يخفي اللغط الكبير بشأن زواج المال والسياسة، زواجا آخر يحيطه محترفو السياسة بكل الكتمان والسرية اللازمين. فإن اقترن المال بالسياسة منذ ما يزيد عن تسعة آلاف سنة، فقد وثقت السياسة أيضا رباطها بالفقر منذ ذلك التاريخ. ويعود تاريخ زواج السياسة بالفقر وبالمال إلى تشكل أول المجموعات السكانية المستقرة وتبلور أول أشكال مؤسسات تدبير العيش المشترك والتمييز بين الحاكمين والمحكومين وبين من يَمْلك ومن لا يَمْلك.
لماذا إذن يندد محترفو السياسة المغاربة بزواج المال والسياسة ويصرفون النظر عن زواج الفقر والسياسة؟
الشّنّْاقْ، مُولْ الشّكَارَة، ورجل القش
يبدو من مجريات التدافع السياسي بالمغرب خلال السنوات الأخيرة، أن خطاب التنديد بزواج المال والسياسة هو في حقيقة الأمر سلاح تكتيكي يواجه به “محترفو السياسة” خطط رجال الأعمال لكسر هيمنتهم على القيادة الحزبية والسياسية (Leadership politique et partisan). لا يحتاج المرء للكثير من الذكاء للوقوف على حجم الأخطار التي تحيط بمصالح “محترفي السياسة” في حالة نجاح رجال الأعمال كقادة حزبيين، فنجاحهم يشكل خطرا على أدوار الوساطة والسخرة التي يقوم بها محترفو السياسة بين عالم الأعمال من جهة والكتلة الناخبة والمؤسسات من جهة أخرى.
لقد بدأ تركيز بعض الأطراف السياسية على التنديد بزواج المال والسياسة يعطي نتائجه العكسية. فالإفراط في استعمال هذا السلاح التكتيكي جعل العامة من الناس تتساءل عن المغزى من محاولة الإجهاز على حق رجال الأعمال في قيادة الأحزاب، خصوصا وانهم كانوا حاضرين دوما في التجارب الانتخابية بالمغرب، سواء من خلال نموذج المرشح “مول الشّكَارَة” أو نموذج رجل الأعمال الذي يختار رجال القش (Les hommes de paille) يدفع بهم لدخول المؤسسة التشريعية لتنفيد أجندته الخاصة والدفاع عن مصالحه.
لقد افتطن الكثير من الناس على ما يبدو إلى أن خطاب التنديد بزواج المال والسياسة يخفي وراءه أسرارا ومصالح، وتعج شبكات التواصل الاجتماعي بالكثير من التخمينات والافتراضات ذات الصلة بالموضوع. فمن قائل بأن محترفو السياسة هم في الحقيقة أشبه بالشّنَّاقَّة تتمحور أدوارهم في لعب الوساطة بمقابل سخي بين كتلة ناخبة مُرَوّضَة ورجال الأعمال من طينة مول الشّكَارَة، وتنتهي مهامهم مع ظهور النتائج الانتخابية فيسارعون إلى إغلاق المقرات الحزبية في انتظار الانتخابات المقبلة. إلى قائل بأن محترفو السياسة المتسترون على زواج الفقر والسياسة ليسوا سوى ورما مجتمعيا يجب استئصاله، لأن زواج الفقر والسياسة فتاك بالأوطان والشعوب.
فهل زواج الفقر والسياسة فَتّاك بالأوطان والشعوب؟ يبدو السؤال مستفزا، وهو كذلك، خصوصا وأن امتدادات الفقر ونسبة الفقراء في بلد كالمغرب تصعب معرفتها على وجه الدقة. فبين الفقر النقدي والفقر المتعدد الأبعاد وتفاصيلهما تسكن الشياطين. لا مواطنة مع الفقر ولا مشاركة سياسية حقيقية للفقراء، فالتمتع بالحقوق السياسية رهين بالتمتع بالحقوق الاقتصادية والإجتماعية. الفقر يفسد الديموقراطية إن وجدت ويحول دون استكمال البناء الديمقراطي إن كان في طور البناء، فالطبقات الكادحة انتهازية بطبعها وهي أكثر الفئات ممانعة ومناهضة للتطور والتقدم والحداثة، هي حليفة من يدفع أكثر ولذلك تفسد الديمقراطية وتعزز الإنحطاط القيمي.
السياسي المحترف “الشّنّاقْ” وتوأمه “مول الشّكَارَة” في حاجة ماسة للفقراء، يشترون أصواتهم ليحولوها ريعا سياسيا، ليس من مصلحتهم القضاء على الفقر، فمنه يستمدون مقومات الحياة والاستمرار والقوة. لذلك من مصلحة البلاد ومن مصلحة البناء الديمقراطي حصول الوفرة النوعية في العرض السياسي ودخول لاعبين جدد إلى المعترك الحزبي، رجال أعمال كانوا أو أطر أو فعاليات مدنية تحمل مشاريع لبناء مغرب النماء والرفاه الإجتماعي. من مصلحة البلاد أيضا نزول المثقفين إلى الميدان للمساهمة في وضع حد لعبث التْشْناقْ السياسي بالحياة السياسية.
على سبيل الختم
في المغرب يصول ويجول محترفو السياسة لإفساد ما تبقى من الحياة السياسية المغربية. فبعد أن دمروا آخر القلاع التي تحصن بها المثقفون والشرفاء داخل الأحزاب، أعلنوا الحرب على رجال الأعمال الطامحين لممارسة السياسة دون اللجوء لخدماتهم. يحيط محترفو السياسة زواج الفقر والسياسة بكل العناية اللازمة، فالفقر حليفهم وبفضله يسيطرون على قواعدهم الانتخابية يوجهونها كما يشاؤون. يمكن للشّنّاقْ أو رجل القش او مُولْ الشّكَارَة أن يغير لونه السياسي كما شاء ومتى شاء دون أن يؤثر ذلك على قطيعه الانتخابي، فله أسلوبه الخاص في ترويض القطيع.
في سويسرا يرفض البرلمانيون وصفهم بـ “محترفي السياسة”، ذلك لأنهم يريدون الحفاظ على هويتهم الأولى نسبة إلى المهنة الحقيقية الأصلية التي يمارسونها. هناك في سويسرا يوظف السياسيون كفاءاتهم لإطلاق مبادرات نوعية جريئة لصالح مجتمعاتهم كمواطنين صالحين. في عام 2006، أطلق البرلماني ورجل الأعمال “توماس ميندار” مبادرة شعبية تدعو إلى وضع حد للأجور المبالغ فيها التي يحصل عليها كبار الموظفين والمدراء في المصارف والشركات والإدارات العامة. وعلى إثر موافقة الناخبين على هذه المبادرة في عام 2013، أُطْلقَ على توماس ميندار لقب “سياسي العام” ومنحت له جائزة القطاع العام لدوره في المجال السياسي. في معرض التعليق على منحه تلك الجائزة، قال ميندار: “يحدث هذا في الوقت الذي لا أعدّ فيه نفسي سياسيا محترفا، فأنا أوّلا وقبل كل شيء رجل أعمال”.