“رَاغَايِيدْ” ديوان شعري جديد للشاعرة نعيمة فارسي يُضاف إلى المكتبة الشعرية الامازيغية.
– أول السطر.
أتذكر حين عاتبتها بعشق ذات مساء غير بعيد بسؤال شرّع الشوق بابه : أما آن الأوان أن يكون لك ديوان يجمع كل أشعارك ليبتلعنا كلما اشتقنا لجنونك..ونلتهمه كلما احسسنا بضعفنا..؟
وحينها لم تُجب، بل ظلت تنظر إليّ صامتة…وكأنها كانت مترددة إن أجابت بنعم تكون قد أدانت نفسها بتهمة المماطلة، وإن أجابت بلا تكون قد اعترفت بذنبها في التأخير…لكنها سعت إلى جمع ما تبقى من غبار لحظات هاربة لتشكل منه معاني أقرب إلى تشييد بنيان من الصور التي تتجاوز حالة الاغتراب لتضعنا في قلب الريف … وتعلن اليوم عن إطلاق ديوانها الشعري الأول … في خطوة ليس من شأنها فقط روي عطش السؤال بل من شأنها كذلك تعزيز وجودها و وجود المرأة الريفية على الساحة الشعرية الأمازيغية والدفع باتجاه تكوين ذاكرة شعرية نسائية في العالم الأمازيغي.
هكذا أطل الجواب ، وبزغ فجر الديوان الأول للشاعرة نعيمة فاريسي ، مع أن قارئه لا يمكن له أن يكتشف للوهلة الاولى أنه الأول وهي شاعرة راسخة ، واختارت من بين قصائدها أعمالها الناضجة لتكون باكورة المنشور من شعرها .
ديوان جديد إذن يرى النور في وقت لم نعد نُراهن فيه كثيرا على الذاكرة … ونعيمة أدركت المعادلة فعزمت على ان تخلط الأسماء والأشياء وتعيد تركيب عالم وفق ما تراه هي… فجاء “راغاييد” (= ناديني ) وهو الاسم الذي اختارته شاعرة الريف عنوانا لديوانها الأول والذي صدر خلال الأيام القليلة الماضية…. وهي اليوم تنادينا أن نعانق معها الحلم.. بعد أن تخطى عبء الحمل والمخاض وآلام الولادة..
– النشأة و الرحلة ..أو حين تَعلق الصمت غائباً.
نعيمة فارسي شاعرة ريفية .. بدأت تنشر أعمالها مؤخرا، رغم أنها تكتب الشعر منذ زمن ، أسهمت اللقاءات وبعض المهرجانات كما شبكة الإنترنت فى نشر إبداعاتها، حتى تزايدت ثقتها في قصائدها، فنشرت ديوانها ..
تعود أصولها الى ميضار الأعلى في الشمال الغربي لإقليم الناظور ، فتحت عينيها في آيت توزين في ذاك الريف الشامخ عام 1975، و ميضار كانت ليست فقط مسقط رأسها، وإنما روحها ونشأتها وتعليمها. فيه تعلمت أبجديات الكلام واللغة الامازيغية.
بعد ذلك كانت النشأة والتعليم والشباب والاصدقاء، وجدت نفسها عالقة بكتابة الشعر في وقت مبكر، شعرت وكأنها من خلاله وجدت القدرة على التعبير عمّا يدور في نفسها وربما عن معاناتها كأنثى ومعاناة الأخريات من بنات جيلها ، في مجتمع مثقل بالبؤس والفقر والمرارة و ويلات العيش.
هكذا هي حكايتها مع الكتابة، قديمة جدا ، يعود تاريخها الى بدايات الثمانينات، لكن اول قصاصة أمازيغية كتبتها كان عام 1995، ومنذ ذلك الحين اصبح دافع الكتابة قويا بداخلها، فواصلت…
في 1999 حين تعلق الصمت غائباً..و ضاعت أمانيها.. وتوقفت.. أدارت هي الاخرى صدرها للريح ، حين أبصرت سواعد الكثير من أهل الريف ترحل..حزمت حقائبها و رحلت كما آخرون رحلوا ..وكانت الوِجهة ،هولندا.
تدفق إحساسها المرهف واحست أكثر أن بإمكانها أن تقول كلاما موزونا ، وبلغتها الأم .. لم ترتح في لغة أخرى غير لغتها، وكأن اللغة نابعة من جراح الذات.. و إحساسها الداخلي ينعكس على الكلمات،ونعيمة ليست ريفية فقط بلغتها ، بل أشياء كثيرة اشتركت في تكوينها ، كالأصل والمحيط والثقافة…حتى صار الريف جزءً من حياتها تتمثله وتدافع عنه، فكان انتماؤها الى الريف قوياً.
