المجتمع والشخص المعاق أو الشخص في وضعية إعاقة (4)
…. وتستمر التأملات، ويستمر معها الحديث عن موضوع الإعاقة الشائك. فبعد الحديث عن أبرز المحطات التاريخية التي عرفها المعاقون في مواجهتهم لمجتمعات لم تعترف لهم بالحق في الحياة الكريمة إلا بعد جهد جهيد، وبعدما قربنا للقارئ بعض المفاهيم الأكثر تداولا بشأن هذه التيمة المجتمعية، سنتوقف معكم اليوم عند الأدوار الريادية التي تلعبها المؤسسات التربوية والتعليمية في سبيل إرساء ثقافة مجتمعية منصفة إزاء هذه الفئة (الهشة). كما سنبرز، للتأمــــل، ما قامت به وزارة التربية الوطنية في بلادنـــا من أجل هذه الفئة، معرجين على الاستراتيجية الوطنية للتربية الدامجة بشكل مقتضب وسريع….على اعتبار أن قراء هذه التأملات ليسوا كلهم من ذوي هذا الاختصاص كما سبق ذكره، وبالتالي فسيتم الاكتفاء بإبراز الدروس التي ستشكل ورش اشتغالنا كأفراد وكبنيات مؤسسية لبناء مجتمع سوي قوامــــه احترام كرامة الإنسان…كيفما كان هذا الإنسان….
غير خاف على أحد ما يمكن أن تقدمه المدرسة، باعتبارها مقاولة اجتماعية مادتها الأولية الإنسان ومنتوجها المنتظر الإنسان الإنسانـــي. المدرسة برسائلها التربوية والتعليمية والقيمية تساهم من خلال المنهاج الدراسي في إرساء ثقافة الاختلاف في شقها الإيجابي، كما تنمي لدى النشء قيمة تقدير الذات وتقديـــر الآخر، أيا كانت مواصفاته ووضعيته الاجتماعية…. في هذا السياق إذن، يمكن لأي بلد أن يشكل بنسبة كبيرة مجتمعه المستقبلي بالمواصفات المطلوبة انطلاقا من بوابة ومدخـــل المدرسة….
تكوين الاتجاه الإيجابي تجاه الشخص المعاق يمكن أن يتم إذن وفقا لما سلف انطلاقا من المدرسة. لهذه الغاية، وانسجاما مع دستور المملكة المغربية خاصة الفصل 34 الذي ينص على ما يلي: ” تقوم السلطات العمومية بوضع وتفعيل سياسات موجهة إلى الأشخاص والفئات من ذوي الاحتياجات الخاصة، ولهذا الغرض تسهر خصوصا على ما يلي:
– معالجة الأوضاع الهشة……؛
– إعادة تأهيل الأشخاص الذين يعانون من إعاقة جسدية أو حسية حركية أو عقلية وإدماجهم في الحياة الاجتماعية والمدنية، وتيسير تمتعهم بالحقوق والحريات المعترف بها للجميع”……..
تبذل وزارة التربية الوطنية مجهودات جبارة في موضوع تمدرس الأطفال في وضعية إعاقة مستندة في ذلك على ترسانة قانونية وتنظيمية غنية، بدءا بالميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي شكل ومازال خارطة طريق متوافق بشأنها من طرف كل أطياف المجتمع المغربـــي ( هذا دون الدخول في التفاصيل الخاصة بدرجات التفعيل والتنزيل وأسبابها وحيثياتها)، مرورا بالمذكرات الوزارية العديدة، كالمذكرة عدد 008 بتاريخ 07 أبريل 2000 بشأن تمدرس الأطفال المعاقين، والمذكرة الوزارية عدد 89 بتاريخ 19 غشت2005 حول إجراءات الدخول المدرسي 2005/2006، والمذكرة الوزارية 143 بتاريخ 13 أكتوبر 2009 حول تمدرس الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، والمذكرة الوزارية عدد 039.14 بتاريخ 03 أبريل 2014 التي أكدت على ضرورة توفير الولوجيات وتأهيل الحجرات….والدورية المشتركة بين وازرة التربية الوطنية والتكوين المهني ووزارة الصحة رقم 721.14 بتاريخ 25 يونيو ،2014 والمقررات الوزارية في شأن مساطر الامتحانات الخاصة بتكييف ظروف الإجراء لهذه الفئة….وصولا إلى القرار الوزيري الأخير رقم 047.19 الصادر بتاريخ 24 يونيو 2019 بشأن التربية الدامجة للتلميذات والتلاميذ في وضعية إعاقة، وهو بمثابة خارطة الطريق لتميكن الأطفال المعاقين في حقهم من التمدرس بجانب أقرانهم (العاديين)….كلها مرجعيات تنظيمية هادفة إلى إرساء مدرسة مغربية سمتها الإنصاف وتكافؤ الفرص بين مختلف المتعلمين….مرجعيات بحمولات إنسانية وحقوقية واضحة لم يتم تنزيل جلها بالشكل المطلوب (وهذا موضوع آخر له أسبابه وحيثياته….أي خوض فيها هنا والآن قد يبعدنا عن رسالة رحلتنا التأملية التي تخاطب ذلك الإنسان الكائن بدواخلنا ليستيقظ وينخرط في خدمة الإنسانية بالشكل الصحيح….)
بعد الإشارة المقتضبة والسريعة لمختلف المرجعيات التنظيمية المؤطرة للعمل المدرسي الموجه لفئة الأطفال في وضعية إعاقة، يجب أن نشير إلى بعض المحطات العملية التي رافقت تلك المذكرات. فكما هو معلوم في وقت من الأوقات كانت أسر الأطفال المعاقين تفضل إرسال أبنائها إلى المراكز السوسيوتربوية التي تعمل في مجال التأهيل الطبي وشبه الطبي وفق مقاربات التربية التخصصية…هذا الأمر استمر إلى تسعينيات القرن الماضي (ومازال) حينما بادرت الوزارة الوصية على قطاع التربية والتكوين إلى إحداث أقسام الإدماج المدرسي les classes d’intégration scolaire (CLIS) داخل الفضاءات المدرسية، وهي عبارة عن أقسام تتواجد داخــــل المؤسسات التعليمية مخصصة حصريا للأطفال في وضعية إعاقة، وقد كانت تلك الخطوة، التي تميزت بالعزل، مجرد مرحلة انتقالية لتأهيل الأطفال في وضعية إعاقة للدمج المدرسي في الأقسام العادية أو ما يسمى حاليا بالتربية الدامجة l’éducation inclusive ….المؤطرة كما سبقت الإشارة لذلك بالمقرر الوزيري سالف الذكر وبالإطار المرجعي للتربية الدامجة لفائدة الأطفال في وضعية إعاقة….إطار متكامل حدد الهندسة المنهاجية لكل فئة من الفئات الست المعنية بالتمدرس: إعاقة التوحد، الإعاقة الذهنية، إعاقة الشلل الدماغي الحركي، الإعاقة السمعية، الإعاقة البصرية، إعاقة صعوبات التعلم….بحيث إن كل فئة لها خصوصياتها ولها حاجاتها النوعية التي تتم الاستجابة لها من خلال المشروع البيداغوجي الفردي الخاص بكل تلميذ على حدة projet pédagogique individuel (PPI)، والذي يتضمن نوع التعلمات الأساس التي سيتلقاها بمعية أقرانه، ونوع التعلمات التأهيلية الداعمة التي سيتلقاها في قاعة خاصة ستبنى في كل المؤسسات الدامجة الجديدة، على أن يتم تحويل أقسام CLIS في المؤسسات القديمة المحتضنة للتربية الإدماجية لهذه الغاية…..هذه فقط بعض الإشارات المرتبطة بمجهودات بلادنا في الشق التربوي، والتي يعرفها جيدا المنتسبون للقطاع….
ارتأيت ألا أدخـــل في الكثير من التفاصيل التخصصية واكتفيت بتقديم فلاشات، الغرض منها هو أن أؤطـــر بها أفكاري التأملية تجاه الأشخاص المعاقين، والتي أحببت أن أتقاسمها معكم خلال هذه الليالي الرمضانية المباركة….واضح إذن أن رهان المدرسة المغربية يتمثل في أن يجد فيها كل طفل، بصرف النظر عن خصوصياته، مقعده البيداغوجـــي الذي يتجاوز ذلك المقعد الخشبي الذي يضمن مجرد الحضور والجلوس في القسم….وواضح أيضا أن ربح هذا الرهان يحتاج لمجهودي ومجهودك ومجهودنا جميعا…فإن لم أكن والد طفل معاق فإني سأكون والد طفل يتمدرس مع طفل معاق، ونفس الشيء ينطبق عليك، وبالتالي فكلنا معنيون بهذا الرهان….دورنا يتمثل في تأهيل أبنائنا وتمكينهم من قيم العيش المشترك السليمة التي تعمل المدرسة على ترسيخها أكثر…وكلنا معنيون بإعطاء نموذج مثالي لأبنائنا ونحن نتعامل مع الشخص المعاق في الشارع وفي المسجد وفي المتجر وفي السوق …وذلك حتى لا يجد أبناؤنا بونـــا شاسعا بين الواقع وبين ما يقال لهم في المدرسة….هذه الأخيرة لن تنجح أبدا لوحدها في مهمتها في ظل استقالة مؤسسة الأسرة التي أشكلها أنا وأنت ونحن….
رسالة التأمل بشأن الإعاقة تتلخص في القول التالي: بإسهامك في تمكين الآخر من كرامته الإنسانية تحقق لنفسك نفس الكرامة، وبتقاعسك تحرم نفسك من شرف الانتماء إلى كوكب الكرامة الإنسانية…. الاختيار لنا جميعا…. وإلى تأمل جديد وموضوع إنساني جديد
إبــــــــراهيم عفيف
سوس ماســـــة