راودتني فكرة كتابة هذا البورتريه منذ ثلاث سنوات خلت، لكن كلما هممت بأخذ اليراع بين الأنامل إلا ويلبسني الخوف من ألا أوفي هذا الرجل حقه مهما استنجدت بقواميس كبار الأدباء والحكماء، ليصبح العمل في عداد المؤجلات إلا أنني وفي غمرة الحجر الصحي تمكنت من النصر على هذا الخوف وأحاصره بتكرار المحاولات حصارا، لأجدني أكتب حول شخصية نقشت اسمها بماء من ذهب في مختلف المجالات ذات الصلة بالأمازيغية، أعرف أنه لا يحب أضواء الكاميرات كما لا يحب عتمة الانكفاء على الذات دون إسهام او مشاركة في أي نشاط أوعمل يعنى بالأمازيغية فهو كالمنارة التي ترشد سفن العديد من الباحثين في ثنايا الأمواج المتلاطمة في بحرالأمازيغية.
حميد متعدد المواهب والاهتمامات، لا يحتويه برواز، يتمرد على كل التصنيفات، كأن لسان حاله ينشد للمتنبي: أريد من زمني ذا أن يبلغني، ما ليس يبلغه من نفسه الزمن. كيف لا وهو الذي نظر الأعمى إلى أدبه وأسمع كلماته من به صمم.
حميد الإنسان:
من معدن نادر، اجتماعي حتى النخاع، شامخ في التزامه، شامخ في كبريائه وأنفته، شامخ في تواضعه، شامخ في بساطته، شامخ بسلطته العلمية… شامخ في إنسانيته. ذو عزيمة وجلد كبيرين. اغترف من معين القيم الفضلى التي تميز أجداده والتي تتقاطع مع القيم الكونية في الانتصار لإنسية الإنسان قبل كل شيء، وبهذا نجده يستنكر كل مظاهر الحكرة والإقصاء والتهميش ويمد يد العون في أبهى تجليات نكران الذات. تأثر كثيرا بموت أمه وأبدع مرثية مؤثرة في حقها لتكون قصيدته من أجمل ما قيل في الرثاء بالأمازيغية. استطاع أن يكون بمثابة دينامو في عائلته الكبيرة. حميد هادئ الطبع، لا تفارقه ابتسامته التي تحمل الكثير من الوقار. ندي وكثير الرماد حتى سارت بذكر سخائه الركبان.
حميد الشاعر والأديب والمبدع:
من فطاحلة الشعراء الأمازيغ، أديب رفيع ومبدع فذ. شامخ في إبداعه، خريج مدرسة أحيدوس، من الركائز الأساسية للرقص الجماعي ببلدته، من هنا نستنتج أن عبقريته الشعرية لم تأت من العبث، لم تنحدر من الخواء بل انحدرت إليه من مراتع أحيدوس وما تختزنه ذاكرتنا الجماعية من درر فكرية وحضارية منقطعة النظير والثروة اللامادية التي يزخر بها أسامر على العموم.
حين تسمعه يلقي قريضه حيث الكلمات تنساب من فيه كماء عذب زلال يشد إليه عطشانا وسط الرمال في عز المصيف، يسافر بك نحو أمل يلوح في الأفق حيث السكينة والهدوء. بديع في لغته الأمازيغية والعربية والفرنسية، أنيق في أسلوبه، عميق في طروحاته وقضاياه، شجاع حينما يكون إزاء عمل أدبي يستدعي إصدار الحكم والتقييم والنقد البناء. أصدر مجموعة قصصية باللغة العربية موسومة بدمعة وطفولة و ديوانين شعريين باللغة الأمازيغية: أزهار الربيع و ضميرمجهض. كتب للأطفال قصائد جميلة غناها فنانون عديدون، ورددها أطفال أمازيغ في مدارس كثيرة على امتداد الوطن.
