السؤال الجوهري الذي يطرحه هذا الصراع هو لماذا الهجوم على الإباضيين في الجزائر، وفي هذا الوقت بالذات؟
التاريخ يطلعنا على أن الصراع لم يكن وليد هذه اللحظة، بل يعود إلى البدايات الأولى لتشكل الدول والإمارات في منطقة شمال أفريقيا باسم العقيدة الإسلامية، إلا أن هذا الصراع القديم/الجديد عرف في مراحله الكبرى مدا وجزرا لأسباب يكثر الحديث فيها، وتحتاج إلى تحليل تاريخي وسوسيولوجي معمق (سوسيولوجيا الأديان)؛ حسبنا في هذه المقالة المُساهمة ببعض الأفكار في النقاش المُواكب لهذه الوقائع العنيفة والمؤلمة في ذات الآن.
في تقديري الشخصي يرتبط هذا الهجوم بقضايا استجدّ بها السياق السياسي والتحولات الجارية التي تجتازها منطقة شمال أفريقيا برمتها، ونجمل تلك القضايا، بشكل عام، في الآتي:
– عودة ظهور وقيام الدول الأمازيغية في منطقة الصحراء الكبرى، وخاصة إعلان قيام دولة أزواض سنة 2012 في منطقة شمال مالي أي جنوب الجزائر، وهو ما لا يروق لهذه الأخيرة في مرحلة تعرف هشاشة تماسك الدول في هذه المنطقة نتيجة الأعمال المسلحة التي تقودها حركات سياسية معارضة لأنظمة شمولية قائمة على مذهب واحد ووحيد؛
– التقاء الأمازيغ في الجزائر، وخاصة في المناطق الجنوبية، مع نظرائهم في ليبيا حول المذهب الإباضي وتقاسهم لفلسفة هذا المذهب في العقيدة وفي ممارسة السياسة وشؤون الحكم، غير أن المشكل المطروح في هذا الباب، بالنسبة لقصر المُرادية، هو أن الأمازيغ الإباضيين شكلوا فرق ومجموعات مسلحة يتواجد أغلبها في المناطق الليبية المحاذية للحدود مع الجزائر، مما فرض سيناريو مرشح للتطور في المستقبل نحو تنسيق مفترض يشمل المنطقة الصحراوية الليبية-الجزائرية، ويفرض واقعا جديدا، وتساعد في ذلك شساعة الصحراء الجزائرية وصعوبة التحكم الكلي في مجريات الأحداث فيها؛
– منافسة وصراع حامي الوطيس بين النخبة السياسية التقليدية وبين نخبة جديدة بدأت تبرز على مسرح الأحداث، وفي ظل التغيرات التي تجتازها الجزائر، وخصوصا الصراع في مربع الحكم بين أبناء الهوامش والمناطق البعيدة وبين النخب المركزية في المدن الكبرى في الشمال. كما أن واقع منطقة القبايل الذي يجنح نحو الاستقلال لا يريد قصر المُرادية أن يتكرر في منطقة مزاب، ولاسيما لدى جزء كبير من النخبة السياسية المنتمية إلى جبهة التحرير الوطني المتشبعة بفكرة الوحدة المطلقة، وهو ما ترى فيه فرصة إضافية نحو التقسيم والتشتيت وفرض واقع جديد ينضاف إلى الواقع القائم اليوم في منطقة القبايل؛
– وصول الصراع الفكري والإيديولوجي والمذهبي إلى عمق المؤسسة الدينية الرسمية التي احتكر فيها الفقهاء المالكيون المتشبعون بالفكر الوهابي وظيفة الإفتاء وتوجيه الجمهور في المسائل العقدية، ولكن أيضا في القضايا ذات الارتباط الوثيق بالسياسة وبالهوية، وخاصة ما يتعلق بالارتباط الجماعي الوجداني لفئات مهمة من الشعب الجزائري مثل قضايا فلسطين والحج وغيرها من المسائل الدينية في ارتباط بالسعودية؛
– التأثير الخارجي بمختلف الوسائل، وخاصة منها الأمور الدينية. فقد قامت السعودية في السنوات القليلة الماضية بترجمة القرآن إلى اللغة الأمازيغية وتوزيعه على نطاق واسع في الجزائر مع ما يصاحب ذلك من دعم وتمويل لجيوش من الفقهاء والوعاظ ورجال الدين لنشر تلك المبادئ والقيم، وذلك استشعاراً منها لبداية مرحلة جديدة في تعامل الناس مع التصور المشرقي للدين، وكأنها محاولة جدية من تلك المراجع لثني الناس للعدول عن المشاريع الجديدة المطروحة حاليا في الجزائر والبقاء في الدائرة المسطرة لهم سلفاً، ولو باللغة الأمازيغية هذه المرة؛
– اتساع دائرة المناطق الرافضة للحكم المركزي والتي تنزع نحو شبه استقلال ذاتي شكّل حجرة في حذاء الجندي المتحكم في دواليب الدولة الجزائرية، وهو ملف يدفع تلك العقلية الأمنية لتقديم تنازلات لم تكن في الحسبان في قضايا أخرى إقليمية ودولية تواطئت فيها النخبة العسكرية والسياسية المتحكمة بالجزائر من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، ويزداد هذا المطلب الجهوي الملح في ظرفية اقتصادية واجتماعية جد خانقة تجتازها الجزائر نتيجة مشكل الحكامة وتفشي الفساد وتقلبات الاقتصاد العالمي وهيمنة نموذج الدولة التقليدية لدى النخبة الماسكة بزمام الأمور والقائمة على منطق الضبط والمراقبة بدل منطق المشاركة والتنمية.
مجمل القول أن هذه القضية تطول بصددها الأسباب والدواعي وتتشابك خيوطها من المحلي إلى الإقليمي والدولي؛ لكن يبقى الشيء الثابت هو الانتهاك الجسيم لحقوق الإنسان من طرف السلطة القائمة والمجموعات التي تم توظيفها لتنفيذ مخطط إرهابي سيقضي، حالاً أو مستقبلاً، في حالة عدم التصدي له بمختلف الوسائل المشروعة، على كل المشاريع المكرسة للتعدد والتنوع وفلسفة الاختلاف بما في ذلك الاختلاف في قراءة النص الديني وتأويله. وهي المهمة والوظيفة الأساسية لهيأة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ومجلس حقوق الإنسان.