نعيمة وهي تتلو قصائدها تبدوا وكأنها تحمل من غزارة الوجع الذاتي ما يكفي لهد جبل. نصوص إبداعية مخلصة لفنّ الكتابة ، محتشدة وأنيقة ، مكتوبة بلغة شعريّة جميلة . تصلح مدخلاً لفهم بعضا من ما يشغل هذه الشاعرة التي أطلت بشعرها على العالم لأول مرة من خلال مشاركة بسيطة لها في برنامج إذاعي “أوار ذي رميزان”، لكنها كانت كفيلة ان تتنبأ عن ولادة شاعرة بالغة النضج والرهافة .. شاعرة من نوع آخر.
شاعرة ليست متشائمة ، كما يصفها بعض الاصدقاء هنا ، إنما هي تفهم الحياة على حقيقتها.
و اليوم ، آن الأوان أن نعانق معها حلمها ونتأبط معها ديوانا جمع كل أشعارها ليبتلعنا كلما اشتقنا لجنونها..ونلتهمه كلما احسسنا بضعفنا..
بل أنها بهذا الديوان تجعلنا أيضا نحلم بثقافة تمشي على الأرض، تلامس الواقع وتشتبك معه بدلا من ثقافة المزاعم والرؤى والتصورات التي تتدثر عادة بالكلمات الكبيرة البراقة..
– ديوان متكامل
جاءت المجموعة الشعرية (راغاييد) (ناديني..) في 126 صفحة من القطع المتوسط تحمل 31 قصيدة في نصوص شعرية متصلة ممزوجة بإيقاعات وجدانية .. مكتوبة بأمازيغية الريف بحروف لاتينية وبالتيفيناغ موزعة على العناوين الآتية: راغاييد ، ايمري ذايي ثنِّيذ،نش د شَّم د نتاث ، لالا ثامورت اينو، أسنداف،ثاسغارت، ثغري ثفوشت انوام ، وي خافام غا ساقسيغ ، سغويْ، مغار وار تُّوسيد، اي شاك،اميس نتمورث اينو ، ساقسا خافي ،اواران ايتسغداد، سيجاد خافي مارا ثوسيد ، اوشيغ س رحريق انَّام، مولاي موحند، اقمَّاحْ، لالا يما ايعيزان، راجايي، اينياس،آسد غاري ذرفادج؟ ، ملاغ خافي،ثابرات اي يما،جاراناغ، آي إنين،ذي ثيطاوين اناش،سمونايي كيذاك، ….~ ؟؟؟؟،أعفَّار،ايسي يايي كيذام أثوذارث.
كتب مقدمة الكتاب الأستاد أنديش شاهد..بل والذي كان له الفضل الكبير في صدور الديوان بالحلة التي هو عليه ، وتتخلل صفحاته عدد من الرسومات من أنامل الفنان أمحمد أبطوي على شكل لوحات وفواصل ساحرة ومعبرة.
وقد لاقى قرار الشاعرة نعيمة ترحبياً كبيراً في الأوساط الامازيغية ، لا سيما في ظل مطالب قديمة جديدة من جمهورها وقرائها بجمع القراءات الشعرية السابقة في ديوان شعري متكامل يكون بمثابة مرجع شعري جديد يُضاف إلى المكتبة الشعرية الريفية والامازيغية .
وتتمنى نعيمة أن يكون هذا الديوان باكورة أعمال شعرية تذيب حرقة الاسئلة وتقدم المتعة والفائدة المرجوة للقارئ وكلمة جديدة جادة في ديوان الشعر الريفي الأمازيغي .
تتسم قصائد “ناديني” بخيال سيريالي واسع ، أمر يحتاج فعلا إلى قدرة موازية على التأويل بإعادة إنتاج الكلمات عبر بناء موازٍ للدلالات وإعادة تركيب العلاقات.
ومن أجواء الديوان: « ناديني إن كان حتى ذاك القلب الذي تتوسده قد أنزف جراحاتك ..
ناديني تجد قلبي وقلبك لا زالا رغم المسافات أحياء ..
بالاحساس الذي يملئنا ويحتوي قلوبنا.. يتواصلان ..
ناديني……”.
بهذه الأبيات نتذكر صدور الديوان ، نعانق كلمات لا تشبه اي كلمات ، عند تناولها سرعان ما تكتشف أنك بصدد كلمات شعرية مختلفة ، و بصدد شعر غير ذاك الذي اعتدنا قراءته ، ونعيمة لا تكتب ذالك النص الرومانسي أو السهل الموسوم بتعامل عاطفي مع العالم والأشياء، بل هي تكتب بطريقة ثورية ،عاصفة، مجنونة تزج بك من أول خطوة لك في غمارها.. لانها تدرك جيدا نوع جمهورها الذي تكتب له.
وهي تعترف أنها ومنذ خطها لقصيدتها الأولى وردود الأفعال الإيجابية التي تلقتها، أدركت أن الخاطرة الشعرية التي اجتاحت كيانها ورغبت في التعبيرعنها لم تعد ملكها، وأن هناك جمهوراً واعياً وناقداً يستطيع أن يميز الجيد من الرديء و ينتظر أن يسمع ما يرتقي بذائقته.
فبات انتقائها للمواضيع أكثر جدية وصرامة، وباتت تستند في كل ما تقدمه إلى قاعدة آمنت بها أن الشعر حالة إبداعية تحاكي انشغالات و هموم وحواس الإنسان وكيانه ، لذا فلا بد أن يتضمن أي نتاج شعري انتظارات وقيمة مضافة للقارء.
الديوان يضم بين دفتي صفحاتة قصائد للعشق والجرح والالم وللوطن الريف ومقاصد تخلق وحدة أدبية بين مقصد المشاعر والشعور لتكشف من خلالها كلها مجتمعة عن عمق و جمالية اللغة الامازيغية وبيان المعاني الجميلة التي تثري الواقع الأدبي الامازيغي.
– قصائد سمعناها ولم نقرأها بعد .
شاعرة سطع نجمها في سماء الشعر الامازيغي الريفي من خلال مشاركات عدة في منتديات ولقاءات عديدة و التي فتحت لها باب الاطلالة على جمهورها ، كسبت قلوب الناس وأبهرت بكتاباتها جمهور الشعر ومتذوقيه بكل شطر وكل قصيدة سطرها قلبها قبل أن تسطرها أناملها فأجمع كل من سمعها بشاعريتها و بكل ما تحمله قصائدها من آهات ودموع وشجون وحنين ..
وهو ما يتضمنه الديوان ،عدد كبير من القصائد سبق وأن سمعناها في مناسبات عدة مختلفة والتي لاقت رواجاً كبيراً بين متذوقي كلمات نعيمة.
– هوية وجذور
حين كنت أتابع ملامح وجها وهي تلقي قصائدها ، كنت أرى آثار الحزن، وعلامات الأسى والاعتبار والحنان وكأنها تريد أن تعلمنا أن الوفاء أمانة وميراث أجيال تتواصل في محبة الإبداع
وكأن نعيمة تشدد بذلك على أن هذا التنوع منبعه حبها للغة الامازيغية وقدرتها على توفير الأدوات الشعرية المختلفة لها ، كما الريف في قصائد الديوان هو الاحتفاء بالماضي العريق والعزف على أوتار الحنين لحياة الأجداد وغوص في أبعاد الهوية الامازيغية، وخطوتها الشعرية الأولى التي أخذت من خلالها بطاقة الدخول إلى نادي الشعراء..
ويتجلى ولع نعيمة بالريف كثيرا في قصائدها، حيث يستشف المستمع و القارئ جرعة كبيرة من الواقع المعاش بالريف وبالثقافة الريفية اللذان انعكسا على تنوع المواضيع وثرائها وأسلوب الطرح الذي يجمع جمال المبنى وكمال المعنى، إضافة إلى الرومانسية التي تطبع روح القارئ بمشاعر إنسانية راقية تأخذه في رحلة إلى عوالم وآفاق تخفف من وطأة الواقع القاسي.
– آخر السطر.
خلاصة القول هو ديوان بمنتهى الروعة والبساطة والعمق يذكرنا باعمال خالدة نشتاق اليها اليوم كثيرا..
ديوان جدير بالاطلاع و القراءة و التمعن في بحوره ومعانيه, لمعرفة آفاق ثقافة الشاعرة المبدعة , والتي نأمل لها مزيدا من النجاح و التقدم لاغناء المكتبة الريفية الامازيغية في مضمار الشعر ..والأدب بشكل عام.
محمد بوتخريط . هولندا