تكشف مواقع التواصل الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة عن تحولات وظواهر اجتماعية وثقافية لافتة، وبروز سلوكيات تواصلية وسيكولوجية مثيرة، ومنها تدني القيم الأخلاقية والثقافية والوازع المدني والقانوني، وانفلات النزوعات والردود الذاتية عند أعداد من الأفراد من ظوابط العقل والسلوك الاجتماعي. كما كشفت وسائل التواصل الاجتماعي عن أوضاع الأفراد والمجتمعات على مستويات التنشئة الاجتماعية والقيمية والتكوين المعرفي، والمستويات الثقافية والمواطناتية، حيث يلاحظ من جهة، حسن توضيفها ودرجة من الالتزام بأخلاقيات التواصل والاختلاف والاحترام والقانون في المجتمعات المتقدمة التي تكون أفرادها وعملت مؤسساتها على ذلك، في حين كشفت عن مظاهر التخلف الفردي والجماعي في المجتمعات التي تعاني من تدني التعليم والثقافة والاحساس بالواجب والمسؤولية اتجاه الذات والآخر، فزادت من حدة التفاهة والسب والقدف، وتبخيس أعمال الأخرين، وشيوع محتويات وسلوكيات رقمية غير مسؤولة ومتهورة أو عدوانية.
فقد باتت هذه المواقع تشكل مرآة لفقر وانكسارات الذات الفردية والجماعية، حيث أنه بينما يعاني الأفراد من افتقار إلى الحضور والتقدير في الواقع والمجتمع، أو على الأقل إلى إثبات الذات والاعتراف ولو في أبسط أشكاله، يلتجئون وتملكهم رغبة زائدة في الحصول على التقدير وصورة اجتماعية وهمية، رغم عدم توفر الفرد على وضع أو إنتاج أو تميز مستحق في الواقع، فحول الحضور والنشر الرقمي إلى هوس افتراضي بإعلان الوجود وانتظار الـ”لايكات” والتعاليق والمشاركات، التي أصبحت معايير وهمية وهشة لتقييم الذات والعلاقات والصداقات. هكذا، بدأ الناس يشكلون “كليكات” وقبائل افتراضية بعيدًا عن الواقع، حيث تحولت هذه المظاهر الافتراضية إلى جزء من واقعهم الاجتماعي الفعلي، ليصبح الوهم الافتراضي واقعًا مفرطا Hyper-réalité ، بتعبير السوسيولوجي الفرنسي جون بودريار.
تعد ظاهرة تبخيس عمل الآخر إحدى الممارسات الاجتماعية التي تحمل في طياتها أبعادًا نفسية وسوسيو-ثقافية معقدة، فيشير هذا السلوك إلى المبالغة في تقليص أو التقليل من قيمة جهود الآخرين أو إنجازاتهم بشكل مرضي وغير مبرر، بعيدا عن الإلمام بالمواضيع والنقد التحليلي أو على الأقل التعبير عن الرأي والمواقف الموضوعية أو الاختلافية التي من شأنها إتاحة مساحات للحوار والتعدد والاختلاف البناء، وتطوير التواصل والتفاعل الثقافي والاجتماعي. فمن الناحية النفسية، ترتبط هذه الظاهرة بمشاعر القلق الداخلي وفقدان الثقة بالنفس، إذ يميل الأفراد الذين يمارسون هذا السلوك إلى استخدامه كآلية دفاعية ضد تهديدات محتملة لوجودهم الشخصي أو مكانتهم الاجتماعية أو مصالحهم المفترضة وأحيانا الوهمية.
يعود تبخيس عمل الآخر إلى العديد من العوامل النفسية، أبرزها الشعور بالنقص أو الفشل في تحقيق إنجازات ملموسة في الواقع، ما يدفع الأفراد إلى ردود إنفعالية أو مرضية في محاولة لإضعاف أو تبخيس قيمة أعمال الآخرين وتحققاتهم، كآلية لتخفيف مشاعر الإحباط وتعويض عن النواقص والفشل الشخصي . يفسر علم النفس هذا السلوك على أنه نوع من الإسقاط، حيث يقوم الشخص الذي يفتقر إلى الثقة بالنفس بنقل مشاعر العجز الخاصة به إلى الآخرين، وبالتالي يسعى لتقليص نجاحاتهم بدلاً من العمل على ذاته ومساره الشخصي، وبناء أفكار ومشاريع شخصية وجديدة أو مختلفة عن إنجازات الأخر، كما يتغذى هذا السلوك على مشاعر الغيرة، حيث يشعر الأفراد بأن نجاح الآخرين يمثل تهديدًا لمكانتهم ووجودهم سواء الواقعي أو الإفتراضي، فتغلبهم سلوكيات الحقد والسعي إلى تبخيس أو تدمير منجزات الأخرين، وخاصة الأكفاء والمنتجين والناجحين.
في السياقات الاجتماعية المعاصرة، تتفاقم هذه الظاهرة بسبب فقدان بعض الأفراد القدرة على التمييز بين النقد البناء والتعسف في الحكم. إن النقد الموضوعي والتنافس الإيجابي يتطلبان مستوى متقدمًا من المعرفة والوعي بالمجال المعني، إضافة إلى قدرة على تجاوز النواقص النفسية والعجز الشخصي، كما أن تجاوز السلوكيات المرتبطة بالحقد يتطلب فهماً عميقًا للنقد والرأي باعتباره أداة للحوار وتطوير وتحسين العمل والإنتاج، لا أداة للتبخيس والإقصاء والتعنيف والحقد على الأخرين. فالتنافس الإيجابي يعتمد على الاحترام المتبادل والقدرة على الاستفادة من اختلافات الآخرين من أجل التحسين المستمر، في المقابل، يؤدي غياب هذه المبادئ إلى شيوع سلوكيات سلبية تقوض الحوار والتعاون والتطور الثقافي والاجتماعي، كما تحيل هذه الظاهرة على أزمة قيم والاعتراف والتقدير المتبادل بل وحتى الاختلاف الموضوعي في المجتمعات المعاصرة.
فبقدر ما فتحت وسائل التواصل الاجتماعي المجال للتعبير عن إبداء الرأي وتبادل المعرفة، والتحرر من الرقابة التواصلية، فإنها أيضًا ساهمت في انتشار التعبير العشوائي والسلوكيات غير المسؤولة، وقول وتصوير ونشر أي شيئ في أي وقت وبدون أدنى رقيب أو احتراز. ففي غياب مؤطرات الكتابة والتعبير والنشر، تصبح ردود الأفعال اللحظية والانفعالية هي المسيطرة، مع سهولة استعمال والوصول إلى هذه الوسائل في أي وقت ومكان، وخاصة في كل الحالات النفسية أو الإنفعالية، مما يتيح أو بالأحرى يورط الأفراد في إغراءات شبكات التواصل اللحظي وسهولة الانتشار، ومما يؤدي إلى تفاقم التدوينات والمحتويات السطحية التي تفتقر إلى العمق والموضوعية، أو المنشورات العنيفة أو التافهة.
من أجل معالجة هذه الظاهرة والسلوكيات المتفاقمة، يتعين تعزيز الفهم النقدي لدى الأفراد وتوجيههم نحو تبني ممارسات تعبيرية وتواصلية مسؤولة، كما يجب أن يتضمن هذا التوجيه تعليم الأفراد أهمية النقد البناء ودوره في تحسين الأداء الشخصي والاجتماعي، والإلتزام بأخلاقيات وسلوك المواطنة في الفضاء الرقمي، بما يعنيه من حقوق وواجبات، واحترام الأخر وأدبيات الحوار والعبير عن الرأي والاختلاف. كما من الضروري توفير فرص التنشئة الاجتماعية والتكوين الثقافي عبر المؤسسات التربوية والتعليمية والجامعية والإعلامية والدينية، تكون على قيم المواطنة والتعبير والتواصل المسؤول، واحترام التنوع الفكري والثقافي، وتدعم القيم الأخلاقية التي تعزز الاحترام المتبادل والنقد المسؤول.
ختامًا، تبخيس عمل الآخر، وانتشار العنف والشتم والتفاهة الرقمية، ليس مجرد سلوك عابر أو ردود مرضية يمكن التغاضي عنها، بل يعكس جوانب أعمق من أزمات فردية واجتماعية تتطلب معالجة شاملة، والعمل على بناء الفرد والمجتمع القادرين على التحرر من الأعطاب السيكولوجية والثقافية، وتقدير الإبداع والإنجاز والكفاءة، والتحلي بالوازع المواطنتي والقانوني الإنساني في التعبير والنشر والتواصل في الواقع وبالتالي في وسائل التواصل الاجتماعي الرقمي.