خالد البكاري
عاد الاعتقال السياسي بقوة، وبإيقاعات متصاعدة، لم يغير سوى الفئة المستهدفة، التي انتقلت من مناضلي التنظيمات الحزبية والنقابية، نحو جيل جديد من المعتقلين القادمين من الحراكات الاجتماعية.. هؤلاء الرافضون الجدد الذين خرجوا ليذكروا السلطة أنها لم تكن عادلة ولا منصفة، وأن «مصالحتها» كانت مغشوشة لأنها افتقدت للحقيقة والإنصاف وضمانات عدم التكرار.. لم يكن ثمة انتقال ديمقراطي، بل عملية تدوير للسلطوية.
ومن قلب هذه المعتقلات سيدعو رجل إلى مسيرة ببروكسيل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، رجل لا تنظيم سياسي له، ولا منبر إعلامي تابع له، ولا هوليدينغ مالي يوفر له شراء الأتباع والأقنان ومقدمي الخدمة على طريقة «كراء الحنك»، رجل مسلوب الحرية.. وتكون الاستجابة بالآلاف..
ألا يوجد في الدولة رشداء عقلاء قادرون على تفكيك هذه المعادلة؟
حين كان ناصر الزفزافي حرا طليقا، وبمجرد خروج بيان الأغلبية الحكومية المتهم عن باطل لحراك الريف بالانفصال، لم يمهلهم حتى 24 ساعة، فخرج بفيديو من وسط الحسيمة يدعو إلى مسيرة هي الأضخم في تاريخ الريف.. هزم نداء الزفزافي مؤامرة دبرت بليل في فيلا شارع الأميرات بطريق زعير، حيث يقطن المستفيدون من أراضي خدام الدولة، فكانت تمثيلية الحراك الشعبي تفوق بمضاعفات كثيرة تمثيلية ستة أحزاب مجتمعة، يفترض نظريا أنها حازت تمثيلية زائري صناديق الاقتراع في انتخابات لم يكن قد مر عليها سوى ستة أشهر، ومن ورائهم «دولة» وزارة الداخلية بخبرائها في التواصل والتعبئة والضبط.
واليوم، ومن داخل معتقله يعيد الكرة، ويدعو إلى مسيرة هي الأضخم بدورها في تاريخ مسيرات الجالية بالخارج، فهل من متدبر؟
مسيرة 16 فبراير ببروكسيل يجب أن تكون مناسبة للسلطة لتغيير شكل تعاطيها مع أزمة الريف.. لم تنفع الاعتقالات ومنع التظاهر بالريف دونا عن باقي مناطق المغرب، ولم تجد حملات التشويه في الإعلام التابع، في جعل ريفيي الداخل والخارج ينفضون عن قادة الحراك المعتقلين.. فقد استجاب ريفيو الخارج لنداء ناصر بما لم يتوقعه أشد الحالمين في شعب الحراك أو أشد المتشائمين من خدام السلطوية، واشتعلت صفحات الريفيين على مواقع التواصل الاجتماعي بتبادل صور المسيرة فيما يشبه روحا جماعية. لا يمكن طبعا، أن نتجاهل أن المسيرة كما التعليقات والنقاشات حولها، كانت مدموغة بنفس هوياتي يعلي من الانتماء الريفي قبل أي انتماءات أخرى (وطنية أو أمازيغية أو دينية)، كانت المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين (بمن فيهم معتقلو حراك جرادة)، وإنصاف المنطقة، غير منفصلة عن الاعتزاز بالهوية الريفية (لغة ورموزا وثقافة).
وكما كان حراك الريف منطلقا لتناسل حراكات اجتماعية في مناطق أخرى، فقد يكون بدوره مدخلا لتحول الحراكات المجالية/ المناطقية/ الجهوية مستقبلا من غلبة العنوان الاجتماعي/ الاقتصادي إلى هيمنة الرموز الهوياتية الجهوية المحلية، ويمكن تلمس ذلك في مسيرة «أكال» الأخيرة بالرباط، وسابقتها بالبيضاء التي كانت أقرب إلى حراك سوسي.
على العقل السلطوي أن يستوعب هذه الرسائل المقبلة من الريف، وأن يستوعب الأزمة بما يمنعها من الانفلات نحو ما لا يحمد عقباه، فيكفي أن البلد يمشي أعرج بسبب مسمار في حذائه يوجعه ويقلق راحته أثناء المشي (الصحراء)، ولا يمكن للبلد أن يتحمل ضمادة على رأسه في الشمال، فالمظالم قد تقود جزء من الشعب إلى البحث عن خيارات أكثر راديكالية ، وواهم من يراهن على مجتمع الدولة بدل دولة المجتمع.
لقد ورث الريف جُرحَ «بقيوة» زمن حركات بوشتى البغدادي في العهد العزيزي، وورث تجاهل السلطان يوسف لنداءات الخطابي، مما دفع هذا الأخير بعد انكشاف تواطؤ السلطتين المخزنية والاستعمارية نحو تقرير مصير الكفاح المسلح في الريف على شكل جمهورية بالشمال، كما ورث ذكريات قمع بدايات الاستقلال بعد رجوع محمد الخامس من منفاه في انتفاضة 1958، وورث عن سنوات جمر ورصاص الحسن الثاني ذكرى 1984 المؤلمة، ولا يُستساغ عقلا ووطنية ومواطنة أن تُورّث المظالم الناتجة عن الحراك الحالي للمستقبل..
إنها فرصة رغم كل آلامها، لتشييد ممكنات مصالحة تاريخية حقيقية بين الريف والدولة، على أساس مداخل: الإنصاف وجبر الضرر الجماعي وضمانات عدم التكرار.. لأن ما سُمي بالمصالحة الأولى كانت مدموغة بالغش، مادام المشاركون فيها من أبناء المنطقة (العاقين) قد باعوا للدولة وهم أنهم يمثلون الريف، وما كانوا سوى صائدي فرص حولتهم لأثرياء أشبه بأغنياء الحرب.. كانوا طلاب غنيمة لا حقيقة.. كما أنها فرصة لتسرع الدولة انتقالها اللابد منه من مركزية مغلفة بادعاء جهوية مفترى عليها، نحو جهوية حقيقية منطلقة من الجهات التاريخية بخصوصياتها اللغوية والثقافية والمجالية…