رحلة التأملات في أعماق بحر الإنسانية (2)

ابراهيم عفيف

المجتمع والشخص المعاق أو الشخص في وضعية إعاقة (2)

وتستمر التأملات في المحطة الاضطرارية الأولى، محطة الإعاقة، بسفر تأملي نحو الماضـــي البعيد المتعلق بتاريخ الإنسانية، لنعيش معكم بعض المراحل التاريخية التي ميزت تعامـــل بعض المجتمعات الإنسانية مع الشخص المعاق، والتي كان بعضها أكثر بشاعة من مضمون الفيديو الرهيب الذي فرض علينا تغيير برنامج هذه التأملات في جزئها الثاني…. تذكرت مجددا الفيديو، وهذه فرصــــة للتذكير والتأكيد على بعض الأمور من باب التصريح بأهداف هذا السفر من جهة، ولرفـــع بعض اللبس وسوء الفهم من جهة أخــــرى….

أولا: من باب التذكير والتأكيد دائما، حديثنا عن مضمون الفيديو ووصفه بالبشع يتعلق بالمشهد في شموليته، منطلقا ومالآ كما قلنا في الجزء الأول، دون الجزم في الصدقية المطلقة لمحتواه كما رأته العين المجردة….على اعتبار – وهذا أكدناه سلفا – أن الصورة والفيديوهات عموما في زمن الرقمنة خادعة للعامة، مثلي ومثلكم، لكنها ليست كذلك لأهـــل الاختصاص. كما أن العدالة وحدها هي الجهة الحصرية المخول لها قول كلمة الفصل إزاء مضامين أي صورة أو فيديو أو أوديو أو شيء من هذا القبيل…

ثانيا: اختيار موضوع إنساني مرتبط بمضمون ذلك الفيديو لتناوله ضمن حلقات هذه الرحلة التأملية، وهو تيمة الإعاقة في المجتمع، لم يكن مجرد صدفة أو اختيار لحظي تحكم فيه العقل العاطــفي كما يقال….بل هو اختيار مخطط له سلفا، نظرا لكونه ينسجم تماما مع التوجه العام الذي اخترته لهذه الرحلة في جزئها الثاني. لكن، المتغير الوحيد هو توقيت تناوله، والذي تحكم فيه السياق المستجد، المتمثل في ظهور هذا الفيديــــو الذي خلف ردود أفعال متباينة تجاه مضمونه …. هذا إذن ما جعل برنامج الرحلة يعرف تغييرا …ولعل في ذلك خير كما أسلفت….

ثالثا: الهدف الأساس من ذكر المراحل التاريخية (كما سنرى لاحقا) التي ميزت تعامل بعض المجتمعات مع الشخص المعاق ضمن هذه التأملات ليس هو إبراز بشاعة البعض منها فقط، لكن الغاية تكمن في التعريف بالتطور الذي قطعته البشرية خلال تأسيسها للعلاقات بين الأفراد وفق منطق الكرامــــة الإنسانية، التي تعتبر الرســــالة الأساس والمحورية لهذه الرحلة. من شأن هذا التناول إذن أن يساعدنا كأفراد (أخاطب الإنسان الفرد في هذه التأملات) لموقعة أنفسنا، هنا والآن، انطلاقا من تمثلاتنا ونظرتنا للشخص المعاق مقارنة مع تلك المراحـــل. هكذا، سيرى كل منا نفسه في مرآتها ويحكم على نفسه هل يعيش في الزمن الغابـــر بأفعاله ومعتقداته بينما جسده موجود في الحاضر…. أم أنه قـــطع مع المعتقدات الغابرة، وأسس لنفسه تصورا إنسانيا ينسجم مع عصر الحقوق بامتياز….

رابعا: مبتغانا من القيام بكرونولوجيا التعامل مع الشخص المعاق، هو إعادة إحياء ذلك الإنسان الخير الكامن بداخل كل منا وجعله يفرض كلمته على الكائن الشرير الذي يعيش معه جنبا لجنب….هذه إذن أهم التعاقدات القيمية بين صاحب التأملات وبين المتلقـــي ….علما بأن الاثنين يشتركان في الكثير من القناعات ليس فقط في مجال الإعاقة، لكن في المجال القيمي عموما….. وهذا هو ظني تجاه جميع أصدقائي وصديقاتـــي ….

بعد هذه التوضيحات المهمة، التي ستؤطر وقفتنا التأملية في محطة الإعاقة حتى لا تحدث لنا انزلاقات تأويلية نحن في غنى عنها، وجبت الإشارة إلى أن قضية الإعاقة ليست وليدة عصرنا الحالي، بل هي قديمة قدم الإنسانية …. فالإنسان القديم قاربها من زاوية الغضب الإلهي المفضي إلى حرمان بعض العصاة من الرحمة نظير معاصيهم وآثامهم. “فقد كان العمى مرتبطا بانتقام الآلهة التي حرمت عبدها من نورها ومن التمتع بجمال كونها نتيجة آثام ارتكبها أو قرابين لم يقدمها لها. أما الإعاقة العقلية فارتبطت بعالم الشياطين. لذلك وجب إبعاد ذوي الإعاقة العقلية من عالم الإنس ” (الكنوني رشيد، 2007، التنشئة الاجتماعية للطفل المعاق، منشورات فكر، الرباط، ص.22). هذا التوجه النفسي الاجتماعي يترسخ أكثر حينما نعرج على الميثولوجيا اليونانية والرومانية والمصرية الفرعونية القديمة، اعتقادات سادت حتى منتصف القرون الوسطى “حيث كانت الكنيسة تعتقد بأن المرض بجميع أنواعه قصاص على ما اقترفه الإنسان من آثام وأن الإعاقة تقهقر فكري تضعف فيها الروح وتسيطر عليها المادة” (مرجع سابق، ص.22)….في نفس السياق السيكوسوسيولوجـــي كان مصير الشخص المعاق عند الرومان بيد شيخ القبيلة، حيث “كان يتم التخلص منهم – أي من المعاقين- عن طريق إلقائهم في الأنهار أو تركهم على قمم الجبال ليموتوا بفعل الظروف المناخية” (مرجع سابق/ ص. 22)…..هذه النماذج توضح بجلاء ان الأمم القديمة كانت لها نظرة ازدراء واحتقار إزاء الأشخاص المعاقين، بحيث تنظر إليهم على أنهم غير نافعين للمجتمع. إلا أن هذا التصور بدأ يأخذ منحى آخر مع مجيء الدين الإسلامي في القرن السابع الميلادي …” فالإسلام كدين شامل ومتكامل أعطى تصورا جديدا للإعاقة. حيث أكد على أن الإنسان مسؤول عن سلوكه وتصرفاته دون تمييز بين الشخص –العادي- والشخص المعاق إلا في إطار الحدود التي تفرضها قيود الإعاقة” (مرجع سابق، ص.23) …..

التعامل مع الشخص المعاق عرف تحولات جديدة مع ظهور الفكر العلمي، وهيمنته على منهجية تعاطي المجتمعات مع مختلف القضايا الاجتماعية، وعلى الفهم تجاه الوجود عامة والحقيقة العلمية تحديدا. حيث تم تجاوز تلك التفسيرات الخرافية، لتتم مقاربة تيمة الإعاقة مقاربة علمية واجتماعية ترتكز على مبادئ حقوق الإنسان، وعلى الكرامة الإنسانية…

….إلى هنا تنتهي تأملات اليوم، على أن تستأنف غذا بحول الله بكثير من التفصيل مع المراحل الأربع التي مرت منها التحولات والاتجاهات الفكرية والاجتماعية التي لمحنا إليها، مع التحديد الدقيق لبعض المفاهيم ذات الصلة بهذه التيمة، من قبيل: المعاق، وضعية إعاقة، ذوي الحاجات الخاصة…..

أختم هذا التأمل بمقولة تأملية لرجل الدولة السياسي الراحل نيلسون مانديلا (1918-2013): ” أنا لست حرا حقا إذا أخذت حرية شخص آخـــر. المظلوم والظالم على حد سواء قد جردا من إنسانيتهما.

يتبع……

إبــــــــراهيم عفيف
سوس ماســـــة

شاهد أيضاً

«مهند القاطع» عروبة الأمازيغ / الكُرد… قدر أم خيار ؟!

يتسائل مهند القاطع، ثم يجيب على نفسه في مكان أخر ( الهوية لأي شعب ليست …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *