درس محمد جلول

بقلم: خالد البكاري

لطالما كنت أستغرب من صك الاتهام الموجه لمعتقل حراك الريف حاليا ومعتقل حركة 20 فبراير سابقا الأستاذ محمد جلول، ومبعث الاستغراب أن الاتهامات الموجهة له بالتآمر هي تهم تدين الدولة المغربية، باعتباره كان معتقلا بسجونها لمدة خمس سنوات، ولم يعش من زمن الحراك سوى شهر، فلو صح تآمره لصح بالتبعية محاسبة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية ومؤسسة السجون التي لم تنتبه لمؤامرة كان يقودها الأستاذ جلول من مختلف السجون التي كان يتم تنقيله لها (الحسيمة، جرسيف، تيفلت)، لكن حين تكلم الرجل مساء الإثنين الأخير أمام محكمة الجنايات بالدار البيضاء تأكد لي أنه يدفع ضريبة أفكاره والنموذج الذي يقدمه.

لقد حاكم الرجل بأفكار مرتبة حصيلة دولة ما بعد الحماية، أو دولة “الاحتقلال” بعبارة الأمير الخطابي، دولة مزجت في كيمياء عجيبة بين الإرث اليعقوبي الموروث عن الحقبة الكولونيالية، والإرث السلطاني القائم على ثنائية بلاد المخزن ( الذي سيتحول للمغرب النافع) وبلاد السيبة ( المغرب غير النافع في دولة ما بعد الحماية)

يدافع الأستاذ جلول وببناء حجاجي متماسك عن دولة الجهات التاريخية / الأوطونوميات ، دولة في اعتقاده تمثل الجواب السياسي والإداري عن احترام الخصوصيات الثقافية والتاريخية والسوسيومجالية في إطار الوحدة الوطنية التي تتجاوز الوحدة الترابية.

ما يطرحه الأستاذ جلول في مرافعته يحرج النخب السياسية والثقافية والحقوقية التي اعتبرت أن نقاش الجهوية المتقدمة قد وضع على سكته الصحيحة بعد دستور 2011، ويعيد النقاش لنقطة الصفر، أو للسؤال الذي لم يطرح، فنتجت عن تغييبه أجوبة خاطئة، من قبيل التقطيع الجهوي غير المرتكز على أي اعتبارات تاريخية أو ثقافية أو سوسيولوجية تبرره، هذا فضلا على أن أجرأة هذه الجهوية على علاتها لم يجعلها تتخلص من سلطة وصاية المركز، مما جعلها مفرغة من أي مضمون محفز لتنمية مستدامة تنطلق من الإنسان والمجال.

الغريب، وبعد سنوات من “التيه” ومن “التجريبية” في مقاربة ملف الصحراء، لم تجد الدولة المركزية بدا من وضع مقترح الحكم الذاتي ضمن السيادة المغربية باعتباره شكلا من أشكال تقرير المصير.. لا ينكر أحد أن المقترح أربك خصوم المغرب، وجعل المغرب يستعيد زمام المبادرة بعد أن ركن في زاوية ضيقة حين لم يكن لتقرير المصير من صيغة سوى الاستفتاء، لكن العطب كان كامنا في أن بنية الدولة التي طرحت هذا المقترح لم تتخلص من المركزية واليعقوبية ،، فكانت الفرصة مواتية أمام مجموعة من النخب المتحررة من الانتظارية لطرح مشروع دولة الجهات التاريخية مستفيدة من مأزق ملف الصحراء ومن تجارب دولية رائدة في بلدان تشترك مع المغرب في تنوعه اللغوي والثقافي والجغرافي،، ومن غرائب الصدف أن كانت مدينة الحسيمة ( وعموم شمال البلاد) سباقة لاحتضان هذا النقاش الذي أفرز ديناميات، من بينها دينامية الحركة من أجل حكم ذاتي بالريف. وقد “تساهلت” السلطة حينذاك مع هذه الديناميات التي كانت بعض أنشطتها تنظم في فضاءات عمومية، مستفيدة من أجواء هامش ديموقراطي (سرعان ما أغلق قوسه) واكب مراهنة الدولة على ورقة العدالة الانتقالية لبناء مشروعية دولة ما بعد الحسن الثاني.

يدافع الأستاذ محمد جلول عن حق المطالبين بحكم ذاتي في الريف في التعبير والتنظيم، ويرى ذلك غير متعارض مع أفق الوحدة الوطنية، بل لا يفهم كيف نمتع منطقة بهذا الحق ونمنعه عن أخرى، لكنه لا يعتبره خياره، بل يدافع عن خيار الأوطونوميا،، أو الجهوية المتقدمة، ولكن المنطلقة من تقسيم يراعي الجهات التاريخية ( الريف، الأطلس، الصحراء…)،، دولة تتخلص من أعباء الإرثين الكولونيالي والسلطاني/ المخزني ، وتعيد بناء اللحمة الوطنية الجامعة على أسس الخصوصيات المحلية ، وفي إطار التضامن بين الجهات.

ما يطرحه الأستاذ جلول من شأن فتح نقاش وطني حقيقي حوله دون خطوط حمراء ورقابات ذاتية أن يفتح إمكانا للانتقال من المقاربات الكلاسيكية القائمة على مفهوم الوحدة الترابية نحو مقاربات أكثر شمولية ومردودية منطلقة من مفهوم الوحدة الوطنية،، وهذا الإطار هو الكفيل بتحرير الطاقات وانطلاق ديناميات معبأة ومعبئة ضمن رؤية تستدمج تحرير الإنسان في علاقته بالثروة اللامادية المنتجة للثروة المادية، تحريره باحترام خصوصياته وخصوصيات مجاله.

درس محمد جلول يمكن اختزاله في أن المصالحة التاريخية بين المركز وباقي الجهات التاريخية تقتضي الاعتراف بحق هذه الجهات في تقرير مصيرها السياسي والاقتصادي والثقافي على أرضية الوحدة الوطنية التي هي التجسيد لمقولة: الوحدة في إطار التعدد،، ولكي نفهم الدرس جيدا يقتضي الأمر تحرير مفهوم تقرير المصير مما تلبس به من شوائب تهويلية … أتمنى أن أكون استوعبت درس الأستاذ أو بالأحرى رسالته للمستقبل….

abouiyad.khalid@gmail.com

شاهد أيضاً

أكادير تحتضن الملتقى الأول لتجار المواد الغذائية

تحتضن مدينة أكادير من 24 الى 26 يوليوز الجاري الملتقى الأول لجمعية تمونت لتجار المواد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *