محمد مغوتي
تعالت أصوات الرفض والإستنكار والسخرية في منصات التواصل الإجتماعي، وذلك بعد الكشف عن صورة من صفحة لمقرر دراسي جديد تتضمن عبارات بالدارجة لمأكولات مغربية. وقد ذهبت أغلب المواقف والتعليقات إلى اعتبار الأمر حلقة جديدة من حلقات تدمير منظومة التربية والتكوين ببلادنا، بل إن الأمر تجاوز مستوى التناول الإفتراضي ليتحول إلى شأن سياسي بعدما تقدم حتى الآن كل من حزبي العدالة والتنمية والإستقلال عبر فريقيهما البرلمانيين بطلب عقد اجتماع للجنة التعليم والثقافة والإتصال بالمجلس من أجل مناقشة الموضوع.
وقد اعتبر فريق البيجيدي في مراسلته إلى رئيس اللجنة المعنية أن ” إقحام عبارات باللهجة الدارجة في المقررات الدراسية غير مقبول، ويشكل تجاوزا صريحا لمقتضيات دستور المملكة الذي يحدد في فصله الخامس اللغة الرسمية للدولة”. كما أكدت صيغة المراسلة على أن أي إصلاح منظومة التربية والتكوين لا يمكن ” أن يُعتمد، وأن ينجح وأن يحقق أهدافه إلا باحترام الثوابت، مع الحرص على تجنب إثارة القضايا الهامشية وغير المجدية التي من شأنها أن تعثر عجلة الإصلاح والوقوف في وجه كل محاولات الاختراق لهذه الثوابت”… أما الفريق الإستقلالي فقد عبر بدوره عن “قلقه من تواتر إصدار عدد من المقررات الدراسية، خاصة بالتعليم الابتدائي، تستعمل عبارات الدارجة، إضافة إلى عدد من المضامين التي تخالف المنظومة القيمة والثوابت الجامعة للأمة المغربية”، مشيرا إلى أن الأمر “يشكل إخلالا صريحا بالمقتضيات الدستورية، وخاصة الفصل الخامس من الدستور، الذي يحدد اللغتين العربية والأمازيغية لغتين رسميتين للدولة”.
واضح إذن أن الحزبين يتفقان على رفض إدراج كلمات من العامية في المقررات الدراسية، لأنهما يعتبران معا أن هذه الخطوة تمثل تهديدا لثوابت البلد، كما أنها تعد خرقا سافرا لمقتضيات الدستور.
أسئلة كثيرة تفرض نفسها في هذا المقام، بعضها يحتاج لأجوبة لإثراء النقاش، وأخرى قد تحمل في صياغتها سخرية مما يجري، لكنها سخرية المضحك المبكي: فأي خطر يمكن أن ينتج بسبب إدراج كلمات عامية محدودة في مقرر دراسي؟. وكيف يمكن لألفاظ عامية قليلة تم استعمالها في سياق محدد أن تهدد ثوابت البلد وثقافته وهويته؟. وهل تغيير تسمية “البغرير” مثلا باسم آخر من الفصحى، ( وليكن: الرغيف المثقوب) هو الذي سيحافظ على اللغة العربية ويؤهل المدرسة المغربية؟. وهل كنا سنسمع كل هذا اللغط حقا لو أن نصا قرائيا أو مقطعا تعلميا في مقرراتنا الدراسية تضمن إسما عاميا لأكلة شعبية مشرقية؟.
