المجتمع والشخص المعاق أو الشخص في وضعية إعاقة (3)
…. وتستمر التأملات، ويستمر معها الحديث عن قضية هامة، التي تعتبر من القضايا الإنسانية التي نالت نصيبها من التفكير التأملي في أفق إجراء التصويبات المناسبة فكرا وسلوكا من قبل من كان ينظر إلى الشخص المعاق نظـــرة سيئة تحمل في أعماقها الإيمان القطعي بالاختلاف في شقه السلبي….
تواعدنا بالأمس أن نخصص تأمل اليوم لنقطتين أساسيتين:
أولاهما: المراحل التاريخية التي ميزت التعامل مع الشخص المعاق؛
ثانيهما: التدقيق المفهومــــي.
أهم المراحل التاريخية التي طبعت التعامل مع المعاق
قدمنا في الجزء الثانـــي بعض النماذج من التعاملات التي لقيها المعاقـــون عبر مختلف الحضارات الإنسانية، والتي كانت في مجملها تعاملات لا إنسانية، وقد استمرت إلى حدود القرن السابع الميلادي لتعرف منحى جديدا، ترسخ أكثر مع عصر هيمنة الفكر العلمي على منهجية تفكير جل المجتمعات، فيما يلي تفصيل لسيرورة التعاطــــي مع تيمة الإعاقة ( مع ضرورة التأكيد دوما على كون هدف هذه التأملات يتجلى في استخلاص الدروس، وموقعة أنفسنا إزاء هذه الأحداث البعيدة عنا زمانا، والقريبة بالنسبة للبعض واقعا….وهذه فرصة لنا جميعا لنغير أفكارنا، وسلوكياتنا إزاء الإنسان عامة والإنسان في وضعية إعاقة تحديدا):
– مرحلة النبذ
كانت من أبشع المراحل التاريخية التي عرف فيها الشخص المعاق أشد أنواع العذاب وأشد أصناف المعاملة قساوة…إلا أنها عرفت في نهايتها شيئا من الإيجابية خاصة مع صنف الإعاقة غير العقلية، لا سيما بعدما تمكن الحكيم الفرعوني بتاح حوتب من معالجة الصم والمكفوفين. وعموما يمكن تلخيص نظرة المجتمعات الرومانية والفرعونية واليونانية تجاه هذه الفئة في النقط التالية:
“-النظرة السلبية والسعي نحو إبادة المعاقين
– المعاملة السيئة والقاسية لجميع المعوقين
– في نهاية المرحلة أبدت بعض الحضارات شيئا من الإيجابية نحو بعض الإعاقات غير العقلية
– المعوق مصدر عار لأسرته لذلك كانت الأسر تسعى للتخلص من ابنها المعوق” (كوافحة تيسير وآخرون، 2007، تربية الأفراد غير العاديين في المدرسة والمجتمع، دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، عمان، ص. 39 ، عن بحث التخرج لنيل دبلوم مركز تكوين المفتشين بالرباط من إنجاز : إبراهيم عفيف، عبد الله الداكر، محمد بن الطاهر تحت إشراف الأستاذة المقتدرة والحقوقية سعيدة أزوار)
– مرحلة الرعاية المؤسسية:
تميزت هذه المرحلة عن سابقتها، بكونها تجاوزت تلك النظرة السلبية المطلقة تجاه الشخص المعاق، فخلالها انتشر ما يسمى بالرعاية الإيوائية المؤسسية التي يتم من خلالها تقديم الخدمات الصحية الأساسية كالغذاء والمأوى للمعاقين. ففي هذا السياق “انتشر نظام الوقف في مصر ونظام الملاجــئ في فرنسا وغيرها…” وأهم ما ميز هذه المرحلة:
– وضع المعوقين في مؤسسات رعاية ايوائية بعيدة عن المجتمع والمساكن
– خدمات صحية وغذائية في الحدود الدنيا
– بداية اتجاهات المجتمعات الإيجابية نحو المعوقين
– غياب خدمات تعليمية ( مرجع سابق، ص. 40)
– مرحلة التأسيس للتربية الخاصة:
شكلت هذه المرحلة طفرة تقدمية نوعية في مجال التعامل مع الشخص المعاق، بحيث إنه تم الانتقال من الرعاية الإيوائية إلى الاهتمام بتمدرس هذه الفئة في إطـــار ما يسمى بالتربية الخاصة، التي بدأها الطبيب الفرنسي ايتارد (1775-1838) الذي حاول تعليم وتدريب الأطفال المعاقين عقليا، لتأتي بعده مارية مونتسوري (1870-1952) التي أغنت هذا المجال بأبحاثها وتجاربها وأفكارها التي مازال يعمل بها إلى حدود اليوم…..
– مرحلة التشريعات والقوانين:
بكل تأكيد لا يختلف اثنان على أننا حاليا نعيش في ظل هذه المرحلة المتسمة، عبر بقاع العالم، بظهور جمعيات ومنظمات داعمة لهذه الفئة وطالبة بتمكينها من حقوقها كاملة باعتبارهم مواطنين كاملي المواطنة…دعوات ومطالبات تستند على مرجعيات قانونية وتشريعية تختلف درجة تنزيلها من بلد إلى بلد…في هذا الصدد، لا بد ان نذكر بلبنة أساسية في هذا الخصوص، يتعلق الأمر بتبني الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1993 للقواعد الموحدة بشأن تكافؤ الفرص للمعاقين، التي تهدف إلى تقوية مشاركتهم الكاملة وتعزيز المساواة بينهم وبين الأشخاص (العاديين). هذه القواعد تعززت أكثر في الاتفاقية الدولية للأشخاص المعاقين التي صادقت عليها الجمعية العامة بتاريخ 13 دجنبر 2006…. لتتوالى بعد ذلك باقي التشريعات والقوانين والمذكرات التنظيمية التي قد نتطرق لجزء منها لاحقا حينما سنتحدث عن مجهودات بلادنا المغرب في هذا الإطار…..
قبل الانتقال بكم إلــــى الحديث عن التسميات الموظفة في مجال الإعاقة، لا بد أن نذكر من باب التأكيد مجددا بالهدف الأساس من كـــل الكلام المذكور سلفا. فهدفنا ليس فقط تمكين القارئ من معلومات قد يجدها في أي موقع أو في أي كتاب …فنحن طبعا في عصر توجد فيه المعلومات على قارعة الطريق كما قال الجاحظ….هدفنا الأسمى من هذا الكلام التأملي هو إيقاظ ذلك الإنسان الخير الكائن بداخل كل منا لنعرف من خلاله وعبره أن مآسي الشخص المعاق ليست وليدة اليوم فقط، وأن هذه الفئة تحتاج منا جميعا لتمتيعها بحقوقها كاملة وعدم تمييزها عن من نسميهم خطأ (عاديين)، فجميع البشر عاديون…الاختلاف حكمة إلهية لا يعلم كـــل أسرارها وغاياتها إلا رب العباد…ونعم بالله ….لذا لا يجب، بل ليس من حق أي كان، أن يتحجج بهذا الاختلاف ليعتقد بإمكانية التمييز في الحقوق …جميع البشر سواسية….
الجهاز المفهومي في مجال الإعاقة
الحديث عن موضـــوع الإعاقة يجر وراءه أحاديث كثيرة عن العديد من المفاهيم الأســـاس ذات الصلة. كل مفهوم يستوجب لوحده أن تخصص له حلقات وصفحات، وهذا ليس خاف على أهل الاختصاص من الباحثين العاملين في المجال….لكن، ولأن قراء هذه التأملات ليسوا كلهم من أهــــل هذا الاختصاص والتخصص، سأكتفي بالتوقف عند أهم المفاهيم التي يتم تداولها على أوسع نطاق، يتعلق الأمر: بالمعاق، الشخص في وضعية إعـــــاقة، الإعاقة، ذوي الاحتياجات الخاصة…..وأترك باقــــي المفاهيم لمناسبات أخرى وفي سياقات جديدة ومستجدة…..
في الكثير من الأحيان نسمع كلمة إعاقة أو معاق….وكلما مرة يتساءل المتلقي هل الكلمة تحمل دلالات سلبية أم أنها تجسيد لمكون من مكونات الهوية الخاصة بفئة من الأشخاص في المجتمع….لتقريب الأمر للقارئ نقدم له بعض التعاريف الأكثر تداولا، المتعلقة بالإعاقة وهي مأخوذة من الإطار المرجعي للهندسة المنهاجية لفائدة الأطفال في وضعية إعاقة (إصدار وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، 2017، ص. 34):
– حسب التصنيف الدولي للإعاقة CIH 1980 تتحدد الإعاقة كمرض أو اضطراب يؤدي إلى قصور في بعض الأعضاء أو وظائفها، مما ينتج عنه عجز في النشاط أو الأنشطة المتعلقة بهذه الأعضــــاء، ويؤدي إلى نقص في الدور الفردي اتجاه الذات أو داخل المجتمع….
– حسب التصنيف الدولي للوظائف CIF 2001 الإعاقة ناتجة عن مشاكل صحية (مرض أو اضطراب) تؤثر على بنية الجسم ووظائفه، وتحد من نشاط الفرد…..
– حسب سيرورة إنتاج الإعاقة PPH تتحدد الإعاقة في الأسباب وعوامل الخطر التي ترتبط بإصابة أو تأثير على سلامة وتطور الشخص (حوادث ولادة، حوادث سير….) ينتج عنها نقص أو تغيير جزئي أو كلي في عضو ما، الأمر الذي يتحول إلى قصور….
من خلال هذه النماذج من التعريفات يتضح أن الإعاقة يتدخل فيها ما هو ذاتي وماهو خارج عن الذات، ما يرتبط بمحيط عيش الشخص المعاق…. ومن تم يتضح الاختلاف الموظف تجاه حامل الإعاقة. فحينما نتحدث عن الشخص المعاق، فإننا نستحضر المقاربة الطبية للموضوع التي تنظر إلى الإعاقة كاختلال وظيفي جسدي أو ذهني، يقتضي تدخلا طبيا وفق مقاربات متخصصة …. أما حينما نتحدث عن الشخص في وضعية إعاقة فإننا نقارب هذه التيمة كإشكالية تتعلق بواقع الشخص الحامل للإعاقة ضمن محيط اجتماعي قد يساهم في تكريسها أو في تخفيف حدتها. فكلما كان المحيط معرقلا ( عدم وجود ولوجيات، وجود نظرة سلبية تجاه المعاق، عدم تمكين المعاق من حقوقه…) كلما كان الشخص في وضعية إعاقة يعاني بشكل مضاعف، وكلما وفــــر المحيط الاجتماعي ميسرات من قبيل الولوجيات، وظروف التطبيب الجيد، والنظرة الإيجابية ….كلما كانت حياة وواقع حامل الإعاقة عادية جدا. فنفس الشخص قد يكون في وضعية إعاقة في بلد معين وفق ظروف عيش معينة، وقد لا يكون في وضعية إعاقة في بلد آخــــر كل الظروف فيه ميسرة ….
أما الحديث عن ذوي الاحتياجات الخاصة، فهو حديث عام وشـــــامل لأن ذوو الاحتياجات الخاصة كثر، فأنا منهم وأنت منهم باختصار شديد…. الموهوب من ذوي الاحتياجات الخاصة، ومرضى السكري من ذوي الاحتياجات الخاصة، ومرضى القصور الكلوي من ذوي الاحتياجات الخاصة، والمعاقون من ذوي الاحتياجات الخاصة……هذه مجرد فلاشات لتقريب الصورة للقارئ….الأهم من هذا كله هو أن ندرك جميعا بأننا أحيانا بسلوكاتنا وبنظرتنا إزاء الإعاقة وبما نوفره للشخص الحامل للإعاقة من ظروف ميسرة أو معرقلة قد نكرس الإعاقة في صورتها السلبية، وقد نخفف من حدتها إلى درجــــة عدم الإحساس بوجودها….كل هذا يتوقف على ذلك الإنسان الكائن بدواخلنا…..فلنا الاختيار….
غذا بحول الله نستكمل الحديث حول نفس التيمة، مع التركيز على دور المدرسة من خلال المجهودات التي قامت وتقوم بها وزارة التربية الوطنية في بلادنا…. فإلى ذلكم الحين أودعكم بمقولة تأملية لليو تولستوي: ” إن الإنسان هو الذي يرى الأشياء كما يريد، فالأشياء تبدو قبيحة أو جميلة رهنا بوجهة نظر المتأمل، وذلك يعني أن الجمال ليس القائم خارج ذات الإنسان، ولكن الجمال الحقيقي هو الموجود في داخــــل الروح الإنسانية”
إلى تأمل آخـــر، أتمنى لكم ليلة رمضانية كلها أحاسيس إنسانية …..إلى لقاء آخر بحول الله
يتبع……
إبــــــــراهيم عفيف
سوس ماســــة