خطاب العرش

يونس وانعيمي

اذا لم يكن للخطاب الملكي مستويان (على الأقل) من المضمون والمعنى، فهو ليس خطابا في الأصل.

وفق ذلك، من الطبيعي ان يتحدث الملك عبر بنيات مختلفة ويتحاور مع مخاطبين مختلفين في نفس الوقت، فهو خطاب ملكي مركب وليست دردشة عابرة مع أناس عرضيين.

مع من تحدث الملك في آخر خطاب العرش؟ هل خاطب المواطنين؟ هل توجه للشعب، للدولة؟ ألم يكن بصدد مخاطبة الأمة؟ وهل هناك فرق بين كل هته الجهات؟

تكلم مع المواطن اولا عندما ذكره بضرورة استمرار انضباطه لضوابط الوقاية الصحية مع وباء كورونا. مشيدا بانخراط الجميع في حسن تدبير المنهج المغربي في هذا الشأن. ولتحفيز طاقة الجميع كان من الضروري التعبير عن ذلك بلغة “الإشادة” والرضا الملكي.

توجه ثانيا لمؤسسات الدولة بما فيها الحكومة، عند حديثه عن الاقتصاد. وكان طبيعيا ان يتقلص هنا حيز التحفيز النفسي من خطاب الملك ليعوضه بلغة “ديكارتية” تقييمية وينعرج الخطاب لمتون إدارية مؤسساتية. لكن، ولأن الملك ليس بصدد توقيع تقرير جاف عن الاقتصاد، ولأن الفلاحة بقيت تحتل موقعا رياديا في بنية اقتصادنا، كان لزوما ان يتوجه الملك للفلاح ويترك في سطور خطابه لمسة دينية : إذ نحمد الله على رحمة سماءه هذا العام.

الملفت للنظر في آخر خطاب العرش هي علاقتنا بالجزائر. وهنا لا يخاطب الملك في هذه القضية، لا المواطن ولا مؤسسات الدولة ولا حتى الشعب (كبنية مركبة بين المغاربة وملكهم).. اعتقد انه يخاطب الأمة وهي مكون مركب شامل يضمن الشعبين المغربي والجزائري (مع استنباط انه موجه للأمة المغاربية كلها).
الخطابات الموجهة للأمة تكون عامرة بالمضامين الانتروبولوجية والنفسية الجامعة للانتماء (الدين، اللغة، الثقافة،المصير..) وهي خطابات وحدوية توحيدية. وبالتالي، فالملك عندما دعا لتجميع اواصر وحدتنا مع الجزائر كان لزاما عليه أن يدفع بمبررات مقنعة :

اولا، الكلام بدون استعلاء وقبول ذكي وحكيم للاعتراف بالأخطاء المشتركة المحتملة. بل الإقرار الضمني بوجود اخطاء ارتكبها الجيل السابق من القادة

ثانيا، التأكيد بعدم وجود أي مركب نقص في طي الصفحة مع الجزائر بل ومسامحتها بشكل مطلق على كل ما اقترفتها. والاسف على الملاسنات الدبلوماسية الأخيرة.. وهذا يستبطن اولا اسف الملك على تصريحات سفيره الدائم بالأمم المتحدة الذي آزر القبايل في تقرير مصيرها.. طبعا عمر هلال لم يكن ليقول ذلك لولا تأشير جهات عليا على كلامه.. الا نفترض ان ورقة القبايل كانت ورقة ضغط ليس إلا لتعبيد الطريق أمام خطاب ملكي يدعو الجزاىر للجلوس حول طاولة مفاوضات مصالحة؟

ثالثا، وضع الخطاب الملكي قدما يمنى داخل بيت الجزائر عندما أخبرها بأنه يعطي للرئاسة الجزائرية صلاحية اختيار زمن ومكان تنفيذ دعوته الأممية. هل هي حسن نية ذات صفة عملية تنفيذية ام هو توريط دبلوماسي أمام مسامع المنتظم الدولي. لأنه في حالة عدم استجابة الجزائر لمقترح المغرب، ستدخل علاقاتنا الثنائية في نفق عنف وعنف مضاد (على الأقل في مستوى الخطاب الدبلوماسي)

لكن الخطاب ليس فقط ما قيل.. بل أيضا ما تم التغاضي عن قوله
لم يتحدث الخطاب الملكي عن الاستحقاقات الانتخابية الهامة التي يمر منها المغرب.. ولم ينبس بكلمة حول تقييم عمل الحكومة علما ان رئيس الحكومة سلم تقرير منجزاته رسميا. نفهم المسافة المنهجية التي أخذها الملك مع السياسة الحزبية لكنه ربما كانت هذه الاستحقاقات محتاجة لتوجيهات ملكية على مستوى سيرها العام وضمانات نجاحها. هل الملك متوجس بأنه مع الجائحة وازدياد عدد الاصابات المقلق، سيكون من الصعب إجراء انتخابات اصلا؟؟

تفادى الملك الحديث عن تشنجات علاقات المغرب مع أسبانيا والمانيا وإدخال المغرب في دوامة اتهامات استخباراتية تحركها صراعات مواقع ومصالح مع أوروبا. ربما تم الوصول لعقيدة دولة جديدة مفادها : اهم معضلة هي استكمال وحدتنا الترابية عن طريق استكمال وحدتنا الإقليمية مع جوارنا المغاربي… وبالتالي لم تحظ أسبانيا بنفس الأهمية التي كانت تحظاها في السابق في سطور كلام الملك. هي ضربة غير مباشرة وجهها الملك لإسبانيا عنوانها ان مشاكلنا معك ليست بنفس الأهمية الاستراتيجية مقارنة مع مشكلتنا مع الجارة الجزائر.

شيء مهم لن يتحدث عنه الملك طبعا حتى ولو لمح اليه قليلا.. مشكلتنا مع الجزائر هي نزاع تقاطب قوة على المستوى الاقتصادي.. والجزائر تعتبر نفسها لحد اليوم الدولة الرائدة اقتصاديا وبالتالي ديبلوماسيا.. وتتحجر كلما ربح المغرب نقاطا جديدة في التنمية الاقتصادية لأن ذلك سيفضي لبلوغه موقع إقليمي وقاري ريادي (اعترفت مخابرات ألمانيا بذلك). الملك يعي ان مشكلتنا الحدودية مع الجزاىر لها تبعات اقتصادية إذ تضيع علينا اكثر من نقطة في الناتج الإجمالي الخام.. وفتح الحدود وفتح قنوات التعاون الاقتصادي سيمنح للمغرب والجزاير نقطا اضافية. المشكل يبقى في الريادة الدبلوماسية : هل نتقاسمها سويا؟ عقلية الجزاىر بقيت “قذافية صدامية ناصرية”. عقلية محمد السادس أوروبية (نظرا لتكوينه الاستراتيجي الشخصي داخل مراكز قرار الاتحاد الأوروبي) تستلهم من الاتحاد الأوروبي فلسفة اقتصادية قحة مفاذها : لا تهم الريادة الكلية ان هي كانت فارغة من مقومات الازدهار الاقتصادي… بأوروبا هناك تبادل أدوار ريادية متوازن بين مكونات الاتحاد الأوروبي (خصوصا بين فرنسا والمانيا). وبالتالي فمحمد السادس لديه مسبقا خطة طريق تنموية، بتفاصيلها الاجرائية سيعرضها على قصر المرادية. فقط بقى لقادة الجزائر ان “يترجلوا” من على صهوة ذلك الحصان الدونكشوتي المريض.

شاهد أيضاً

«مهند القاطع» عروبة الأمازيغ / الكُرد… قدر أم خيار ؟!

يتسائل مهند القاطع، ثم يجيب على نفسه في مكان أخر ( الهوية لأي شعب ليست …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *