تريثت قليلا بعد الجزء الأول من هذا الرد، وأعطيت مهلة لنفسي كي أتأمل قليلا ما كُتب عن الترجمة من وإلى الأمازيغية، وأرجع كذلك إلى ما تمت ترجمته من الأمازيغية إلى العربية والفرنسية والهولندية… أو من الفرنسية والعربية والإنجليزية… إلى الامازيغية، فوجدت أن هذا المجال قد التهمه الفراغ رغم كل المجهودات المبذولة، وأننا أشبه ما نكون برضّع يتلقون أبجديات الحبو ويحاولون الوقوف،… في زمن أبحر فيه من أبحر، وركض فيه من ركض، وساير فيه الركب من ساير، وبقينا ب”فراشة لغوية” على حد تعبير عبد السلام ياسين، نتأمل أجنحتها الواهية، وجسمها النحيل، إلى أن تداس بحوافر “اللغات القاتلة”… لاشك إذن أننا تنتظرنا مجهودات جبارة ومضاعفة من أجل الالتحاق بركب اللغات التي راكمت كثيرا في هذا المجال. لأننا لازلنا في نقطة البداية، وأمامنا متاريس تعترض طريقنا، ولا سبيل لتجاوزها إلا بالعمل الجاد…
فعلى ضوء الإشارات والإيضاحات التي وردت في مقال لصاحبه محمد فارسي حول الطريقة المتبعة في ترجمتي لرواية شظايا حارقة من العربية إلى الأمازيغية، منتقدا الطريقة التي سماها بالاستنساخ، وشرحها على أنها “بمثابة اقتراض لغوي من نوع خاص، إذ يكون على شكل كلمة أو عبارة مستعارة من اللغة الأجنبية، لكن العناصر التي تتكون منها تترجم حرفيًا”.
قبل الخوض في ملاحظات الأستاذ محمد فارسي، والأمثلة التي استقاها في هذا المضمار، لابد أن أشير إلى وضع اللغة الأمازيغية كلغة/لغات لم تتضح معالمها بعد، خصوصا في ضوء التجاذبات والنقاشات التي تتناول موضوع المعيرة المتبعة في المغرب، والتجارب المتبعة في مناطق أخرى من ثامزغا، كمنطقة القبائل مثلا، دون إغفال الدراسات المنجزة في مجموعة من مراكز الأبحاث في الجامعات الأوروبية… وأمام تجربة التدريس التي فشلت في إخراج أفواج من المتعلمين متمكنين من لغة أمازيغية “موحدة” ومتضحة المعالم، وأيضا في ظل الإبداعات الأدبية التي تكتسي طابع المحلية، من حيث المعجم واللغة وطريقة الكتابة، بل وحتى توزيعها يكون محليا… دون أن نغفل فقر الأمازيغية إلى معجم يُمكن المترجم إليها من استيعاب حمولات النصوص الأصلية المكتوبة بلغات لها تاريخ عريق في الكتابة والاحتكاك مع مختلف العلوم.
وبهذا، يكون المترجم إلى الأمازيغية حيال غمار صعب يخوضه بحذر، آخذا بعين الاعتبار أنه يضع اللبنات الأولى في درب الترجمة إلى لغة تُرك فيها هذا الميدان فارغا، مستوعبا أن كل الصعوبات التي تعترض طريقه ما هي إلا مفاتيح يساهم بها في تقوية اللغة وإغناء عباراتها وسلاسة تعابيرها…
وبرجوعنا إلى الأمثلة التي أتى بها الأستاذ محمد فارسي، لا يمكن الجزم أن العبارات التي استقاها من النص المترجم خاطئة، ولا يمكن أن نجزم أن البدائل التي اقترحها خاظئة أيضا، بقدر ما هو اختلاف في طريقة الترجمة.
لنتأمل الأمثلة التالية:
ينتقد صاحب المقال العبارة: “بسبب اشتغال كل واحد منا في عالمه الخاص“ التي تمت ترجمتها بهذ الشكل:
minzi ttuɣa kul ijjen yebbeẓ azellif-nnes deg umaḍal-nnes.
يتحفظ الكاتب هنا عن ترجمة كلمة العالم ترجمة حرفية معللا ذلك “بكوننا في خضم ترجمة جملة تحمل خطابا في عمقها الدلالي” على حد تعبيره. ولهذا اقترح الترجمة التالية:
Minzi ttuɣa mkul ijj zzay-neɣ ilha di tudert-nnes
هنا تفادى صاحب المقال وتوجس من كلمة العالم amaḍal لكنه أقحم في مقترحه كلمة الحياة tudert التي خلقت نوعا من المسافة بين روح العبارة الأصلية والعبارة المقترحة كترجمة لها. في رأيي، العبارة الأولى التي احتفظت على كلمة العالم، والتي وردت غير معيبة في اللغة الهدف، أفصح وأبلغ من العبارة المقترحة التي قد توحي إلى معنى آخر.
وفي نهاية المطاف، تبقى أن كلتا العبارتين إلى حد ما صحيحتين، مع الإشارة إلى إمكانية أن نحصل على عبارات أخرى مقترحة من مترجمين آخرين. فمثلا، يمكن أن تترجم نفس العبارة كالأتي:
– kul ijj yelha di melhu-nnes
– Kul ijj mani yebbeẓ azellif
– Kul ijj yeqqen x yexf-nnes wer dd-yerri lexber i ḥedd
– Kul ijj mani yesɣirnes, yesḥessa i yexsan-nnes, wer dd-yerri lexber i ḥed nniḍen…
ففي غياب تشوهات يمكن أن تلحق بروح النص، يبقى المجال مفتوحا للمترجم ليتعامل مع النص بشكل يرى فيه لمسته الإبداعية.
في مثال آخر، عبارة «الابتسامة انطفأت من شفتيه» التي ترجمت على الشكل التال:
Asfirnen yexsi zeg wancucen-nnes
يرى صاحب المقال أن هذه الترجمة يشوبها نوع من الخلل، ويرى على حد قوله أنه “يجب على المترجم أن يكون مسؤولا في نقل المعنى وإلا قد يحطم جسر التواصل الثقافي بين الأمازيغية والعربية، إذ من الأحرى بذل مجهود في البحث عن مقابل للتعبير كالشكل التالي:
(Asfarnen iɣli xef wudem nnes)
من المعروف أن الابتسامة ترسم على الشفتين، وتلاحظ على الشفتين، فلا يمكن لمن أخفى فمه بيده وأبقى على التفاصيل الأخرى لملامح وجهه بادية، أن نلاحظ ابتسامته ونصفها متى بدأت ومتى انتهت…
وبالتالي، فالتعبير المقترح من صاحب المقال تعبير بعيد نوعا ما من النص الأصلي مقارنة مع التعبير الأول الذي لا يشوبه أي عيب أو تشوه.
ولا عيب في الإبقاء على هذه العبارة لتغني لغتنا وتعابيرنا الأدبية، لتنضاف إلى سلسلة من التعابير التي تمت استعارتها من لغات أخرى لإغناء التعابير الأمازيغية. وهذا من بين ما نتغياه من الترجمة، آملين أن تُملأ العديد من الفراغات بمجهودات المترجمين في الإتيان بما من شأنه أن يحقق تراكما أسلوبيا وتعبيريا مستقى من تعبيرات وردت بلغات أخرى.
يرى الأستاذ محمد فارسي كذلك أن ترجمة عبارة “ها هي زينب” ترجمة معيبة، حيث يذهب إلى أن “المترجم قد استنسخ أداة التنبيه (ها) إلى الأمازيغية باستعماله نفس التعبير (ha)” مقترحا ترجمتها بالعبارة التالية:
«aqa Zaynab»
بينما في الحقيقة، “ha” في اللغة الأمازيغية هي أداة تقديم وأداة إشارة (tazelɣa n wesskan) وليست أداة تنبيه كما أشار إلى ذلك محمد الفارسي في مقاله. وهي أداة تستعمل في الأمازيغية على نطاق واسع، إليكم بعض الأمثلة:
ha min dak-qqareɣ
Ha min ɣer-i teswid
Ha ifassen-inu…
لذلك، لا حاجة للمترجم للبحث عن بديل للأداة وإن وجدت أداة أخرى aqa، لأن كلاهما من صميم الأمازيغية.
وفي مثال آخر، عبارة “شعرها داكن كالليل“ التي ترجمت على الشكل التالي:
acewwaf-nnes yeḥdeq am tmeddit
يرى الأستاذ فارسي أنه كان من الأجدر “إضافة كلمة (tallest) التي تضفي جمالية أدبية حول التعبير لتعطي لنا في الأخير تعبيرا مجازيا معبر ثقافيا” مقترحا الترجمة التالية:
yeḥdeq am tallest n tmeddit
أرى أن هذا التعبير yeḥdeq am tmeddit واضح، ويفي بالغرض، لا حاجة في نظري لإضافة كلمة tallest (الظلام)، لأن الليل يكون داكنا بظلامه، وهو من باب تحصيل الحاصل. وإضافة كلمة الظلام tallest يدخل في إطار الحشو. ربما عدم وجودها في النص لن ينقص من جمالية هذا الأخير شيءا، ولا يشكل أدنى علة ليجعل معناه غير مفهوم.
فعندما نقول ɣer-s aɣembub n ujeḥmum، (وجهه كاليحموم) لا حاجة لنا أن نضيف الصفة aberkan (أسود) كي نشرح العبارة أكثر. فقولنا ɣer-s aɣembub d aberkan am ujeḥmum ينقص من جمالية التعبير.
وعندما نقول أيضا idewl-as uɣembub d ṭṭumeɛṭic،(وجهه كالطماطم) لا داعي أن نشرح للناس أن الطماطم لونه أحمر بقولنا : Idewl-as uɣembub d azegg°aɣ am ṭṭumeɛṭic
في مثال آخر عبارة “تخرج من غرفتها“ التي تُرجمت بهذا الشكل:
Teffeɣ zi texxamt-nnes
يرى صاحب المقال أنه كان من الأجدر ترجمتها ب:
“teffeɣ zeg wexxam-nnes”
معللا ذلك بقوله: “أن السبب راجع أن في الثقافة الأمازيغية وخاصة في فرعها الريفي تستعمل كلمة (taxxamt) حينما نريد أن نتحدث عن وضع أحد المجرمين في الزنزانة نقول (ggin t di texxamt) أما غرفة فنستعمل كلمة (axxam).
ولكن في حقيقة الأمر، كلمة taxxamt معناها في اللغة الأمازيغية هي الغرفة الصغيرة. حيث أنه في المنزل المتواضع بالمدينة كالذي تملكه عائلة زينب الفقيرة، لا يمكن أن تكون غرفة نومها إلا عبارة عن غرفة صغيرة لا تتعدى مساحتها 3 إلى 4 أمتار. ولكن كلمة axxam في اللغة الأمازيغية تدل على بيت كبير، وقد تطلق على المنزل في بعض المناطق. واستعمال taxxamt للدلالة على السجن، لا يمكن أن يُفهم مدلولها في معزل عن السياق الموجود في العبارة: ggin-t di texxamt، لأن كلمة taxxamt لوحدها معزولة عن أي سياق، لا يمكن أن يكون معناها إلا غرفة صغيرة. وبهذا، يكون سياق الكلمة هو الذي يزيح معناها لتعبر عن السجن عوض الغرفة الصغيرة.
تأمل معي العبارتين التاليتن:
trewweḥ meskina ɣer taddart-nnes
A negg ijj tfuset n tcammat n uḍar
العبارة الأولى تقال على إحدى النساء التى خطفتها المنية (الموت)، ومعناها: ماتت المسكية. وكلمة taddart في هذا السياق لا تدل على الدار، وإنما تدل على المقبرة، والسياق هو من أرغمها لتتقمص مدلولا آخر غير مدلولها الأصلي.
وكلمة tfust في العبارة الأخرى وردت بمعنى “المباراة”، وسياق الكلام هو الذي فرض على هذه الكلمة أن تتقمص هذا المعنى، أما إن وردت وحيدة ومعزولة عن أي سياق فمعناها هو “اليد الصغير”..
أما في المثال التالي: “حتى المشاعر التي أحكم عليها الإغلاق بين الصدور“ التي تمت ترجمتها بهذا الشكل:
Ula d taykitin i xef ttwabellɛen yedmaren
لا يمكن أن أجادل أن القلب ul هو مكان الأحاسيس في الثقافة الأمازيغية، إذ حتى العبارة المسكوكة: “أثلج صدري” ترجمت إلى الأمازيغية بالشكل التالي yesberred-ayi ul، لكن عبارة “أحكم عليها الإغلاق“ لا تعني بتاتا أن المشاعر مختبئة، وبالتالي فالعبارة المقترحة من الأستاذ محمد الفارسي Ula d tiktayin i innuffaren deg ul بعيدة شيئا ما عن المعنى الحقيقي. ربما كان من الأجدر أن يقترح صيغة أخرى مثل Ula d taykitin i yenqebsen deg wul..
نجد أيضا في المثال التال:
لست أدري من أية طينة نشأت؟
Wer ssineɣ mana weklasi-ya i teggid
انتقد الأستاذ فارسي هذه الترجمة مقترحا استبدال كلمة aklasi بكلمة azwar (العرق أو الجذر أو الأصل). كما هو مبين في هذه العبارة المقترحة:
War ssineɣ man aẓwaṛ i zi d teɣmid
ولكي نضع القارئ في السياق العام، فهذه العبارة وردت من الأم معاتبة ابنتها المتعنتة، فهو سؤال استنكاري لغرض استفزاز مشاعر الإبنة حتى تتراجع عن تعنتها. وأرى أن الصيغة الاولى هي الأقرب إلى المعنى وإلى روح النص الأصلي. خصوصا أن العبارة متداولة في الريف على هذا المنوال:
(wer ssineɣ mana marka-ya n bnadem i teggid cekk!).
وأخيرا، وجب التأكيد على أن الترجمة تتيح إمكانيات جديدة في مجال التعبير، وتفتح الباب للمترجم ليسهم في تقوية اللغة، والنهل من عبارات متداولة في لغات أخرى لتغني اللغة المترجم إليها…
ولذلك، أرى أن ترجمة عبارات متداولة في لغات أخرى إلى اللغة الامازيغية من شأنها أن تغني زخمها التعبيري وتفتح أمامها المجال لتكون أكثر سلاسة…
يتبع…
(في الجزء الثالث، سأسلط الضوء على ظاهرة الحذف..).