روبورتاج/تونس: قصر الدويرات.. شامة عزّة تتربّع فوق الجبل وتتميز بنقوش أمازيغية على الابواب والجدران

العمارة جزء من التاريخ ومن خلال اكتشاف العمارة يمكن استقراء الماضي والنبش في الذاكرة الجماعية لمعرفة عادات الشعوب، وفي الجنوب التونسي تحديدا ولاية تطاوين

القصور الجبلية دليل للإطلاع على حكايات من سكنوا الجبال وحولوها الى امكنة للحياة رغم قساوتها.

في تطاوين تبهرك القصور الصحراوية السهلية لكن القصور الجبلية اجمل لأنها اكثر صعوبة ومتعة و قصر الدويرات شامة على جبين احد الجبال يخبر الزوار ان هذه الارض الممتدة ارض للحياة وفي ضمن مشروع «الطفل المبدع» كانت الدروس التطبيقية في قصر الدويرات فتماهت متعة التصوير مع محاولة لاستقراء تاريخ زاخر بالمعاني والرموز.

الدويرات: كتاب تاريخ مفتوح عن المجد والبهاء

طريق جبلية صعبة وممتعة، الى اليمين واليسار تتوزع الجبال بقممها الشامخة تغري المارة للتوقف والتقاط صور تذكارية في مكان لا يتكرر، النخيل المترامي يتحد مع الزياتين ليعطي صورة مميزة فالقليل من اللون الاخضر وسط الاصفر يعطي معنى الحياة والأمل.

الرحلة الى قرية «الدويرات الجبلية» التي تبعد قرابة 20كلم عن تطاوين المدينة هي رحلة في التاريخ ومحاولة لاستقراء الزمن وفتح كتب الذاكرة ونبش الغبار عنها علّها تحدثنا عن أمجاد من سكنوا هذه الارض واستوطنوا الأعالي وكانوا شامخين شموخ الجبال .

السيارة تطوي الطريق وكأنها الاخرى تريد اكتشاف المكان، بعد عشرين دقيقة تقريبا حلّ ركب الزوار لهذا المكان المبهر، في الاسفل تترامى المنازل العصرية في «الدويرات الجديدة»، ارفع راسك قليلا سترى منازل اكثر عددا تراصّت على الجبل مثل الدّرر التي يبدع الرسام في نثرها على تيجان الملوك، تلك المنازل المنتشرة هي الدويرات القديمة وفي أعلاها قصر الدويرات الشامخ أعلى الجبل يحرس الذاكرة ويذكّر الزوار ان هنا اقام الامازيغ الاحرار هنا حفروا الجبل القاسي وحولوا حجارته الى منازل «غيران» هنا هندسة معمارية جد جميلة تبهر الناظر وتحثه على السؤال.

اللون البني لون الحجارة والتراب هو المسيطر ويتوسط الصورة جامع بلونه الابيض وأبوابه الخضراء هو جامع «النخلة» اقدم جامع بالمكان، ومن يمينه ستبدأ رحلة الصعود فالجبل «صعب على غير متساكني المكان» كما يقول احد ابناء القرية لكنّ الصورة المبهرة من علوّ تستحق المغامرة.

هنا «الدويرات»، الغيران تنتشر في كامل الجبل، شجيرات جبلية برية تزين المشهد، رائحة «الشيح» و«الرتم» تعطي رائحة مميزة للمكان وفي تمازجها مع رائحة الارض تكون المتعة، في هذا المكان يوجد 250 غارا هي دليل الذاكرة وعنوان هوية متساكني هذا المكان الشامخ كشامة اعلى الجبل.

طريق غير معبدة دائرية تحيط كامل المكان، اول الحلول سيكون البحث عن نقطة يمكن ان تكون دليل للصعود الى أعلى بعد الجامع بأمتار يوجد مدرج قديم جدا، بعض درجاته مهملة أكلها الزمن وتركت الطبيعة بصمتها فوقها من خلال الاعشاب البرية، سيكون المدرج وسيلتنا الى الاعلى، الطريق ملتوية في شكل حرف Z، وبعد 20 دقيقة من الصعود الشاق هاهي ملامح المدينة في الاسفل بدأت تتراجع وصغر حجم الجامع نقطة الانطلاق، وظهر سطح بناية شاسعة هي مدرسة الدويرات التقليدية التي شيدت في فترة الاستعمار الفرنسي تحديدا عام 1949 واليوم أصبحت أكبر مخيم ومصيف للشباب بالجنوب وحافظت على شكلها، وها قد باتت الرؤية من فوق اكثر وضوحا لتبدأ الرحلة في اكتشاف المنازل المحافظة على شكلها الداخلي وان دمّر بعضها من الخارج.

