رواية -العودة- لميمون أمسبريذ (2/2)

محمد بودهان

اللغة والأسلوب:

رغم أن الأحداث، بتسلسلها وترابطها ومفاجآتها، عنصر أساسي مهم في الكتابة الروائية، إلا ما يضفي على هذه الأحداث الجمال والتشويق والمزيد من الواقعية، هو طريقة حبكها وكتابتها باعتبار أن الرواية ليست مجرد إخبار بأحداث وقعت، بل هي فن وإبداع وخلق للجمال، وإثارة لمشاعر السموّ والرضى والإعجاب. وهذا ما نحسّ به وندركه ونحن نقرأ مذكّرات “بادي”، دون أن يكون لدينا خيار آخر، لأن الكاتب هو الذي يفرض علينا هذا الإحساس والإدراك.

إذا عرفنا أن الإنتاج الكتابي بالأمازيغية لا زال في بداياته، يمارسه “مقاومون” و”مناضلون” مهووسون بحب الأمازيغية، وفي غياب لتعلّم مدرسي للكتابة الأمازيغية، فإن كل من يكتب نصا بالأمازيغية فهو في الحقيقة كاتب متقدّم عن زمانه، أي الزمان المدرسي للأمازيغية. أما من يكتب رواية فسيكون كاتبا مبدعا، ونابغة ملهَما. وهذا ما يصدق على ميمون أمسبريذ، وغيره من رواد الرواية الأمازيغية. فبدون عتاد أمازيغي مدرسي، يخلقون، بشغفهم بالأمازيغية، هذا العتاد عبر الكتابة الروائية. فغياب تدريس الأمازيغية ـ أقصد التدريس الجدي والحقيقي، وليس الشكلي الكاذب ـ هو ما يجعل الإنتاج الكتابي الأمازيغي لم يخرج بعدُ من “المرحلة الانتقالية” من الشفوية إلى الكتابة، مع كل ما يصاحب ذلك من تجريب واستمرار لحضور الشفوي في الكثير من الكتابات الأمازيغية التي لا تختلف عن هذا الشفوي إلا في كونها مدوّنة بحروف وليست منطوقة بأصوات. «لكن عندما نقرأ للكاتب ميمون أمسبريذ، يتكوّن لدينا انطباع، بل قناعة، أن كتاباته ليست “بداية” ولا “مرحلة انتقالية” للأمازيغية من الشفوية إلى الكتابة، وإنما هي كتابة تُبرز الأمازيغية كما لو كانت لغة تُمارس بها الكتابة منذ قرون، كلغة كاملة ومكتملة، قادرة على التعبير عن كل الوضعيات والأحداث والمشاعر والأفكار المغرقة في التجريد، كلغة لا تختلف في شيء عن اللغات التي أنتجت تراثا ثقافيا وأدبيا، غنيا وراقيا. […] والأمازيغية التي يكتب بها تمثّل السهل الممتنع: هي سهلة لأنها أمازيغية معروفة ومتداولة، لكنها في نفس الوقت صعبة لأنه لا أحد ـ كما يبدو ـ من غير أمسبريذ بقادر على استعمالها الكتابي بنفس الأسلوب الرائع والبديع». هذا ما كتبته (انقر هنا) في أكتوبر 2015 حول مجموعة من نصوصه القصصية (لقد أصدر هذه القصص في 2023 تحت عنوان: “الماء الأسود”) والشعرية.

وحتى أقرّب القارئ من هذا الأسلوب الجميل والبديع الذي يكتب به ميمون أمسبريذ، أنقل إلى العربية، فيما يلي، مقتطفات من الرواية، كنماذج معبّرة عن الأسلوب الروائي للكاتب، مع ما يقتضيه هذا النقل من “خيانة” للنص الأمازيغي الأصلي الذي لا تخلو منه أية ترجمة:

ـ عندما وصل “بادي” إلى بلجيكا للمرة الأولى، كان أول ما استرعى انتباهه، كفارق بارز بين سكان هذا البلد وسكان “تاغزوت”، هو أن الأولين تحكمهم “الساعة” في حين أن الأخيرين تحكمهم “الشمس”. يقول الكاتب على لسان “بادي”، للتعبير عن هذا الاختلاف في إدراك الزمن: «سكان هذه البلاد لا ينجزون أشغالهم تبعا لموقع الشمس في السماء: فحتى لو كان النهار قصيرا (كما في فصل الشتاء)، فإن “الساعة” تجبره على أن يكون طويلا. يخصمون من الليل ويزيدون في النهار، كمن يخصم من العرض ليزيد في الطول! في ساعات متقدمة من الليل تجدهم يملأون أنفاق المترو: هؤلاء ينزلون، أولئك يركبون، يتجارون كالنمل في مسالكها. لا أحد يهتم بالآخر، لا أحد ينظر إلى الآخر، لا أحد يعرف الآخر» (صفحة 9). «في “تاغزوت”، الحياة ليست مجزأة إلى أقسام كما في بلجيكا: قسم للعمل، قسم للموسيقى، قسم للعب… ما هو مجزأ في بلجيكا هو وحدة مندمجة في “تاغزوت”» (صفحة 10).

