سعيد بلغربي في حوار مع “العالم الأمازيغي”: «السرد هو مستقبل الأدب الأمازيغي»

سعيد بلغربي، كاتب وباحث في الثقافة الأمازيغية، ولد بدار الكبداني بالريف (شمال المغرب)، عضو بالعديد من الجمعيات والمنظمات الثقافية، له مجموعة من الكتابات الإبداعات والدراسات الأدبية الأمازيغية، باللغتين الأمازيغية والعربية، نشر بعضها في منابر إعلامية مغربية وأجنبية. وله مجموعة من الإصدارات السردية. من كتبه: «الإعلام الإلكتروني الأمازيغي، مدخل إلى دراسة نظرية وتحليلية»، وله تحت الطبع كتاب «الحياة الأدبية في المجتمع الأمازيغي القديم». وصدر له في مجال الترجمة «Anfarar» (النهاية)، وهي مجموعة قصصية مترجمة عن الأدب الكردي.

وقد أنجزنا معه هذا الحوار للتعرف على العوالم السرية للكتاب بالأمازيغية، وكشف طرق تفاعلهم مع عذابات الكتابة ولذاتها.

حدثنا عن منجزك الأدبي؟

نشرت ثلاث مجاميع قصصية، هي: «ⴰⵚⵡⴰⴹ ⵢⴱⵓⵢⴱⵃⵏ» (تأملات مبحوحة) سنة 2006، و«Asfidjet» (الفأل) سنة 2008، و«Tariwriwt n raxart» (زغرودة للموت) 2015، ونشرت سنة 2009 رواية عنوانها « Nunja tanecruft n izerfan » (نونجا حبيسة الأعراف).

ما هي قصة انخراطك في الكتابة، كيف جئت إليها؟

القصة في مجملها ساهمت فيها أحداث بسيطة من الحياة اليومية، إلى جانب مجموعة من العوامل والإرهاصات الذاتية والنفسية التي ساهمت في تكوين البدايات الأولى لتجربتي الإبداعية، فمنذ طفولتي كانت تراودني رغبة ومتعة في القراءة تطورت بعدها إلى فعل الكتابة، كنت على اطلاع واسع على قصص ومجلات الأطفال والناشئة المستوردة حينها من الشرق الأوسط والتي كانت تباع بالريف بأثمنة رمزية ربما لغرض في نفس يعقوب.

وأنا يافع، كنت دائما حذرا مما كانت تنشره هذه المجلات، كنت أشعر بأن مواضيعها لا تمت بصلة إلى ذاتي وهويتي وبيئتي، حينها فكرت في أن أكتب شيئا يشبهني، أن أكتب بلغتي الأم وبطريقة مختلفة، حاولت أن أعبر عما في داخلي من أفكار ورؤى وتساؤلات، فأمسى فعل الكتابة عبر الوقت جزءا كبيرا من حياتي.

ماذا عن ظروف كتابة ونشر نصك الأول؟

قبل أن أتعمد نشر نص من إبداعاتي؛ أتذكر أنني راسلت برنامجا ثقافيا يعنى بالشعر الأمازيغي بإذاعة تمازيغت، حدث هذا في بداية التسعينات من القرن الماضي، دهشة البدايات لها إحساس مميز؛ وخاصة عندما كان يخبرني أحد من الحلقة الصغيرة من الأصدقاء والأقارب بأنه استمع إلى قصيدة لي أذيعت عبر البرنامج المذكور. وفي نفس المرحلة كنت أكتب مجموعة من الخواطر والإرهاصات الناتجة عن الفتوة وعلاقتها بمواضيع مرحلية، فنشرت نصوصا كثيرة باللغة العربية والأمازيغية في جرائد محلية ووطنية.

ما هو نصك الأقرب إلى نفسك؟

كلها، بلا استثناء، حتى نصوصي التي وشمت بداياتي الأولى، على الرغم من رداءتها وقلة نضجها ربما، عندما أطلع عليها تُشعرني بنوع من النوستالجيا، إنّها نوع من الجاذبية نحو مخاضات البدايات.

ما هو مفهومك للأدب؟

قد لا نستطيع الخروج عن المألوف في التعريف بالأدب كما سنّه النحاة والرواد، لكن بالنسبة لي الأدب كحبة الأسبرين، عالم يشعرني بالهدوء والسكينة، كلما أحسست بضيق المكان أفتح كتابا أو أكتب نصا أتنفس من خلاله الصعداء، الأدب بالنسبة لي هو تلك الفسحة التي من خلالها أستطيع تحقيق نوع من المتعة.

طرح سؤال «لماذا تكتب؟» على كثير من الكتاب، وكل منهم أجاب إجابة مختلفة. ماذا عنك، لماذا تكتب؟

اعتبرتُ الكتابة في البداية كوسيلة للتعبير عن مجموعة من الأفكار وتداولها مع الآخرين، إلاّ أنه بعد الممارسة المستمرة تعلمت أن الكتابة رسالة ومسؤولية قبل أن تكون هواية، في هذا المضمار اهتمامي وشغفي بالثقافة الأمازيغية وانخراطي المبكر في الحركة الأمازيغية فرض علي التعامل الفعلي مع لغتي الأم عبر اكتشاف جمالياتها التي لا يمكن أن تتحقق إلاّ بواسطة ممارسة الكتابة الجدية بها. بحيث إن أخيلتي وتصوراتي نابعة من اللغة الأمازيغية، فعرفت أنه من بين أكثر الأمور إمتاعا وجاذبية الكتابة بهذه اللغة والمساهمة في إبراز مكوناتها الحاضنة لروح حضارة وثقافة وتراث إنساني عمره آلاف السنين.

هل تمارس طقوسا، قبل وأثناء الكتابة؟

ليست هناك حدود ثابتة تجعلني ألتزم بطقس معين، فالكتابة سلطتها أقوى من أن تجبرها على الترويض، أكتب كلما أحسست برغبة في ذلك، ربما أستغرق وقتا طويلا بدون أن أدون فيه ولو سطرا يتيما، وربما في يوم واحد تجود قريحتي بنص أو أكثر، ويحدث أن أستيقض في آخرالليل لكتابة فكرة ما لأخلق منها نصا إبداعيا معينا.

لكن من الطقوس الأساسية التي أمارسها عبر تجربتي المتواضعة في ميدان الأدب الأمازيغي؛ أنني لا أتسرع في نشر ما أكتبه، أستأنس بالنص وأغازله وألحّمه وأداعبه مرات عديدة حتى تكتمل نسبيا صورته ثم أشاركه مع القراء.

وهل تمارس نقدا على نصوصك؟ هل تنفصل عنها لتقرأها بوصفك ناقدا لا مبدعا؟

النقد والإبداع وجهان للورقة ذاتها، فالمبدع لا بد أن يحمل في داخله ناقدا سريا أو ناقدا داخليا، مكلف فقط بضبط كتاباته ووضع قراءات تقويمية لها؛ من أجل أن يتجاوز مجموعة من النواقص التي قد تسيء إلى طبيعة نصوصه الإبداعية، لكن أن تنفصل عن نصوصك وتقرأها من الخارج وتحكم عليها وكأنها ليست من صلبك فهذا نوع من الغرور والأنانية التي قد تسيء إلى الكاتب وهو بطبيعة الحال انحراف عن المعايير والأسس التي تعتمدها الجهود النقدية الواسعة.

ما هي الفترة الزمنية التي استغرقتها كتابة نصوصك، كل على حذة؟

أغلب نصوصي كتبتها في أزمنة وفضاءات مختلفة، حصة الأسد من إبداعاتي الأمازيغية كتبتها في المهجر بإسبانيا، كنت أكتب لكي أتوارى عن الحقيقة التي وجدت فيها نفسي هنالك، مارست الهروب من ذلك الواقع عبر سفينة الكتابة فكنت دائما أُشعر نفسي بأنها خارج أنياب الغربة وشراستها، لا أتذكر بالضبط السعة الزمنية المستغرقة، لكنها تتفاوت من نص لآخر. مثلا روايتي “Nunja tanecruft n izerfan” استغرقت في كتابتها أكثر من سنة، واستغرقت في تنقيحها الوقت نفسه.

ماذا تقرأ حتى ترفع من القيمة الأدبية لكتاباتك؟

اقرأ المجتمع في كل تجلياته، أتأمل وجوه الناس وتصرفاتهم، فقد تجد على صفحات هذه الوجوه ما لا تجده في الكتابات التقليدية، وفي المقابل أقرأ بنهم ثقافة الآخر، فيسر الوصول إلى المعلومة عبر التقنيات الإعلامية الحديثة والترجمة، مكنني من البحث عن الكيانات الثقافية المختلفة وخاصة الهامشية والمهملة منها، فاطلعت على الأدب الكردي والهندي والأدب الإفريقي العميق الهارب من ضوء المؤسسات والأدب اللاتيني المنبعث من الأزقة الضيقة.. هي كتابات تمنح لك صورة مميزة عن طبيعة الاختلاف في تصرفات البشر وأشكالهم، وتأخذك إلى المراتب التي وصل إليها الإبداع من تطور في النظرية والتجربة.

الدرس الذي تعلمته من هذا الأدب العميق هو تعلقي بأمازيغيتي، فالمبدع يكون أكثر صدقًا كلما كان أكثر التصاقًا والتحامًا بمنبعه ومجاله، وناتجًا من تفاصيل بيئته المألوفة، ويقدمها بشكل ونظرة محلية تستحق أن تكون كمنجز إبداعي أصيل.

هل حصلت على أي تعويض مادي من كتبك؟ وهل يمكنك ذكر التفاصيل؟

لحدود الساعة لم أحصل على أي تعويض مادي مقابل حرف واحد كتبته في حياتي، ولا أكتب من أجل التسويق أو الربح المادي، فالكتابة بالأمازيغية حاليا هي نوع من النضال الذي أمارسه الى جانب شبكة واسعة من الكتاب الذين يتقاسمون معي نفس الأهداف.

بالمقابل؛ المؤسسات الساهرة على الأمن الثقافي بالمغرب لم تنصف الكاتب والمبدع الأمازيغي، فهي مؤسسات لم تتحرر بعد من مبدأ انتماءات الزمالة والزبونية والولاءات للألوان الحزبية. حتى وإن تجرأت على طلب دعم لكتابك فستجد نفسك في دوامة من الانتظارات وأمام مساطير معقدة من الوثائق، ويبقى دعم الكتاب الأمازيغي آخر شيء مُفكر فيه في المغرب.

لمن تقرأ من الكتاب الأمازيغ؟

قرأت جل الكتابات الأمازيغية المنشورة بأمازيغية الريف، الشعرية والنثرية منها، أقرأ كل نص يثيرني، كما أقرأ بمعزل عن انتماءات الكاتب الفكرية، وفي الحقيقة جل ما قرأته من نصوص أمازيغية كانت مذهلة بصرف النظر عن جودتها، فالأدب الأمازيغي لديه جاذبية خفية تجعل عشاقه يرتشفون منه بنهم فهو مرغوب ومحبوب لتميزه بمجموعة من الخصائص.

في نظري، لا يمكن لك أن تصبح كاتبا أو شاعرا أمازيغيا بدون أن تقرأ لأحمد الزياني أو لسعيد الموساوي أو لمحمد بوزكو ولمولود معمري…

ما موقع المرأة في كتاباتك؟

إن كانت الكتابات العالمية تصف المرأة بأنها نصف المجتمع فإن المرأة في المجتمع الأمازيغي هي كل المجتمع، المرأة قبل أن تكون جسدا منتجا للذة فإنها كانت ومازلت رمزا للاستمرارية والانتماء الهوياتي والحضاري وخاصة في الثقافة الأمازيغية التي منحت لهذا الكائن الجميل مكانة مرموقة يشهد لها التاريخ. شخصيا لا أكتب عن امراة معينة بذاتها، فحضور المرأة في كتاباتي يعود إلى هذا التأثير الرمزي، دائما أحاول أن أذيب رمزيتها في نصوصي، بحيث يصبح الحديث عن جدلية المرأة أو الانتماء إلى هذه المرأة هو في حد ذاته انتماء إلى هذه الأرض الأمازيغية وانتماء إلى هذا التاريخ الأمازيغي الذي يتخذ كما قلت المرأة عنصرها الدال على استمرارية وجودنا الحضاري .

بمن تأثرت إبداعيا؟

المبدع لا يمكنه أن يكتب من العدم أو بمعزل عن الآخرين، كما أنه من الصعب أن يحصر الإنسان تأثره بكتاب معينين، في بداياتي الأولى استأنست كثيرا بالحكايات الشعبية التي كانت ترويها لي والدتي وجدتي، ومن وحي القصص الأسطورية والدينية التي كان والدي يتفنن في روايتها لنا نحن أبناءه؛ وكنت معجبا بشخصيتها الخارقة، مما شكل لي محطة مهمة لبداية التخيل والتحكم في تجسيد كل ما أسمعه ذهنيا، ثم انتقلت إلى التعرف على أدباء آخرين وجدت كتبهم في خزانة والدي ككتب توفيق الحكيم وجبران خليل جبران هذا الأخير الذي تعلمت منه طريقة الاشتغال أدبيا على جماليات الحياة المتعددة كالحب والسلام والطبيعة .

ولا أنكر هنا إعجابي الشديد بطاقات إبداعية مهمة يمثلها ثلة من الشعراء والكتاب الأمازيغ الذين تأثرت نسبيا بكتاباتهم كأحمد أحلالوش، أحمد الزياني، محمد شكري، محمد خير الدين، وغيرهم.

لماذا اخترت السرد جنسا في التعبير؟

من المعروف أن الشعر الأمازيغي قد طغى لونه على معظم الفنون الأدبية على مر العصور لخصوصيته المتميزة؛ مما منح له قدسية لا توصف، لكن هذه الجلالة أصبحت تتآكل مع انتقال الأدب الأمازيغي من طبيعته الشفهية إلى فعل الكتابة سواء الورقية أو الشبكية، إننا نعيش اليوم مرحلة بات فيها تطوير أساليبنا الإبداعية ممكنا وحتميا، والتصالح مع موروثنا الأدبي النثري أصبح ضروريا، فلا ننكر أن النثر شكّل بدايات الموروث الإبداعي الأمازيغي القديم فيكفي أن نُذكر أنفسنا بروايات التحولات لأبليوس وذاكرتنا الشعبية مليئة بالحكايات الرائعة. من هنا اخترت النثر سبيلا، إذ أنه باستطاعة النص النثري أن يعبر عن الأحاسيس الوجدانية وعن الانفعالات الإنسانية بشكل سليم وأن يكون أقدر على محاكاة الحياة شموليا، وأن يعطي بصمات أخرى أكثر من النص الشعري، وأنا واثق إذا قلت لك أن السرد هو مستقبل الأدب الأمازيغي.

ماذا تعني لك المرأة؟

وطن دافئ

والجنس معبرا عنه في الإبداع؟

إفراغه من الرمزية يفقده بريقه.

والموت؟

تلك الوجبة الأخيرة التي في متناول الجميع.

والدين؟

السلام الروحي.

واللغة العربية؟

قصة تعايش مستمرة.

حاوره: مبارك اباعزي

شاهد أيضاً

الحسن زهور: النقد الأمازيغي ما يزال في طور التأسيس ويأخذ طريقه نحو الإنتاج والكتابة

من الجنوب الشرقي للمملكة، إلى جامعة القاضي عياض بمراكش حيث نال شهادة الإجازة في الأدب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *