بقلم: أحمد عصيد
في الوقت الذي ترفع فيه القوى الديمقراطية ، ومنها الحركة النسائية، شعار المساواة بوصفه مشروع تحرر مجتمع بكامله، يرفع التيار المحافظ شعار “استقرار الأسرة”، “فيتو” الإسلاميين ضدّ حقوق النساء، في هذه المقالة نريد الكشف عما يكمن وراء شعار “استقرار الأسرة” من مفارقات، وما يخفيه من مظاهر سلبية صادمة وأحيانا مفجعة.
فقد نشرت الصحف والمواقع الإلكترونية المغربية مؤخرا مضامين دراسة أجرتها منظمة الأمم المتحدة للمرأة على 2500 شخص بين رجال ونساء تتراوح أعمارهم بين 18 و59 عاما، وشملت الدراسة محور الرباط ـ سلا ـ القنيطرة، ومن بين ما أظهرته الدراسة نتائج ينبغي الوقوف عندها بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، فقد أكد 95 % من الرجال و87 % من النساء بأن الانفصال بين الزوجين يشكل تهديدا للمجتمع، لكن في نفس الوقت أبرزت 90 % من النساء أنهن يجب أن يحصلن على الحق في الانفصال عن أزواجهن، وهو رأي 52 % من الرجال فقط، ماذا يعني هذا ؟ كيف يمكن لـ 87 % من النساء أن يعتبرن الطلاق مضرا بالمجتمع بشكل عام، ثم تطالبن بنسبة 90 % بالحق في الانفصال عن أزواجهن عندما يُردن ذلك ؟
يعني هذا أن المواطنين المغاربة يجيبون دائما بما يتوافق مع ثقافة المجتمع المحافظ عندما لا يتعلق الأمر بهم مباشرة، أي عندما يتعلق الأمر بـ”الآخرين”، وعندما نضعهم في صلب المشكل ويصبحون معنيين هم شخصيا بالموضوع، يغيرون رأيهم بنسبة 180 درجة، ولهذا دلالته بالطبع، فالمواطن المغربي يفكر قبل كل شيء فيما سيقوله الناس أو ما تريده السلطة أو تكرسه التقاليد حتى ولو كان خطأ، وذلك لينال رضى السلطة أو المجتمع أو الذين يعتبرهم أوصياء عليه، ولكنه عندما يصبح هو المعني مباشرة بالموضوع، عندما يطرح نفس المشكل في علاقته بحياته الخاصة، أي عندما يُلقى به في عمق المشكل الذي يصبح هو ضحية له، يتغير منظوره كليا. أقدم هنا للقراء واقعتين لهما دلالة عميقة، الأولى تتعلق بإحدى نساء الحركة الإسلامية المغربية التي سألتها مجلة أمريكية في موضوع “تزويج القاصرات”، أو اغتصاب القاصرات باسم الزواج، حيث أجابت قائلة إن سبب ذلك هو أن الفتيات المغربيات “تفضن” بسرعة مما يجعلهن مؤهلات للزواج بحكم النضج الجسماني، وهو خطأ فادح ارتكبته السيدة المغربية لأنها لم تراع النمو النفسي والعقلي للطفلات، واهتمت فقط بنموّهن الفيزيولوجي، فلم يكن من الصحافية إلا أن باغتتها بالسؤال : إذن أنت تقبلين بتزويج ابنتك في سن التاسعة أو العاشرة من عمرها ؟ فكان رد الإسلامية المغربية على الفور : “لا طبعا لأنّ ابنتي تذهب إلى المدرسة”. الحكاية ليست بحاجة إلى تعليق.
الواقعة الثانية تتعلق بأحد المواطنين المغاربة الذي تم ضبطه وهو يسرق بالمملكة العربية السعودية، فحكم عليه القضاء الوهابي بقطع يده طبقا لما تنصّ عليه الشريعة الإسلامية، مما أدى إلى حملة واسعة في المغرب من أجل إنقاذ الرجل وإخراجه سليم الجسم من الورطة الخطيرة التي وقع فيها، على أن يؤدي عقوبة حبسية في وطنه المغرب، وقامت عائلته بالاتصال بجميع وسائل الإعلام وطرق باب السفارة المغربية والحكومة وحتى القصر الملكي، وقد تابعتُ بالصدفة وأنا في السيارة برنامجا خُصص للموضوع في إحدى القنوات الإذاعية الخاصة، ولم أسمع أي مغربي على الإطلاق طالب بقطع يد مواطنه لتطبيق الشريعة، بل تمنى له الجميع العودة سالما إلى أرض الوطن. ونعلم جميعا علم اليقين بأن أي صحفي نزل إلى الشارع المغربي يسأل المغاربة هل يوافقون على تطبيق الشريعة وإقامة الحدود سيأتي بنتيجة 90 % يطالبون بذلك، تماما مثل النتيجة المعبر عنها في الدراسة التي أجرتها الجمعية المشار إليها بالمغرب.
إننا إذن أمام ذهنية سببها غياب التربية على المواطنة والحرية، والحضور القوي للتربية المحافظة التي تقنع الأفراد منذ طفولتهم بقيم لم تعُد تساير اتجاه الواقع الذي يعيشون فيه، مما يؤدي لديهم إلى تمزق وتشظي في الوعي والسلوك معا.
أظهرت الدراسة كذلك أن 91% من الرجال يريدون معرفة أماكن وجود زوجاتهم طوال الوقت.
وتفسير هذا الشعور هو القلق الذي ينتاب الرجال المحافظين بسبب التناقض الذي يعيشونه بين فكرتهم الأصلية عن ضرورة بقاء المرأة في البيت، (ما سماه بنكيران “الثريات”) وبين حاجتهم إلى راتب المرأة وعملها من الناحية المادية، ولهذا يختارون موقعا يشعرهم ببعض العزاء، أنهم يتركون المرأة تخرج من البيت لحاجتهم إلى نتيجة عملها، مع تشديد الرقابة عليها بالطرق التقليدية. (مع التذكير هنا بأن هؤلاء الرجال لا يقبلون أبدا برقابة نساءهم عليهم، إذ يصلون إلى حدّ الضرب والاعتداء عليهن في هذه الحالة).
وتقول الدراسة إن 50 % من المغاربة، 38 % من الرجال و20 % من النساء، يقرون بأن الزوجة “يجب أن تتعرض للضرب أحيانا”، ويتشارك 62 % من الرجال و46 % من النساء فكرة أن “المرأة يجب أن تتقبل العنف للحفاظ على وحدة الأسرة”. (كذا !).
تكشف هذه الإحصائيات بوضوح حقيقة شعار “استقرار الأسرة”، فالمرأة وحدها المسؤولة عن تماسك الأسرة أو انفجارها، وعليها أن تتحمل لوحدها جميع أنواع الأذى لكي تستمر الأسرة مجتمعة، وطبعا لا أحد يملك الشجاعة الكافية ليطالب الرجل بتغيير سلوكه أو وعيه، الذي هو مصدر كل المشاكل.
يذكرني هذا بدراسة سوسيولوجية أجريت في بلدان الخليج حول أسباب تزايد نسبة الطلاق، في بلدان كان يغلب عليها تقاليد العشائر البدوية إلى وقت قريب، وكانت نتيجة الدراسة تقول إن السبب الرئيسي لارتفاع نسبة الطلاق هو تمدرس الفتيات، حيث أدى التمدرس إلى تزايد وعي المرأة الخليجية بحقوقها، كما أدى إلى منافسة الرجل الخليجي في مواقع اجتماعية وإدارية، مما جعلها تطالب بحقوقها وبقدر من الاحترام لشخصها، بينما كنت الوضعية الأصلية ـ وضعية “الحريم” ـ تعتبر المرأة من ضمن متاع الرجل وممتلكاته، وكانت الشريعة الدينية تستعمل بشكل كثيف لشرعنة تلك الوضعية عبر القرون. ومن النكات التي أدى إليها هذا الوضع الذي كشفت عنه الدراسة الميدانية مطالبة رؤساء العشائر البدوية في عديد من المناطق بإخراج الفتيات من المدرسة لتخفيض نسبة الطلاق ( !!).
إن الذين يضعون “استقرار الأسرة” في مقابل حقوق المرأة إنما يسعون إلى جعل المرأة تتنازل عن كرامتها من أجل بقاء الأسرة “مستقرة”، وحفاظ الرجل على امتيازاته، بينما هو استقرار يخفي واقعا لا إنسانيا من جميع وجوهه. والأمر هنا شبيه بمن يقول إن الاستقرار السياسي للدولة بحاجة إلى سلطة الاستبداد ودوام القبضة الحديدية حول رقاب الناس، بينما الاستقرار السياسي الفعلي والدائم إنما هو في الديمقراطية والمساواة التامة في إطار المواطنة واحترام القانون وربط المسؤولية بالمحاسبة.
ومعلوم أن الأسرة والعلاقات المؤطرة لها إنما هي صورة للنظام السياسي الساهر على النظام الاجتماعي، فإذا كانت الدولة قائمة على السلطوية والحجر والوصاية فإن ذلك ينعكس حتما على العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، حيث يستبطن الناس قيم التسلط والقهر ويعكسونها في سلوكاتهم داخل الأسرة، فسواء تعلق الأمر بالرجال أو النساء ، فإن الجميع ينتهي بأن يستبطن آليات الاستبداد داخل جهازه النفسي، فيصبح الرجال جلادين وتصبح النساء خادمات تخضعن لعبودية إرادية.
نريد إذن استقرار الأسرة ولكن في إطار احترام المرأة المغربية وحقوقها المكتسبة، فكيف يمكن الجمع بين حقوق المرأة واستقرار الأسرة ؟ لا حلّ إلا بتغيير عقلية الرجل، وهذا ما لا يستطيع المحافظون تحمله، لأنه أساس الفقه التراثي كله، كما أنه سندهم في المجتمع، فتغيير عقلية الرجل هو الثورة الحقيقية التي ينبغي القيام بها، ولا بد أن تلقى معارضة قوية من لوبيات المحافظة والتقليد في الدولة، لأن تغيير عقلية الرجال معناه أن يتخلص الفقه الإسلامي من نزعته الذكورية الخرقاء، ويحترم دور النساء وعملهن وأداءهن المشرف في كل المجالات.
إن “استقرار الأسرة” إذن إنما هو في التعاون والمساواة الفعلية والاحترام المتبادل، وكذا التعاقد والمسؤولية المشتركة، وهذا بحاجة إلى تغيير عقلية الرجال على الخصوص، وليس صياغة قوانين على مقاسهم كما تمّ في العهود السابقة.
ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن كل هذه المعطيات الهامة بحاجة إلى أن تتوج بمراجعة جديدة لمدونة الأسرة، بعد 14 سنة من المراجعة السابقة، غير أن أية مراجعة لنص القانون بحاجة إلى عمليات تحسيس كبيرة ومستمرة لتغيير الذهنيات، لأنه لا يكفي تغيير القوانين إذا ظلت العقليات في واد آخر.