من المؤكد أن اتساع مجال استخدام وسائط التواصل الإجتماعي كان له الأثر البالغ في إثارة موضوع إدراج كلمات عامية في مقرر دراسي وتحويله إلى قضية رأي عام. وهنا لابد من التذكير أن إدراج لفظ ” البغرير” تحديدا في الكتب المدرسية ليس جديدا، فقد ورد في مقرر “مرشدي في اللغة العربية” للسنة الثانية إبتدائي الذي تم اعتماده رسميا منذ الموسم الدراسي 2003- 2004 وظل متداولا في المدرسة حتى الآن. حيث نقرأ في الصفحة 87 في نص قرائي العبارة التالية: ((… أما أختي فكانت تحضر البغرير بالعسل))، وفي جملة أخرى: (( جلسنا نتناول فطور العيد: رغيفا بالزبدة، وشايا بالنعناع، وبغريرا بالعسل…)). وإدراج الكلمة في هذا النص له ما يبرره طبعا، ولا ضير في ذلك أبدا، بل إن المقتضى البيداغوجي يفرض ذلك كمدخل للإحتفاء بالثقافة المحلية والتشبث بالعادات والتقاليد الإجتماعية. أي أن استخدام كلمات من الدارجة في وضعية تعلمية معينة ليس غاية في ذاته، بل هو مناسبة للتربية على قيم الإنتماء والهوية… لكن إثارة الموضوع في هذا الوقت بسبب سلطة مواقع التواصل الإجتماعي تسائل “حراس الفصحى” المزعومين سواء كانوا حزبيين أو جمعويين، لأنهم ما كانوا لينتبهوا للأمر لولا ” الفيسبوك”، ولو كانوا يحرصون حقا على فصاحة اللغة كما يحاولون إيهامنا لتصدوا لبغرير 2003 قبل بغرير 2018..
لنسجل في هذا السياق أن ” البغرير” لفظ أمازيغي بامتياز ( أبغرير)، وهو بذلك يندرج ضمن ثقافتنا باعتباره نموذجا لعاداتنا وخصوصياتنا الغذائية، مثلما هو الشأن بالنسبة للكسكس مثلا. المفارقة هنا أن هؤلاء الذين ينصبون أنفسهم منافحين ومدافعين عن العربية الفصحى يستهجنون إدراج كلمة “بغرير” في مقرر دراسي بدعوى أن إقحام الدارجة في المدرسة يعد هجوما على اللغة العربية واستهدافا لمنظومة التربية والتكوين، لكنهم يتناسون أن “الكسكس” كلمة عامية أيضا من ( كسكسو) الأمازيغية، وقد وجدت طريقها نحو التداول في العربية الفصحى، وهو نفس الأمر الذي ينطبق على كلمة “سلهام” التي بات استخدامها عاديا في سياق تواصلي يستخدم اللغة العربية. وهذا أمر طبيعي لأن اللغات تحتاج للتجديد باستمرار عبر التلاقح في ما بينها، واستيراد المفاهيم وتبيئتها عملية ضرورية لمنح الحياة للغة وإنقاذها من النمطية والجمود. لذلك كان حريا بهؤلاء الذين يضجون بالشكوى والمظلومية أن يبادروا إلى إقناع مجمعات اللغة العربية بإضافة الكلمات المغربية التي لا تقابلها مرادفات في الفصحى إلى القاموس اللغوي، وذلك على الأقل امتنانا وعرفانا لدفاعهم المستميت عن كل ما يتعلق بالعربية والعروبة والتعريب والإعراب والأعراب.
الحقيقة أن مشكلة هؤلاء نفسية بالدرجة الأولى، فقد نشأوا على الإعلاء من شأن كل ما هو آت من بلاد نجد والفرات والشام، وفي المقابل تعودوا على التقليل من هويتهم الضاربة في جذور التاريخ. وتلك حالة مرضية تتمثل أعراضها في احتقار الذات واستصغارها إلى حدود الإحساس بالدونية، لذلك هم مستعدون للإستهزاء والسخرية من ثقافتهم وعاداتهم حتى لا تتلوث الفصحى بتخلف لسانهم الدارج. أما حديثهم عن الدستور فهو من قبيل ذر الرماد في العيون، لأن هؤلاء الذين يتحدثون عن لا دستورية إدراج كلمات من الدارجة في مقرر دراسي، لا نجد لهم موقفا في ما يتعلق بملف الأمازيغية. بل إنهم يساهمون سواء بصمتهم أو بتواطئهم في استمرار الترسيم الموقوف التنفيذ لمكون لغوي رئيسي وضعه المشرع في نفس المرتبة التي تحتلها اللغة العربية منذ إقرار الدستور الحالي في يوليوز 2011. لذلك فإن من يتحدث عن الفصل الخامس من الدستور يجب أن تكون له الجرأة السياسية والأخلاقية للمطالبة بتنزيل مقتضياته والمساهمة في تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وذلك قبل الحديث عن قضايا هامشية وتحويلها إلى بعبع لإثارة العواطف وتضليل الرأي العام.
الى الامام ان شاء الله