أدوات رعب ودمار تحولها أنامل حداد إلى أدوات تزيين وتجديد الحياة، هكذا تعامل أهل صاغرو مع مخلفات معركة بوكافر، التي دارت أحداثها بين قبائل أيت عطا بقيادة أمغار عسوا أوبسلام، وبين المستعمر الفرنسي، سنة 1933، بجبال صاغرو بالجنوب الشرقي للمغرب، بعد انتهاء المعركة ظلت القنابل وشظاياها والرصاص منتشر بكثرة بين جبال بوكافر، قبل أن يتخذه السكان مصدر مجاني للنحاس والحديد، لكن قد يدفع المرء حياته أو أحد أطرافه ثمن خطأ بسيط يرتكبه في سبيل إعادة تدوير هذه المخلفات، وبهذا قد تكون شظايا قذيفة مزقت جسد مقاوم باسل حولها أبناه وأحفاده بحنكة حداد ماهر إلى سكين ينحرون به أضاحيهم في الأعياد والمناسبات أو محراث يحرتون به أرضهم.
أدوات يومية من شظايا القذائف:
“إننا نخاطر بحياتنا من أجل لقمة العيش هذه هي حرفتنا” هكذا رددها باسو وهو اسم مستعار لحداد في الخمسينيات من عمره فضل عدم الكشف عن هويته، عندما قصدناه ليحكي لنا تجربته في الاشتغال على بقايا مخلفات معركة بوكافر، فإعادة تدوير مخلفات القذائف وشطايا القنابل تشكل مصدر رزق للحداد في ذلك الوقت رغم أن هذا العمل يحف بالمخاطر، فهم يشتغلون في ورش تقليدية ويحولون هذه المخلفات بأناملهم إلى أدوات تستعمل في الحياة اليومية من خناجر، سكاكين، ومهاريز، وأدوات فلاحية من فؤوس، معاول ومحارث إلى غير ذلك، كما يصنعون منها حدوات الخيل ولجامه.
من المعروف أن حرفة الحدادة في بلاد أيت عطا قديما يحترفها ذوي البشرة السوداء لا غيرهم، لذا قصدناهم، بذلك الدوار الغير بعيد عن مركز اكنيون، حين أثار هذا الموضوع فضولنا يوم العثور على قذيفة حربية تعود الى الفترة الاستعمارية بالثكنة القديمة (القشلة) المطلة على مركز اكنيون، وتفجيرها بشكل أمن من طرف السلطات المختصة في مكان خال، اتجهنا مباشرة بعد دخولنا الدوار إلى ذلك الباب المسودة جنباته، ينبعث منه دخان خفيف نراقبه يشق السماء في هذا البرد القارس، عند الباب أبطأنا الخطى لنلقي بالتحية على من كان بالداخل، ألح باسو بوجهه البشوش إلينا للدخول قبل أن نلقي التحية، ولا أن يعرف سبب مجيئنا حتى، برودة الجو عجلت الترحاب بنا في هذا الورش الصغير الذي بني بالحجر، يتوسطه موقد ناري يدفئ المكان، باسو ببشرته السوداء حداد ابن حداد تلمذ الحرفة على يد والده الذي ورثها هو الأخر عن والده على غرار حدادي المنطقة، طبقا للمثل الأمازيغي “kud ikkat umzil ittlmad memmis”.
هم باسو الجالس قرب الموقد بدوران عجلة دراجة قديمة، مثبتة قربه، يستعملها لتحريك الكير أو المنفخ، فما ان حركها حتى زاد الجمر احمرارا، وهو يسترسل في حديثه حول غلاء الأسعار، لا ندري ان كان هذا هو موضوع حديثه مع هذا الرجل الجالس قربه، أم أن قدومنا غير الموضوع، يجلس غير بعيد عنهما شاب في مقتبل العمر غارق في هاتفه، تبين أنه ابن باسو بعد أن أمره بأن يساعده في طرق فأس وضعه على السندان بعد أن أخرجه من الموقد، تركنا باسو في صمت نتأمل ونتجول ببصرنا في هذا المحل الذي اسودت جدرانه بفعل الدخان، نستمتع بصوت المطارق المتناوبة على الفأس، يتبع الحداد كل ضربة بصوت انفجاري يشكل على مسامعنا هاء مفخمة مشددة، صوت يدل على الجهد الكبير الذي تتطلبه هذه العملية، ما ان أعاد الفأس للموقد حتى أسرع الابن إلى هاتفه، ما يجعل تعليق باسو على الوضع فتحت لنا المجال لمشاركة في النقاش حول أباء اليوم الذي تستهويهم التكنولوجيا والعالم الرقمي غير مهتمين بتعليم حرفة الأجداد، تذكرت المثل الأمازيغي أعلاه مع تغير في التعبير والمعنى وقلت في نفسي “mqqar da ikkat umzil ur da yad ittlmad memmis”مما ينذر بأن الحرفة تعيش أخر أيامها، كما يقول باسو موجها كلامه لابنه، الذي فضل السكوت والانشغال بهاتفه، يؤيده موحى الذي كان يتبادل معه أطراف الحديث من قبل -يبدوا انه أحد زبناء باسو أو أحد معارفه- على أن أبناء اليوم سواسية، ابتسامتي جعلته يواجهني: “ها هو يبتسم، أين هاتفك أنت؟ أم أنك امسكتها بالخارج حتى لم تتقوى لمقاومة البرد ودخلت لتدفأ يديك لتعود إليها”، يضحك، يسأل باسو هو الأخر مزحا إينا إن لنا عمل غير الهاتف، عرفته على نفسي، تمهيدا لطرح الموضوع، قبل أن أرد عليه أني لازلت أتابع دراستي العليا، أكيد أنه يعرف من خلالي ملامحي وكلامي أني ابن المنطقة، رد على أنه يعرف الكبار من عائلتنا، وأنهم زبنائه.
ترددت بين أن أكشف لباسو وصديقه سبب زيارتنا، وبين أن أستدرجه في الحديث إلى الموضوع، لمعرفتي أن كبار السن يخشون التدوين، ويخافون الكتابة، ولو كان الموضوع بسيط، في الأخير قررت أن أصارحهم بالموضوع الذي أنا بصدد البحث عنه، تحاشوا الحديث في الموضوع، وأكدت لهم أن ليس في الأمر أيت خطورة بالعكس أنه إرث تاريخي يستوجب علينا تدوينه والحفاظ عليه، لتطلع عليه الأجيال القادمة، ولإقناعه خيرته بين أن أبين هويته من عدمه، ففضل عدم ذكر إسمه في الموضوع، واسترسلت في شرح الموضوع مؤكدا أن ما قام به الحدادين بالمنطقة في تحويل مخلفات الحرب من أسلحة دمار ورعب إلى أدوات للاستعمال اليومي ومجوهرات للتزيين كان عملا جبارا ونوع من الثأر من الاستعمار بطريقتهم، رغم خطورتها، ملامح وجهه وأنا أحدثه توحي أن له ذكريات وقصص مع الموضوع لذى قررت أن أسأله مباشرة إن كان قد اشتغل من قبل مخلفات الحرب فقال بلكنة قوية يتضح أنه يتأسف عن ذلك: “وحده الله يرعانا لولاه ان لم ندفن أشلاء فسيبطر أطرافنا لكن الحمد لله لم نصب بأي أذى” فحكى أنه روى له أبوه حكاية حداد ذهب إلى جبال بوكافر ليحظر بعض شظايا القنابل وبقايا القذائف، التي تعد مصدر أجود أنواع الحديد لديهم إلى اليوم، فعثر على قنبلة بحجم قالب السكر، قرر تفجيرها بطريقة تقليدية، فوضعها وسط كومة كبيرة من الحطب وأشعل النار، هرب بعيدا وظل ينتظر أن تنفجر لكن دون جدوى، فعاد إليها ليضيف عليها الحطب، فما ان حركها حتى حولت جسده الى أشلاء، وأضاف أنه رغم خطورة العملية فاستثناءات هي من تعرضت لإصابات خطير فالكل يتعامل معها بحذر وحرص شديد مؤكدا ان الجميع يعلم أنه يشتغل على البارود، وأن من يعمل لكسب الرزق الحلال لن يصيبه أي مكروه، مؤكدا بأغلب السكان لايزالون يحتفظون بتلك الأدوات سواء فؤوس، معاول، خناجر وسكاكين رجح الأمر لندرة الحديد وجودته في ذلك الوقت، مضيفا ليس كاليوم الذي يتوفر فيه الحديد بكثرة لكنه بجودة ضعيفة، وسألته ان هم من كان عليهم التنقل الى جبال بوكافر لجمع الشظايا أم أن الزبناء هم من عليهم احضارها، فكان الجواب أنه في غالب الأحيان يكون الزبون هو من يحضر المادة الأولية ونقوم نحن بتحويلها لنشكل فيها ما طلبه منا، فسرت له أن ما كانوا يقومون به كان في خدمة البيئة وان كان عن غير قصد.
مجوهرات من نحاس الرصاص:
صياغة المجوهرات من نحاس الرصاص بدورها لا تخلوا من خطورة، فعليك أن تميز بين تلك الرصاصة التي تصنع من النحاس فقط، وتلك التي تكون مملوءة بمواد متفجرة من الداخل، وهي التي تشكل الخطر، لأنها تتطلب مهارة في افراغها من “البارود” قبل الاشتغال عليها، ولمحت له لتلك القصة التي سمعتها من قبل ليحكها لنا “ان حدادين يشتغلنا كعادتها في ورشتهم التقليدية وأتاهم أحد الزبناء برصاصة نحاسية، فظنا أنها من النوع الذي يكون من النحاس فقط وخالي من المتفجرات، ووضعها في النار كعادته للاشتغال عليها، فما ان ارتفعت حرارتها حتى انفجرت، ولحسن حظهم لم تلحق بهم أي أذى غير الخوف، فسأل أحدهم الأخر في هلع: “هل نجوت يا لحسن” ليرد عليه أنه لن يشتغل مرة أخرى على أي شيء لم يكن مستعملا من قبل، فسيكتفي فقط بالاصلاح دون الإنتاج، مسترسلا انهم كانوا يصوغون من نحاس الرصاص الخواتم، الأساور والأقراط وغيرها من المجوهرات ويتفننون في ذلك رغم خطورته.
قالت احدى المعتصمات بجبل ألبان في احدى حلقيات المعتصم الذي خاضته ساكنة اميضر لمدة تسعة سنوات منذ غشت 2011 احتجاجا على “نهب الثروات واستنزاف الموارد الطبيعة” من طرف الشركة التي تستغل أكبر منجم للفضة في المغرب، قالت أنها تسكن منطقة تطفوا فوق الفضة وخاتم خطوبتها من نحاس، فمن يدري أن نحاس ذلك الخاتم من نحاس رصاصة اخترقت جسد مقاوم في احدى المعارك التي شهدتها المنطقة.
انها مغامرة تحويل مخلفات وشظايا أدوات موت ورعب ودمار إلى أدوات تزيين وتجديد الحياة، مغامرة رغم خطورتها تحمل في طياتها حب اهل المنطقة للسلام والحب والحياة، وسعيهم لاستمرارها ولو بمخلفات أسلحة حربية كادت أن تبدهم في معركة غير متكافئة استعمل فيها المستعمر أسلحة متطورة مقابلة أسلحة تقليدية لدى المقاومين، تشكل هذه الأدوات جزء من التراث المادي لمعركة بوكافر، فتحظى بعناية بالغة من طرف السكان ربما لجودتها أو لما تحمله من دلالة رمزية تستحق العناية والاهتمام.
يوسف أزوركي