ـ في أول لقائه بالقوميين، يقول الكاتب، على لسان “بادي” في وصف حي لهؤلاء: «يتكلمون بقناعة، وبحرقة، عيونهم متقدة كأن بها نارا، وفي حناجرهم مرارة وإصرار» (صفحة 23).

ـ وفي حديثه عن الجهاديين والمتطرفين، يقول عنهم في تعبير يلخّص ما يطمحون إلى تحقيقه: «لا يعتبرون أنفسهم أبناء الأرض، بل أبناء السماء. لقد ضاقت بهم الأرض حتى تمنوا أن يصعدوا إلى السماء أو يُنزلوا السماء إلى الأرض حتى تكون هذه السماء هي أرضهم، أرض ليست من تراب: أرض الدين الحقيقي، حيث لا يعود الناس هم الناس أنفسهم، يعيشون بأنفسهم ولأنفسهم» (صفحة 48).

ـ وقد لاحظ “بادي”، وهو يتأمل صغير الشاة يكبر ونبات الجلباب ينمو، أن الناس، بعد أن لم يعودوا يمارسون زراعة الأرض، لا يرون من الحياة (ما هو حي) إلا نهايتها، أي ما هو ناضج وجاهز للاستهلاك، ولا يرون كيف وصل إلى مرحلة النضج. وقد عبّر الكاتب عن ذلك بقوله: «في بلجيكا، الخروف ليس حياة (ما هو حي)، هو فقط كتلة من اللحم. الجلبان ليس نباتا ينمو، هو طعام فقط. في بلجيكا، العيون لا ترى سوى المرحلة الأخيرة من مسلسل الحياة. في “تاغزوت” نرى الحياة من بدايتها حتى نهايتها» (صفحة 70).

ـ بمناسبة التحضير لحفل زفاف “تافسوت” و”ماسين”، يقول الكاتب على لسان “بادي”، مقارنا بين عرس اليوم وعرس السنين الماضية: «ليس هناك من قضى على العرس التقليدي الأصيل مثل بدعة مموّن الحفلات traiteur» (صفحة 92). «عرس اليوم يشرف عليه أناس (يقصد الندُل) مثل “مخازنية” بملابسهم التي لا تشبه ملابس أصحاب العرس، كلامهم جاف ووجوههم صفيقة مثل حراس السجناء. المدعوون ينتظرون متى يُقدّم الطعام ليأكلوا ثم ينصرفوا. هذا هو عرس اليوم […] في السنين الأخيرة، انضاف “النشيد” الذي يمارسه من يدعون أنهم المسلمون الحقيقيون، فمنعوا الرقص والغناء وأحلّوا مكانهما “النشيد” الديني، الذي يؤدّيه منشدون يأتون من خارج “تاغزوت”، بألبسة أفغانية» (صفحة 93 ـ 94). «هكذا كان عرسنا قبل أن نصبح غير ما نحن عليه، قبل أن يحوّله أبناء اليوم إلى معرض للأطعمة، […] عاد العرس جلوسا وأكلا وكلاما يتلاشى كالرغوة بمجرد خروجه من بين الشفاه. منذ أن تخلينا عن العرس التقليدي الأصيل، جفّفنا ينبوع الفن، فغدونا لا نملك شيئا: تركنا خيراتنا وبدأنا نقترض من الآخرين» (صفحة 99). «…عرس اليوم هو معرض للأطعمة، يوزعها ندُل لا يتكلمون، لا يعرفون أحدا من الحاضرين ولا يعرفهم أحد من هؤلاء، ذوو لباس موحد مثل لباس رجال المخزن، خطواتهم سريعة كجنود “محلّة” مخزنية كالتي كان المخزن يرسلها لمعاقبة القبائل المتمردة. هذه “المحلة” الجديدة هي التي يسمونها “تريتور” traiteur، قضت على التضامن الذي كان ميزة العرس التقليدي، أسكتت الحناجر (حناجر الغناء)، وأخرست البنادير، وأقعدت الراقصات، تخنق أنفاس الرجال في صدورهم. […] نكتفي بالجلوس، نأكل، نستمع إلى أصوات تنبعث من آلة تتكلم (ترديد أغاني مسجلة)، أو إلى “مديح” غريب عنا يسمونه “النشيد” (الديني) كأننا في مأتم» (صفحة 101).