كتب للبؤساء، كتب للأمازيغية لغة وهوية وثقافة، كتب للأم ، كتب للاتحاد والتعاضد والأخوة، كتب للتسامح والتعايش، كتب للتاريخ ولأبطال المقاومة بلا مجد…
تعتبر نصوصه الشعرية متنا خصبا للمجموعات الموسيقية الأمازيغية حيث اشتغل العديد منهم على عدد كبير من القصائد، وقمين بالذكر أن أعمالا شعرية ونثرية أخرى أفرغ من وضع لمساته الأخيرة عليها وتنتظر فرصة الطبع والنشر. الكتابة الأدبية بالنسبة لمبدعنا تصريف جمالي للمعاناة الوجودية والتناقضات المجتمعية وصرخة صامتة في وجه التفاهة والعاهة والقبح والرتابة واللا معنى.
حميد، اللساني الكبير:
ساعده تملكه لناصية العديد من اللغات كالفرنسية والعربية والإنجليزية من دراسة لغته الأمازيغية بعمق علمي وبخطوات رصينة، ابتداء من بحثه الجامعي لنيل شهادة الإجازة في اللغة والأدب الأمازيغيين بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، الذي كان تحت عنوان : دراسة الاختلافات اللهجية في اللغة الأمازيغية، فرع الجنوب الشرقي نموذجا، إلى شهادة الماستر الأول في جامعةAix-Marseille بفرنسا في موضوع:L’AMÉNAGEMENT PHONOLOGIQUE DE QUELQUES TEXTES DÉCRIVANT LA FAMILLE CHEZ LES TRIBUS DE BENIMTIR ET AYYACH, TEXTES INÉDITS, RECUELLIS PAR FEU ARSÈNE ROU ، ثم شهادة الماستر الثاني من نفس الجامعة في موضوع:EXPLORATION D’UN CORPUS SONORE DE MAROC ET D’ALGERIE : ETUDE CRITIQUE DES AYT HDIDDOU DE L’ASSIF MELLOUL(IMILCHIL, SUD EST DU MAROC) : Inventaire, transcription, traduction, annotation, commentaire et analyse.
من تأطير اللساني الكبير سالم شاكر، مرورا بمقالات ومداخلات علمية كثيرة في هذا المجال، كل ذلك جعله ذلك اللساني المتمرس على إشكاليات اللغة الأمازيغية على مختلف المستويات. قال أحمد صابر في حق المهدي إعزي ذات لقاء علمي بأكادير، لوكان بيدي توزيع شواهد الدكتوراه لأعطيت للمهدي العديد منها، فبدوري أقول:” لو كانت بيدي سلطة المصادقة على شواهد الدكتوراه لمنحت لحميد العديد منها عن جدارة واستحقاق. حميد رجل مثابر يتقن مختلف التنويعات الأمازيغية الموجودة في شمال إفريقيا، حين يتحدث الأمازيغية بلغة بلورية صافية يجعلك تحس بعبقرية هذه اللغة و بمفخرة الانتماء إليها.
عادته أن لا يترك ما يقوم به من أعمال لسانية ولغوية في زاوية المبهم، يستثمر تكوينه البيداغوجي لتمرير المادة العلمية بانسيابية تخلق جاذبية لدي المتلقي. ساعد ولازال يساعد العديد من الطلبة في إنجاز بحوثاتهم الجامعية في اللغة والثقافة الأمازيغيتين، صحح الكثير من الأعمال الإبداعية للكتاب الشباب. حميد جدير بمنصب أستاذ بالجامعة المغربية في مسلك الدراسات الأمازيغية، هذا ليس قناعتي وحدي بل يتقاسمها معي العديد من الطلبة والخريجين من هذه الشعبة.
يندرج هذا النص ضمن ثقافة الاعتراف، اعتراف بالجميل لشاب ساهم بفعالية وصدق في مرحلة توصف بالتأسيسية من أجل امازيغية في القمة، الأستاذ حميد طالبي طاقة لا تنضب وقامة إبداعية وتربوية جديرة بالتقدير والاحترام.