عندما نغوص في ميثولوجيا المجتمعات البشرية، أي العلم الذي يهتم بدراسة الأساطير و فلكلور المجتمعات البشرية، وكل ما له علاقة بما تحتفظ به الذاكرة الجماعية للأفراد، فإننا منذ البداية، نحكم على أنفسنا، أننا في عالم غير مرئي مليء بالألغاز والأسرار، يتطلب منا أن نتسلح بترسانة من المفاهيم والمعارف، والأليات المنهجية للبحث العلمي الحديث، بعيدا عن كل المسلمات والأحكام المسبقة والتأويلات السلبية التي تختزل كل هذه المتن المعرفية بأنها مجرد خرافات وأساطير الأولين.
كان الإنسان منذ بداية نشأته على هذا الكون، يحاول سبر أغوار هذا العالم من أجل ترويض الطبيعة وجعلها مطيعة لنزواته وحاجياته اليومية، فكلما شعر الإنسان -البشر- بنوع من الخوف داخل المحيط الذي يعيش فيه، المليء بالأحداث والظواهر الطبيعية (الزلازل، البراكين، النار، طلوع الشمس وغروبها …).
كلما زاد هذا الخوف من الظواهر الطبيعية، كلما لجأ الإنسان إلى التضرع والتوسل منها من أجل النجاة والبقاء على قيد الحياة، وقد يكون الخوف من الهلاك والموت هو وراء ظهور مجموعة من العبادات والطقوس الدينية المرتبطة بالظواهر الطبيعية، والتي جعل منها الإنسان آلهة له، يتوسل إليها ليلا نهارا، ويقدم لها القرابين والأضاحي لعله يضمن لنفسه نوع من الحماية والبقاء على قيد الحياة.
فمثلا إنسان النياندرتال الذي تحدثت عنه كتب التاريخ وعلم الأركيولوجيا الذي كان السباق إلى اكتشاف النار حسب مجموعة من المقالات العلمية التي تم نشرها في هذا المجال، جعل من النار إله خالدا لا يموت، حيث تعددت الاستعمالات للنار عنده (الحماية، الطهي، الإنارة …) حتى سارت النار من العبادات الدينية إلى يومنا هذا.
وعند العرب في شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، كانت هناك مجموعة من الأساطير والقصص نسجت حول الأصنام والأوثان، والتي أعطت لها نوعا من الشرعية الدينية للتعبد والتي سارت ضمن الديانات الوضعية قبل ظهور الديانات السماوية في الجزيرة العربية، فمثلا الإله “مناة” عبارة عن صنم يتضرع له العرب حتى قبل وبعد ظهور الإسلام يذبحون ويهدون له قرابين حتى سار المتعبدون له يطلقون على أنفسهم “عبادة مناة”.
أيضا صخرة اللات “الربة” التي أقسم بها العرب وكانوا يعلقون عليها السيوف والقلائد ويطوفون حولها وجعلوا منها سيدة عليهم، إلى يومنا هذا لازال بعض أضرحة الأولياء ومزاراتهم تعلق عليها قطع من المعادن الثمينة.
وهناك ايضا آلهة العزى وهبل … وهي كلها من الآلهة الوضعية لدى العرب.
ما يهمنا نحن في هذا الموضوع هو كيف كان الأمازيغ ينظرون إلى بعض الظواهر الطبيعية والأحداث التي تقع حولهم، وكيف حاولوا تفسيرها وإعطاءها نوعا من الإجابات الوضعية رغم تعدد الأغراض.
في هذا الموضوع سنحاول أن نسلط الضوء حول جزء من الميثولوجيا الأمازيغية في منطقة الجنوب الشرقي، التي لم تنل حظا هاما من الدراسات التي أنجزت على الثقافة واللغة الأمازيغيتين.
تحتضن منطقة الجنوب الشرقي جزءا غنيا من الموروث الثقافي الأمازيغي من حكايات، أساطير وشعر… والتي لازلت الذاكرة الجماعية تحتضنها.
بكثير من الخوف والمجازفة، من احتمال ضياع واندثار هذا الجزء المهم من الثقافة والأدب الأمازيغي الشفهي، جراء الإهمال والتعالي اللذين يتعرض لهما، على الرغم من جمالية وغنى مضامينه التي تشهد بذلك نصوصه، ارتأينا في هذا الموضوع أن نغوص في جزء من هذا الموروث الشفاهي
هنا سنتناول مغزى تلك البقع السوداء التي تظهر على القمر حسب ما تحتفظ به الذاكرة الجماعية في المنطقة، تسمى تلك البقع السوداء لذى ساكنة الجنوب الشرقي خصوصا في منطقة أمغى، أسيف ن-غريس وفركلة ” taќuli n-tmɛddebin تكولي ن-تمعدبين”.
أي تلك البقع السوداء تسمى بالأمازيغية “تكولي” التي تظهر على وجه النساء أثناء الحمل وبعد الولادة، وقد تظهر أيضا على وجه بعض الفتيات الجميلات اللواتي يتزين وينظرن إلى المرآة في الشمس، حسب الرواية الشفوية، انعكاس اشعة الشمس في المرآة هو سبب ظهور تلك البقع السوداء في الوجه.
لكن السؤال من هن المعذبات حسب التسمية المتداولة في المنطقة؟
حسب الرواية الشفوية في المنطقة، تعود أصول هذه التسمية إلى امرأة حقودة حاولت السحر للقمر من شدة جماله، والذي تربطه علاقة حب بفتاة جميلة يتيمة الأبوين في المنطقة، هذه العلاقة لم تلقى قبول المرأة الحقودة، مما سيدفعها إلى الكيد للقمر والفتاة اليتيمة.
ذات يوم دخلت تلك المرأة إلى غرفة مظلمة ذات فتحة صغيرة تطل على غرفة الفتاة اليتيمة وتدخل منها أيضا أشعة الشمس، ووضعت مقابلها إناء مملوء بالماء يعكس صورة الفتاة اليتيمة عندما تضرب أشعة الشمس في الإناء، ولما رأى القمر صورة محبوبته أراد مفاجأتها والدخول إليها، لما دخل أغلقت عليه المرأة الحقودة الفتحة وبقي هناك، كل يوم تسكب عليه الرماد كي تغير ملامح جماله.
بكيت المحبوبة من شدة غياب حبيبها، ولم تكن تظن بأن هناك لحظة فراق، وأن الغياب والألم سيملآن حياتها، بحثت عن بصيص أمل بعد هذا الغياب الجارح لكن دون جدوى.
في ليلة من ليالي الشتاء الباردة، رأت أشعة نور تنبثق من فتحة صغيرة في الجدار، اقتربت منها وتعرفت عليه من الوهلة الأولى وارتمت عليه من شدة الشوق إليه وأخدت تمسح الرماد عليه فحكى لها كل شيء وقال لها علينا الرحيل من هذه الأرض إلى السماء بعيدا عن كيد ومكر الإنسان لأخيه الإنسان، فأخدها معه إلى السماء وظلت صورة عناق الفتاة لحبيبها القمر منقوشة على وجهه إلى يومنا هذا.
وقد نجد روايات أخرى مختلفة من حيث الأحداث والشخوص في المنطقة، مثلا نجد أن هناك من يرى أن أصل الأسطورة يعود إلى امرأتين تنافستا على حب أمير وسيم، مما دفعهما إلى خوض غمار تحد في السحر، أي أن التي ستسحر لشيء خارق تفوز بحب الأمير، الأولى سحرت شفاه الحمار حتى أصبحت ليومنا هذا تحمل، أما الثانية فقد سحرت للقمر وغطت وجهه ببقع سوداء لازلت تظهر عليه إلى يومنا هذا حسب الرواية.
ولازالت بعض التعابير الشعبية المتداولة في المنطقة تحتفظ على تعابير لها ارتباط بهذا التحدي في السحر الخارق، يقال مثلا في الدارجة المغربية:
Wllah waxxa tgid tnna-d ișḓṛn ayur
والله وخا تكوني أنت لطيحتي القمرة
Ini kiy ayd ișḓṛn ayur
قول انت لطيحتي القمرة
وهناك رواية أخرى ذكرها محمد أسوس في كتابه “كوكرا في الميثولوجيا الأمازيغية” حيث يقول أن أصل البقع السوداء الموجودة في القمر، يعود إلى زمن كانت فيه الأحجار عبارة عن قطع خبز يأكل الإنسان الأحجار كأنها خبز، وفي ليلة من ليالي الصيف الهادئة أخد الأمازيغ يلعبون رقصتهم المعهودة و المعروفة رقصة “أحيدوس، أحواش” حيث ظلوا يمرحون ويلعبون و يرددون الأشعار رجالا ونساء تحت سطع نور القمر وكانت هناك امرأة ترضع طفلها الصغير في جوار “أيت أحديوس” أي الذين يلعبون “أحدوس” و لما شبع الطفل من حليب أمه أطلق برازه، لم تجد الأم في جوارها غير قطع خبز لتمسح بها براز طفلها، و لما قامت بذلك الفعل الغير اللائق بها، غضبت الطبيعة منها و من كل الحاضرين هناك، ورفعت السماء عن الأرض، صعقت المرأة و رضيعها عن الأرض و التصقا بالقمر، و بقي أثرهما إلى يومنا هذا على وجه القمر الذي هو عبارة عن بقع سوداء.
هذه بعض الدلالات والتفسيرات التي حاول أمازيغ هذه المنطقة إعطاءها لتلك البقع السوداء التي نراها على القمر والتي طالما كنا نتساءل عن مغزاها قبل ظهور التكنولوجيا وغزو الفضاء.
لذا فمهما تغيرت الأزمنة والأمكنة والأشكال التعبيرية فالثقافة الأمازيغية متجذرة ولم تتغير في مخايل الإنسان المغاربي، وهذا ما يجعل من ثقافة الشعوب المطلة على البحر الأبيض المتوسط ثقافة ذات أبعاد مشتركة.