ـ وفي وصفه لضربات البندير أثناء العرس الذي أُقيم بالطريقة التقليدية الأصيلة، بلا مموّن للحفلات ولا “نشيد”، يقول الكاتب على لسان “بادي”: «الضربات على البندير للنساء المسنّات كانت عميقة، قوية وممتلئة كأنها لا تنبعث من البندير نفسه وإنما من أعماق الأرض، لا نسمعها بالأذن فقط، بل بكل جوارحنا» (صفحة 100).

ـ في وصفه لشجرة الخورب السامقة رغم نقص الأمطار، يقول: «شجرة الخروب الناطحة للسماء بأوراقها الوارفة كأنها تسخر من الجفاف» (143).

ـ في حديثه عن اختيار سكان “تاغزوت”، الذين غادروها، أن يُنقلوا إليها عند وفاتهم ليُدفنوا بها، يقول: «أينما مات أحد التاغزوتيين بعيدا عن “تاغزوت”، ينقل أهله جثمانه ليدفن بمقبرتها. هذا ما جعل مقابر “تاغزوت” تبقى “حية” في حين أن كل ما حولها “ميت”. تاغزوت” خالية من سكانها لكن مقابرها عامرة. مساكن “تاغزوت” تتساقط، لكن مقابرها تنتصب. لا يستطيع أبناء “تاغزوت” أن يسكنوا بها وهم أحياء، لكنهم يعودون للسكن بها وهم أموات» (صفحة 60)
من يقرأ النصوص الأمازيغية؟

قلت، أعلاه، بإن من يكتب نصا بالأمازيغية فهو في الحقيقة كاتب متقدّم عن زمانه، أي الزمان المدرسي للأمازيغية. وأقول إن من يقرأ نصا بالأمازيغية، فهو كذلك متقدّم عن نفس الزمان المدرسي، لأن الكتابة والقراءة عملية مدرسية واحدة، حتى لو أن من تعلّم القراءة والكتابة قد لا يكتب ويكتفي بممارسة القراءة. لقد ظهرت أولى الكتابات الأمازيغية مع السبعينيات من القرن الماضي. وبعد نصف قرن لا زال ليس هناك تراكم للإنتاج الكتابي الأمازيغي. لماذا؟ لعدم وجود قراء لهذه الإنتاجات، مما يعني غياب الطلب عليها. ولماذا؟ لغياب الأمازيغية، مرة أخرى، من المدرسة. لهذا يبقى عدد قراء النصوص الأمازيغية يشكّلون قلة من “المقاومين” و”المناضلين”، مثلهم مثل “المقاومين” و”المناضلين” الممارسين للكتابة. وهذا مأزق للأمازيغية: فحتى تنتقل إلى المرحلة الكتابية، يجب أن يكون هناك متابعة قرائية للإنتاج الكتابي الأمازيغي. وحتى يتحقّق هذا وذاك، لا بد من تدريس الأمازيغية لتواصل إعادة إنتاجها بالاستعمال الكتابي بعد أن أصبح استعمالها الشفوي غير قادر على ضمان إعادة إنتاجها عبر الأجيال كما كان ذلك منذ العشرات من القرون. والحال أن هذا التدريس ـ أقصد التدريس الجدي والحقيقي، وليس الشكلي الكاذب ـ غائب. وهو ما يستمر معه غياب كتابة الأمازيغية وقراءتها خارج ما هو “مقاومة” و”نضال”.

وحتى الإرادة الصلبة، مع ما تعبّر عنه من فعل “مقاومة” و”نضال”، ومن حب للأمازيغية وتعلق بها، الحاضر بشكل قوي لدى كتاب الأمازيغية وقرائها، لا تستطيع أن تغيّر كثيرا من الواقع المتردي للأمازيغية، ما دام أنها لا تستطيع أن تفرض تدريسها، بالشكل السليم والمطلوب. فما ننساه عندما نطالب، منطلقين من “إرادوية” صادقة، محبّي الأمازيغية باستعمالها الشفوي والكتابي في كل المواقف والسياقات حسب الحاجة إلى ذلك، هو أننا لسنا “أحرارا” في أن نتحدث بالأمازيغية ونكتب بها ونقرأها. فهناك دولة هي التي تمنعنا من ممارسة ذلك التحدث وتلك الكتابة والقراءة. وهذا المنع لا تمارسه هذه الدولة بشكل مباشر كأن تقمع من يتحدث بالأمازيغية أو يكتب بها أو يقرأها. وإنما يظهر هذا المنع في كون مؤسسات الدولة لا تستعمل الأمازيغية، مما يستتبع أن المواطن الذي يتوجه إلى إحدى هذه المؤسسات، كمقر للشرطة أو الدرك أو محكمة…، لقضاء بعض أغراضه ويستعمل الأمازيغية في تواصله مع مسؤولي هذه المؤسسات، فقد تتعطل مصالحه التي من أجلها جاء إلى تلك المؤسسة لأن أولئك الموظفين لا يفهمون ما يقول إذا كانوا دارجفونيين. وهذا ما يضطره إلى استعمال الدارجة أو الفرنسية. فيكون هذا المواطن قد مُنع من استعمال لغته، فقط لأنه لا يستطيع الحصول على ما جاء من أجله باستعماله للأمازيغية. ونفس الشيء يصدق على الكتابة: فمن يحرّر طلبا بالأمازيغية موجها إلى إحدى البلديات من أجل الحصول على رخصة ما، سوف لن يحصل على جواب سواء بالرفض أو الموافقة. وهكذا ستتعطل مصالحه، مما سيثنيه عن الاستعمال الكتابي للأمازيغية لأغراض إدارية. فيكون قد مُنع من هذا الاستعمال دون أن يتدخل أحد لممارسة هذا المنع. فهنا أيضا، ما ينقص لرفع هذا “المنع” هو تدريس الأمازيغية حتى تكون لغة تستعملها مؤسسات الدولة، يتحدثها ويكتبها ويقرأها موظفو هذه المؤسسات بعد أن يكونوا قد درسوها لسنوات كافية لإتقان الحديث بها وكتابتها وقراءتها.

وكمثال على هذا المنع غير المباشر لاستعمال الأمازيغية والكتابة بها، هو هذا المقال نفسه. فلا الدولة ولا أحد غيرها منعني من أن أكتبه بالأمازيغية، وخصوصا أنه يخص الأمازيغية نفسها. فلماذا لم أكتبه بالأمازيغية؟ لنتخطى مسألة أنني لم أدرسها بالمدرسة ولا أعرف بالتالي كتابتها بشكل صحيح وسليم، ونكتفي بمسألة أنني عندما أكتبه بالأمازيغية، ودون أن يتدخل أحد لمنعي من ذلك، يطرح سؤال حول أين سينشر (ليست جميع المنابر تقبل نشر النصوص الأمازيغية) ومن سيقرأه. فيكون الجواب: يقرأه قلة من “المقاومين” و”المناضلين” من أصحاب الإرادة الصلبة. وهكذا نبقى في دائرة “الإرادوية” التي لا تستطيع تغيير الوضع بشكل كبير لصالح الأمازيغية أمام وجود الدولة. فما تحتاجه الأمازيغية اليوم ليس الإرادة القوية لمحبيها والمدافعين عنها، رغم أهمية ذلك، بل إرادة الدولة. وهذه هي الحلقة المفرغة للأمازيغية: ليس هناك قراء أتوجه إليهم بالكتابة الأمازيغية، مما يدفعني إلى الكتابة بالعربية حول الأمازيغية نفسها. وينتج عن هذا أن الكتابات الأمازيغية، كالرواية، تبقى بلا متابعة نقدية باللغة الأمازيغية نفسها، مما لا يساهم في تطوير وتوسيع الإنتاج الكتابي الأمازيغي. واستحضار الدولة، بخصوص مسألة كتابة وقراءة الأمازيغية، يعني أن موضوع الأمازيغية هو، في عمقه، موضوع سياسي، مرتبط بغياب الإرادة السياسية لدى الدولة لتدريس جدي وحقيقي وموحّد للأمازيغية، حتى لا تبقى فقط لغة “المقاومين” و”المناضلين” من المدافعين عنها، بل لغة الدولة التي تضطلع هي بالدفاع عنها وفرضها بمؤسساتها وإداراتها.

اقرأ أيضا

الإحصاء العام: استمرار التلاعب بالمعطيات حول الأمازيغية

أكد التجمع العالمي الأمازيغي، أن أرقام المندوبية تفتقر إلى الأسس العلمية، ولا تعكس الخريطة اللغوية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *