يواصل الروائي خالد الملاحظ، في هذا الجزء الثاني من الحوار، كشف أغوار وسياق إصداره الروائي الأول “متاهات فريد زمانه”، ويكشف لنا من خلاله علىأن “الأدب عموما، والرواية على وجه التحديد مدخلا للتشجيع على قراءة “التاريخ”، وأن توثيق أحداث معينة عبر حبكة قصصية، قد يستفز مضمونها القارئ ويحفزه على إعادة قراءة التاريخ بالبحث والنبش في الذاكرة للتحقق من المعطى التاريخي”.
مؤكذا على أنه “من الرسائل التي حملتها الرواية وبشكل واضح هي “نزيف الهجرة” و”سيزيفية الإنسان الريفي” في متاهات بحثه عن الاستقرار والعيش الكريم، وفي ذات حلقة المتاهة الوجودية هناك بحث عن الذات التائهة من خلال التنقيب المستمر عن الأصل، عن الجذور، حيث علم الهوية يبقى خفاقا حيثما حل وارتحل ..”.
ومضيفا كذلك على أن “نجاح أي عمل ينطلق من مدى قدرتنا على الاقتناع بأنه في مستوى تقاسمه مع الآخر وكذا الايمان بنجاحه، ولقياس هذه القدرة على المستوى الذاتي يمكن الارتكان لسلم السعادة حين قراءة ما نبدعه”
من الرسائل التي حملتها الرواية هي «نزيف الهجرة» و«سيزيفية الإنسان الريفي» في متاهات بحثه عن الاستقرار
هل هناك شخصية معينة في روايتك تعتبرها مميزة أو تشعر بالتواصل العميق معها؟
طبعا شخصية «فريد محمد الوهراني الأفريقي الريفي الورياغلي» نالت التميز في خضم أحداث الرواية. وفي اعتقادي كل واحد منا يجد له فرعا من ذاته في شخصية فريد من خلال الطموح، المعاناة، الانفعال وردود الفعل، الحظ، الحب، العناد، الآلام والآمال… وبديهي طبعا بحكم انتمائي لقبيلة آيت ورياغل أجدني أقرب إلى هذه الشخصية، وهذا لا ينفي تواصلي الحميمي مع باقي الشخصيات بل وتعايشي معهم كعائلة. وقد لا أخفيك سرا أنني في يوم ما كنت أراجع مسودات الرواية، وفي لحظة ما وجدتني أذرف دموعا تفاعلا مع حدث معين، فتداركت توازني متسائلا بابتسامة فيها الكثير من الحيرة: «أتراني صدقت إلى هذا الحد ما نسجت من أحداث هذه الرواية؟».
ما مدى حضور وتأثير الموروث الثقافي الأمازيغي ضمن أحداث الرواية؟
الموروث الثقافي الأمازيغي حاضر وبقوة في كل الأحداث والأماكن والشخصيات، انطلاقا من شخصية فريد المنتمي لقبيلة «آيت ورياغل»، واعتزازه بالانتماء إليها، بل والدخول في صف الدفاع عن القبيلة في صراع تاريخي مع قبائل أخرى «إبقوين مثلا» في إطار «روبوع». شخصية فريد الأمازيغي الذي يأبى الإذلال والحكرة ويعشق الحرية والكرامة، من خلال محطات «الاعتقال السياسي» «الانخراط في العمل النقابي بفرنسا». أما الشعر الأمازيغي المغنى، أو «إيزران» فهو حاضر عبر أبيات شعرية أغلبها من أدب المقاومة. الأمثال الشعبية الريفية كذلك حاضرة بل وعنونت بها حكاية «من قال لك واهران ذابيلاج واها؟». الوشم كتراث ثقافي يؤرخ لرقي الإنسان الأمازيغي في تشبعه بثقافته وهويته حيث الرسم على الجسد كنوع من الإفتخار بالانتماء في دلالاته الرمزية. وأهم شيء هو العلاقات الإنسانية في منظومة القيم، فحين أهدت السيدة ترايثماس أم فريد دملجا، بادرت هي الأخرى فورا إلى إهدائها قلة عسل وهي أعز وأثمن ما تملك. فالجود والكرم حاضر رغم الحاجة والعوز، وهنا جاز لنا القول بأن الكرم والكرامة حاضرتين عند الإنسان الأمازيغي ولو في أشد الأزمات. وأستشهد هنا بموناليزا الحوز، تلك العجوز التي أنهكها الفقر وزادها الزلزال تدميرا لكل ما تملك لكنها تقول للزائر: «هل لي بعنوانك حتى أبعث لك بالزعفران؟؟».
كما أنني حاولت اعتماد الأسماء الأمازيغية التي طالها النسيان من منطلق توثيقها من الاندثار، ولم لا إعادة نبض الحياة إليها مثل: «موحند» «اروازنة» «ترايثماس» «حيدوش ن عمر» «حميدوش» «أعمار» «موح» الخ.
هل للرواية رسالة اجتماعية أو ثقافية تحملها من خلال أحداثها؟
من الرسائل التي حملتها الرواية وبشكل واضح هي «نزيف الهجرة» و»سيزيفية الإنسان الريفي» في متاهات بحثه عن الاستقرار والعيش الكريم، وفي ذات حلقة المتاهة الوجودية هناك بحث عن الذات التائهة من خلال التنقيب المستمر عن الأصل، عن الجذور، حيث علم الهوية يبقى خفاقا حيثما حل وارتحل …
الرسالة الإنسانية تتجلى في النهاية التي اختتمت بها الرواية، فرغم المعاناة يختار فريد ارتداء عباءة الإنسان الكوني المتجرد عن الذات الضيقة وذلك عبر وهبه جثته للبحث العلمي بفرنسا، فريد الذي وثق تجربته الحياتية وأوصى بنشر مذكراته وبوهب مدخولها للآخر حتى تتم الاستفادة من تجربته.
هذا دون أن نغفل الحضور القوي لتيمة الذاكرة ـ كرسالة مشفرة ـ في سراديب الرواية، فهي تشكل حجر الزاوية في كل أحداثها، لكن في مسارين مستقلين وفي ذات الوقت متعانقين، فإذا كانت الذاكرة في المسار الأول هي تمثيل لأحداث الماضي وسرد لها، فإن الذاكرة في المسار الثاني والذي يفهم بين السطور طبعا هو التحذير أو المنع من القيام بنفس الأشياء (المتجاوزة!) التي تؤدي إلى نفس النتائج التي عانت المنطقة من ويلاتها. فنحن في اعتقادي نتذكر الماضي ليكون المستقبل أفضل (وصية فريد)، وإن لم يكن كذلك فسنظل عالقين في شباك أمجاد الماضي، نجتر تكرار بطولات قد تحَول بيننا وبين صناعة مستقبل يليق بنا كذات إنسانية. وهنا أستحضر عبارة لإنشتاين: «الغباء هو فعل نفس الشيء مرتين بنفس الأسلوب ونفس الخطوات وانتظار نتائج مختلفة».
كيف يمكن أن يساهم الأدب والرواية عمومًا في تسليط الضوء على تجارب الهجرة وتشكيل الهوية؟
كما سبق وأن أشرنا إلى ذلك سابقا، قد يكون الأدب عموما، والرواية على وجه التحديد مدخلا للتشجيع على قراءة «التاريخ»، فتوثيق أحداث معينة عبر حبكة قصصية / روائية، قد يستفز مضمونها القارئ / القارئة ويحفزه على إعادة قراءة التاريخ بالبحث والنبش في الذاكرة للتحقق من المعطى التاريخي. وهكذا ففي كل قراءة سردية لأي عمل إبداعي يخص الهجرة قد تتحرك فينا مشاعر الانتماء للمنطقة التي أتينا منها، وبدرجة أعلى عند المهاجر/ المهاجرة، حيث ارتفاع مؤشر الحنين للأصل، والرغبة في العودة الرمزية للجذور. وإن كان أحيانا نجد أن البعض يتنكر لأصوله في الظاهر، إلى أنه سيكولوجيا متشبث بهويته. وهذا الأمر عالمي في تكرار تجاربه، فنجد مثلا «شعراء المهجر» أو «أدباء المهجر»، خصوصا اللبنانيين المهجرين إلى أمريكا اللاتينية، المؤسسين لرابطة قلمية بمنطقة جغرافية بعيدة عن الوطن الأم أساسها الرمزي رفض الانسلاخ عن الوطن واللغة الأم، والتشبث بالهوية الأصلية.
لكل تجربة روائية تأثيرات، بالنسبة لكم، بمن تأثرتم من الروائيين؟
سأكون واضحا وبسيطا في التأكيد على أنه من خلال ممارسة هوايتي في القراءة والكتابة، أعجبت بكل الأعمال التي قرأتها لكل الكتاب والكاتبات، بيد أنه وبعيدا عن أية مقاربة «عنصرية» تأثرت بمدرستين لكاتبين من الريف أعتقد أن أعمالهما كان لها الفضل كل الفضل في منتوجي المتواضع، وهما الأستاذان: «محمد شكري» و»كمال الخمليشي».
هل لديك أي نصائح للكتاب الآخرين الذين يعملون على روايتهم الأولى؟
لا أنكر أنني بدوري أحتاج إلى نصائح، لأنني في بداية الطريق. ومع ذلك قد أقول استنادا إلى تجربتي المتواضعة، بأن نجاح أي عمل ينطلق من مدى قدرتنا على الاقتناع بأنه في مستوى تقاسمه مع الآخر وكذا الايمان بنجاحه، ولقياس هذه القدرة على المستوى الذاتي يمكن الارتكان لسلم السعادة حين قراءة ما نبدعه، بمعنى أنه يسرنا ويسعدنا نحن قبل الآخر… بعد ذلك يمكن تقاسم العمل مع من نثق في ملكات تقييم عملنا من الأقارب /الأصدقاء/ المهتمين بفعل القراءة، وانتظار ارتساماتهم وملاحظاتهم وتقبلها كيفما كانت، لأنهم الجمهور الأول والصادق والموضوعي.
ما هي خططكم المستقبلية فيما يتعلق بالكتابة؟ هل لديكم رواية أخرى في الأفق؟
لا أخفي سرا بأنني ترددت كثيرا قبل الإقدام على طبع «رواية متاهات فريد زمانه»، طبعا هذا التردد كان مرده الخوف من المغامرة في طبع عمل قد يكتب له الفشل في زمن قل فيه فعل القراءة. إلا أنه بعد نفاذ الطبعة الأولى في زمن قياسي «شهران فقط»، وبعد النقاش وردود الفعل التي بصم عليها هذا العمل، وبعد أن تلقيت العديد من الارتسامات الإيجابية حول الرواية، أجدني اليوم مثقلا أكثر من أي وقت مضى بمسؤولية المساهمة في تقاسم ما أكتبه مع العامة. ولربما هذه فرصة قد أعلن فيها أنني أشتغل حاليا على عمل بسيط ومتواضع دائما في صنف الرواية باللغة العربية.
كلمة حرة..
كل الشكر والتقدير والامتنان للصحفي خيرالدين الجامعي، وللطاقم الصحفي لجريدة «العالم الأمازيغي» على هذه الاستضافة المتميزة. أتمنى ألا أكون قد أطنبت في حديثي، ونزلت ضيفا ثقيلا على السادة القراء والقارئات.
كما أنني أغتنم الفرصة لأرفع القبعة لكل من ساهم / ساهمت في دعم نشر ونشر وصية فريد عبر العالم.
حاوره: خيرالدين الجامعي
اقرأ أيضا : خالد الملاحظ مبدع “متاهات فريد زمانه” في حوار مع “العالم الأمازيغي” (1/2)