قصر الدويرات: تمازج التاريخ وعظمة الهندسة

هنا الدويرات هنا قصة من عشق اعالي الجبل وحفر منازل وحوّل الحجارة القاسية الى وطن مضيّق، قصر الدويرات ذاك القائم في الاعلى يتجاوز عمره الالفي عام وهو من اقدم القصور في الجنوب التونسي، القصر المتكون من 250 غرفة أو «غار» ولكل غرفة خصوصياتها التي تختلف عن الاخرى حسب الامكانيات المالية لأصحابها، ها قد اوشكنا على الوصول الى الأعلى القليل من الثبات حتى لا تزلّ القدم لتكون النتيجة مشهد بانورامي من اجمل المشاهد التي ستمتع العين وتسرق القلب.

في الأعلى أينما وليت وجهك ستشاهد الجبال الشاهقات المتراميات فجبال الدويرات جزء من سلسلة الظاهر الجبلية واغلب القمم بنيت فوقها قصور جبلية، السهول شاسعة وممتدة تدعوك هي الاخرى لزيارتها واكتشاف عيون الماء التي تحتويها وستحدثك عن القوافل التي مرت منها وعن الجمال والأفراح و اللقاءات التي حدثت في سفح صبّاحة الغني بالماء والأشجار.

قصر الدويرات الغني بالحكايات، الجولة في بقاياه ممتعة، بعض الغيران لازالت تحافظ على شكليها الداخلي والخارجي، أغلب الابواب من الخشب السميك المصنوع من جريد النخل، أغلبها لازالت تحافظ على بقايا اللون الاخضر وهو اللون المنتشر ، لون الزيتون والحياة، هندسيا شكل القصر دائري إلى أعلى الجبل، الجولة شبه دائرية ايضا فبعض الطرق ملتوية تتشابه والأزقة الموجودة في المدن العتيقة، في الداخل الجدران باردة رغم حرارة الطقس في الخارج، بقايا الحنّاء متروكة على الجدران واغلبها تتميز بنقوش امازيغية على الابواب والجدران وكأنها بصمة الهوية للمكان.

عبق التاريخ يفوح شذاه في المكان، الحجارة بتفاصيلها وألوانها البنية المتدرجة تجعل الاسئلة تتدافع عمّن سكن هذا الغار او ذاك، كيف كانت حياة العائلات هنا ايها الاكثر حظا، في اي غار توضع «السداية» لتصنع النسوة المرقوم الدويري المذهل بألوانه الساحرة ورموزه التي تحاكي شموخ المكان وعمليات هندسية جد دقيقة تبدع النسوة في تحويلها الى ألوان، المرقوم الكنز الذي تتوارثه النساء جيل بعد جيل، ربما تتساءل اين المعصرة وهل سنجد بقاياها، اسئلة عن الحب والحرب، عن الحكمة في خزن المؤونة و الحنكة في حفر غيران بعمق 16متر في اعلى قمة جبل شاهق، كيف كانت ترسل الرموز بين القصور الصحراوية وايّ طريق هو الاقرب الى الشقيقتين البهيتين «شنني» و«قرماسة» اسئلة ستتدافع تدافع الحجارة الصغيرة تحت قدميك اثناء العملية الاكتشافية فحاول الاستمتعاع دون الوقوع.

إذا تعبت لك ان تجلس قليلا، تنفس الاوكسيجين النقي، متّع ناظريك بالأفق الممتد والرؤية الجلية، هلاّ اخذت مكانا ظليلا لتتأمل بهاء المكان، انظر قليلا حولك الى الاسفل ستشاهد مجموعة من الحفر هي منازل أخرى محفورة في باطن الجبال وتسمى هنا «الحاف» ولكل عائلة منزل، تلك «الحاف» مسكن من سكنوا الدويرات قديما واليوم هي شاهد على الذاكرة، وأمامك مباشرة مجموعة من القمم الجبلية تبدو جدّ قريبة لناظريك ولكنها بعيدة من حيث المسافة، قبالتك الواجهة الشرقية لسلسلة الظاهر، تقابلك قمم «كاف شارن» و«طالب بلدين» و«ايديان» وسلسلة «خشم الباطن» و«تيدرخت» و«جلجاون» و«باطن اليتيم» وجميعها قمم شاهقة تحرس المكان وتتماهى مع السماء لتكتب صفحة في تاريخ هذه الارض.

ها قد انتهيت من اكتشاف كل المنازل تقريبا، ها قد سحرك المكان وانعشت ذاكرتك البصرية بمناظر طبيعية خلابة واكتشفت القليل من حكايات من مروا بهذا القصر وامتعت ناظريك بلوحات طبيعية مذهلة كتبتها الطبيعة وحان وقت النزول الى الاسفل مرة أخرى، ومن فوق يبدو النزول اصعب من الصعود فلتختر طريقا أخرى ما رأيك بالنزول من الجهة الخلفية للقصر؟ طريق اخرى ومناظر متجددة علّ الصورة تكتمل وسيكون الجامع نقطة الوصول كما الانطلاق فالمكان دائري كما دورة الحياة ولذة الاكتشاف تغري بتغيير طريق العودة.

الزيتونة المعجزة .. القليل من تاريخ المكان

زيتون الجبل لا يموت، للزيتون قصة ضاربة في التاريخ كما المكان، وأنت تصعد الجبل تعترضك في الكثير من الاحيان شجيرات زيتون لازالت صامدة رغم جفاء الطبيعة وقسوة المكان كذلك اشجار التين بعضها لازال يزين المنازل المهجورة لكن الزيتون اكثر فهو تمتدّ عروقه في الجبل كما الغيران، وفي الدويرات توجد اقدم شجرة في حوض المتوسط، الزيتونة المعمّرة «زيتونة العكاريت» التي تبلغ من العمر 900عام ومساحتها 2000متر مربع ومحيط دائرتها 116مترا، الزيتونة الشامخة يسمونها «الزيتونة المعجزة» لأنها لازالت تعطي الزيت كما تمثل وجهة سياحية.

القرى الجبيلة؟ استوديو تصوير طبيعي مفتوح؟

الدويرات وشنني وقرماسة «استوديوهات» تصوير حاضرة ومميزة لما تتميز به من معمار وطبيعة لكن الارادة غائبة فماذا لو تحولت الى وجهات سياحية حقيقية وأصبحت قبلة لتصوير الافلام والمسلسلات حينها ستصبح علامة فارقة في الاقتصاد الوطني فما تضمّه القرى من جمال لا يوجد في «بوزازارت» المغربية التي تشبه طبيعتها هذه القرى لكن الدويرات وقرماسة وشنني اجمل وأقدم.

القصر القديم.. تاريخ منسي تحرسه الكلاب

قصر اخر شامخ وثابت، قبلة اخرى للاكتشاف والبحث في تاريخ المكان، قصر مختلف من حيث الشكل الخارجي لانه يشبه القلعة في متانتها وصلابة جدرانها، القصر القديم في جهة المزطورية جنوب تطاوين المدينة هو الاخر عنوان للبهاء وللاختلاف القصر موجود في السهل وليس في الجبل اذ شيد على ربوة مرتفعة قليلا كما يسمى قصر زناتة التابع لقبيلة زناتة ولازال القصر على ملك متساكني القرية «ملكنا، ملك العيلة الكبيرة» حسب تعبير إحدى المتساكنات القريبات من القصر.

قصر زناتة ببابه الخشبي العريض لازال يحافظ على صموده في الباب رخامة تعرف بالمكان كتب فيها «يعود بناء هذا القصر الى 475هجري وقد بناه عبد الرحمان بن الياس الوسيني وهو ذو شكل مستطيل ويبلغ مساحته الجملية 2500متر مربع اما غرفه فتصل الى 200غرفة وتمتاز بكثرة النقوش والزركشة وشرع في ترميمه عام 1993» .

خلف الباب العريض قصر مستطيل لازالت أغلب الغرف تحافظ على شكلها لكن الهجران جعلها عرضة لقسوة الطبيعة فخيم عليها شبح الدمار، القصر القديم غير البعيد عن قصر العواديد واولاد عون احدى التحف المعمارية في القصور الصحراوية، تحفة اخرى جدرانها الخارجية صلبة لكن حالتها من الداخل مزرية، الصعود فوق اسطح القصر يؤكد على متانة الجدار الخارجي ومن فوقه ترى كل القصور والجبال المحيطة بالمكان، القصر التحفة تناساه التاريخ وتحرسه الكلاب لتحميه ممن يحملون الخراب الى كل تحفة جميلة، القصر ملك للخواص لكنه عنوان للذاكرة الجماعية فهل سيكون محل اصلاح وتهيئة لحمايته؟

المرقوم الدويري: نفحة من قوة المرأة

الوانه مميزة، خطوط وأشكال وشيفرات تحاكي المكان وتنقل قصص الاجداد ورموز الحاضر في المرقوم الدويري المميز لونا وشكلا وحكاية، المرأة الدويرية باعثة الحياة والجمال تنفث تفاصيل جمالها لتنعكس على المرقوم الذي تصنعه ليكون مادة تشكيلية ممتعة تستحق الدراسة والتحليل، فالمرقوم في الدويرات ليس مجرد نسيج بل هو قصة حبّ الارض والمكان هو شيفرات الحياة ورموز قوة المرأة الدويرية.

عن جريدة “المغرب” التونسية

اقرأ أيضا

المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة

دعا صاحب الجلالة الملك محمد السادس، اليوم الجمعة، للخروج بخارطة طريق واضحة المعالم ومتوافق بشأنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *