم الأخلاقية ونظمهم التقليدية التي كان يحتل فيها الأمغارُ ومختلف ممثلي القبيلة المكانة المركزية؛ إن الذي وقع هو أن الريف وجد نفسه، لأول مرة، في تاريخه خارج النظام وخارج الفعل وخارج أي اعتبار، وبرزت وسائط جديدة أجنبية أو متواطئة تمثّلُ السلطة بالأساس أو تنتمي إلى أحزاب تحتقر الثقافة الأمازيغية المحلية وتدعو إلى قتلها وتبني النموذج القومي العربي في إطار وحدة عربية لا تُبالي بالخصوصيات بل وتعتبرُها إرثاً جاهلياً أو تخلّفاً يجبُ محوُه بتبني العروبة.

ومنذ سنة 1958 أحسّ الريفيون، ومعهم جماعات أمازيغية بمناطق أخرى، أن ما سيأتي سيكون وبالاً على كل ما توارثوه منذ قرون؛ فانتفضوا… وكان الموتُ… وكان القتلُ… وكان التدميرُ… وكانت الاغتصابات… لقد كان والدي أحد الذين شاركوا في هذه الانتفاضة، وظلَّ لسنة كاملة يمرُّ على الأسواق معبئاً ومؤكداً، كما حكى لي رحمه الله، على فكرة واحدة عبّر عنها شعارُ: ” يحْي محمد الخامس، نحن نريد حقوقنا”… وكما يذكر الكثير من مؤرخي المرحلة فإن من ضمن الأسباب الرئيسية لتلكم الانتفاضة كانت هي الاستغناء أو تهميش النخب المحلية ورؤساء القبائل المحترمين داخل أوساطهم… لقد قيل آنذاك إن سبب هذا التهميش هو أن هذه النخب لم تكن تتقن اللغة الفرنسية نتيجة خضوعها للاستعمار الإسباني… إلا أن الحقيقة لم تكن كذلك… فكان الذي كان… وظلّ الريفيون طيلة العقود الموالية يُعبرون عن انزعاج هوياتي عميق… فهم بقدر ما أعلنوا عن انتمائهم إلى هذا الوطن، وبقدر ما أعلنوا دفاعهم عن العرش (استمراراً لموقفهم القديم منذ الدولة المورية إلى اليوم)، بقدر ما كانوا أيضاً يحسّون أنهم غير داخلين في الحساب، كما عبر عن ذلك محمد عابد الجابري (رغم موقفه السلبي من الأمازيغية)… فلا هم داخلون في الحساب… ولا أنظمتُهم الموروثة داخلة في الحساب… ولا لغتهم وثقافتهم داخلتان في الحساب… وعليه، فإن عودة متمعنة إلى الموروث الثقافي والأدبي الذي أنتجه الريفيون، شعراء وأدباء وفنانين، طيلة هذه المدة، سيحسّ أن مغصّاً عميقاً وجرحاً ثاوياً لا يزالُ حيّا في أفئدتهم يتحرك بعنف في شرايينهم ولا يريد أبداً أن يندمل… مما يجعلُهم مستعدين دائماً لينبعثُ فيهم ذلك الريف الثاوي بمجرّد ما تسنَحُ الفرصة… لقد انبعث فيهم، كما أشرنا، سنة 1958 وانبعث سنة 1984 وانبعث سنة 2017… وسينبعث، بكل تأكيد، وبشكل أكبر فيما سيأتي من سنوات…

عاش الريف، ولا عاش من خانه“، هذه هي خلاصة كل التجربة التاريخية. وهي الخلاصة التي تحوّلت إلى قسَم في حراك الريف سنة 2017… ولذلك على الدولة أن تفهم بأن الريف إذ ينتفض فهو لا ينتفض ضدّ الوطن…فهو لم يسجّل عليه طيلة تاريخه الطويل أنه كان يوماً ضدّ الوطن… هو لم يكن أبداً انفصاليا ولا خائناً… ولم يحمل يوماً سلاحاً إلا من أجل الدفاع عن الوطن…. كما أنه لم يكن يوماً ضد النظام الملكي… وكيف يمكن أن يكون ضدّه وهو يُشكل جزءاً من كينونته منذ ما قبل الدولة المورية … إن الريف ظل حريصاً، كما رأينا، على وحدة هذا الوطن… حريصاً ومنخرطاً، بكل قوته، في بناء أركانه والتضحية من أجل كل شبر من ترابه… ولكن هل هذا يبرر قتْل خصوصيته؟… قتل اختلافه؟ … قتل هويته … ريفيته؟… هل هي حجة لكي يُحرمَ من تدبير شؤونه؟…

وإنه إذ يقدمُ اليوم للدّولة المغربية وسطاء جُدُد… وسطاءً يلتف حولهم الشعب… وسطاءً يتكلمون باسمه ويدافعون عن حقوقه … وسطاءً صادقين نزهاء… فإني أعتقدُ أنه بهؤلاء الوسطاء يكون قد حان الأوان كي تتخلّص الدولةُ من كلِّ أولئك الوسطاء الآخرين المزورين الذي ادَّعَوا لعقود أنهم هم الممثلون الشرعيون وأنهم هم الوسطاء الحقيقيون، في حين أنهم لم يكونوا يعملون إلا على تسمين أرصدتهم… ويوم جدّ الجِدّ اختفوا وراء قوات وزارة الداخلية تاركين الملك وجهاً لوجه أمام المحتجين… إن هؤلاء المزيّفين لا يستحقون أن يظلوا جاثمين إلى الأبد على صدر الشعب… عليهم أن يتركوا المجال للوسطاء الحقيقيين… وسطاء الحراك… هي فرصة على الدولة أن تقتنصها… فهل ستفعل؟ هل سيأتي اليوم الذي سيُطلق فيه سراح المعتقلين؟ الوسطاء الحقيقيين؟ هل سيأتي ذلك اليوم الذي ستتحقق فيه المجالس الجهوية الحقيقية؟ هل سيأتي اليوم الذي سنرى فيه الريف وجميع جهات المغرب يمثلُها الوسطاء النزهاء؟ سواء في إطار جهوية موسّعة حقيقية أو في إطار حكم ذاتي؟ هل سنسترجع أشكال تدبيرنا العريق؟ هل سنتوقف عن تشظية جهاتنا الأمازيغية وتقسيمها وتشتيتها كما نفعل الآن؟ هل ستوقف عن معاداتها ومعاداة ما تختزنه من ثقافة؟ وهل سيأتي ذلك اليوم الذي ستعترف الدولة فيه أنها ارتكبت أخطاءً ضد لغتنا الأمازيغية وضد ثقافتنا التليدة؟ هل سيأتي ذلك اليوم الذي ستُعمم تدريسهما في المدارس والمعاهد والجامعات وتفرضهما في الإدارات والمؤسسات؟

تلكم هي الأسئلة.. وهذا هو المستقبل..

*أستاذ باحث بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية

شاهد أيضاً

الجزائر والصحراء المغربية

خصصت مجموعة “لوماتان” أشغال الدورة السابعة لـ “منتدى المغرب اليوم”، التي نظمتها يوم الخامس من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *