سأكتب بالخشيبات وبعيدا عن لغة الخشب لعل القارئ سيفهم قصدي جيدا، وأبدأ كتابتي هذه بتدوينتين كتبهما أحد أساتذتي بكلية أصول الدين بتطوان، فالأولى، “اللغة جزء من الهوية، وتهميشها مقدمة لصناعة هوية دخيلة” فأما الثانية، “التفرنُس بُؤسٌ أخلاقي ومَسخٌ ثقافي أصاب لسان قومنا بما كسبت نُخبنا المنقادة للغالب المحتل”
اللغة، الثقافة، الهوية، كلمات مفتاح استعملها أستاذي لما تحملها من ارث مشترك بين جميع المغاربة للتعبير منه على ما أصاب ويصيب “قومنا” فهي مفاهيم تختلف عندنا باختلاف هويتنا ولغتنا وثقافتنا… فهذه التدوينات ظاهرها عام بعمومية الألفاظ المستعملة، وباطنها خاص بنية الأستاذ المتجهة إلى دفاعه عن اللغة العربية، على غرار اغلب الأساتذة بهذه الكلية، هذه التدوينات وغيرها كثير ذكرتني بـ “سياسة التعريب” التي نهجتها الدولة إبان الاستقلال الشكلي وإلى حدود كتابة هذه الأسطر.
اليوم، وقد مر ما يزيد عن نصف قرن على انطلاق سياسة التعريب، وهي مدة كافية تسمح لنا بتقييم هذه السياسة العرجاء بشعارها الذي يرفعه دعاة التعريب والمدافعون عنه، والذي مفاده: “تعريب الإنسان والمحيط والحياة العامة”.
يكفي لنا أن نتأمل هذا الشعار لنعرف الهدف من هذا التعريب أهو القضاء على التفرنس كما قال أستاذي ومحاربة الفرنسية كأثر للاستعمار الأجنبي وحماية اللغة العربية التي اعتَبرها جزء من الهوية ـ ووقف عند ويل للمصلين ولم يتمم إنها جزء من الهوية العربية الإسلامية ـ أم غاية أخرى في نفوس المدافعين عن التعريب؟
سأستهل إجابتي على هذا السؤال الإشكالي بما قاله الأستاذ محمد بودهان في مناسبة سابقة: “…لو كان الهدف من التعريب هو نشر وتعميم اللغة العربية كلغة، لبقي المغرب محتفظا بانتمائه الترابي، أي بهويته المستمدة من موطنه بشمال إفريقيا، مع استمراره في استعمال اللغة العربية ونشرها وتعليمها كلغة رسمية للدولة ولغة ثقافة ومعرفة ومدرسة، كما هو حاصل لدى الكثير من البلدان التي تبنّت، لأسباب تاريخية أو دينية أو اقتصادية أو ثقافية أو علمية، غيرَ لغاتها الهوياتية كلغات رسمية أولى دون أن يغير ذلك شيئا من انتمائها الترابي الذي يحدده موطنها الجغرافي. فالهند والسنيغال والمكسيك والبرازيل، مثلا، تعتمد الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية كلغاتها الرسمية الأولى، دون أن يغير ذلك الانتماءَ الترابي لتلك الدول ليجعل منها دولا ذات انتماء إنجليزي (الهند) وفرنسي (السينغال) وإسباني (المكسيك) وبرتغالي (البرازيل)..”.
فمضمون التعريب وأهدافه وفق سياسة التعريب الظاهرة تتلخص في مسألتين لا ثالث لهما نتفق حولها جدلا دون الخوض في القصد الجنائي لواضع هذه السياسة وتكمن في:
– رد الاعتبار للغة العربية، وهو ما تحدث عليه استاذي في تدوينته الأولى: اللغة جزء من الهوية، وتهميشها مقدمة لصناعة هوية دخيلة.
محاربة هيمنة الفرنسية كإرث استعماري تجب تصفيته. وهو أيضا تحدث عليه أستاذي في معرض قوله: التفرنُس بُؤسٌ أخلاقي ومَسخٌ ثقافي…
وأتساءل مع أستاذي حول تهميش اللغة الامازيغية على حساب اللغة العربية والتعريب، أليست اللغة الامازيغية جزء من الهوية أيضا، هوية الإنسان الامازيغي الذي تحاول سياسة التعريب تعريبه قسرا بدعوى محاربة التفرنس وهو ما يتلاءم وشعار سياسة التعريب: “تعريب الإنسان والمحيط والحياة العامة ” فما علاقة الإنسان الامازيغي والمحيط والحياة العامة باللغة العربية كلغة؟
وحتى لا يكون كلامي غيض من فيض أضرب بعض الأمثلة لأستاذي وعبره للقارئ، من قبيل: تحويل الأسماء الامازيغية إلى أسماء لا أقول عنها عربية بقدر ما أنها بدون معنى إطلاقا، جزيرة “ثورا” تحولت إلى “ليلى، “تزطاط إلى “سطات”، “أكلمام أزيزا” إلى بحيرة “لالا لعزيزة”، وجزر “إيشفّارنّ” إلى “الجزر الجعفرية”، أشاون” إلى “شفشاون”، “ثيطّاوين” إلى “تطوان، “آيث حذيفة” إلى “بني حذيفة” … الخ، وقس على ذلك جل المناطق والأسماء الامازيغية التي تعربت وأخرها شوارع مدينة اكادير المعربة برمتها.. فهل كل هذا يدخل في رد الاعتبار للغة العربية ومحاربة هيمنة الفرنسية؟ هل هذه الأسماء التي قُمت بعدها وغيرها أكثر، فرنسية مثلا؟؟ وهل الاحتفاظ بامازيغية الأماكن والأسماء يقيد لغتكم العربية في شيء؟؟ في المقابل أين رد الاعتبار للغة للعربية التي كانت في عهد الاستعمار ولا تزال في زمن الإحتقلال، غير مستعملة في مؤسسات الدولة التي تعتبر الراعي الرسمي لسياسة التعريب؟ فالقصر والجيش والأمانة العامة للحكومة ووزارات الداخلية والمالية والخارجية…، كلها مؤسسات تشتغل باللغة الفرنسية التي تعتبر لغة رسمية حقيقية لهذه المؤسسات. فهذا هو التفرنُس الذي اعتبره أستاذي بُؤسٌ أخلاقي ومَسخٌ ثقافي، فحقا قد أصاب لسان مؤسسات الدولة المنقادة للغالب المحتل..
وأعود إلى مسألة أخرى وسؤال أخر سبقني إليه الأستاذ محمد بودهان لطرحه، لا انتظر جوابا عليه بقدر ما أريد أن يطرحه أستاذي على نفسه، والقارئ أيضا ويمعن النظر فيه جيدا، لماذا سيتغير الانتماء الترابي للمغرب نتيجة سياسة التعريب ليصبح المغرب “عربي”، لو كان الهدف من التعريب هو فقط اللغة العربية وليس تعريب الهوية والانتماء؟ واقصد هنا الهوية الامازيغية التي أصبح الدفاع عنها والانتماء إليها يعد شوفينية وعنصرية، في حين أن الارتباط بالمشرق يمثل التقدمية والنضال من أجل تكريس هوية عروبية أصيلة دخيلة على الهوية الامازيغية الرجعية
وعليه حتى ألخص ما أود قوله أن سياسة التعريب والمدافعون عليها من بينهم أستاذي الفاضل لا علاقة لها باللغة العربية كلغة يجب أن تفرض على حساب ما أسماه “التفرنس” بل يتعلق الأمر بتعريب عرقي،سياسي، هوياتي و اديولوجي، فهذا الوباء “سياسة التعريب” لا يهدف إلى نشر اللغة العربية بقدر ما يهدف إلى نشر ثقافة العروبة وأن الشعب المغربي شعب عربي أصيل، وأن دولتهم دولة عربية على غرار دول المشرق العربي ثقافة وهوية ولغة بل وحتى انتماء.. كما أن السلطة التي تحكمنا هي ذات أصول عربية (وهذه ربما سأتفق معك فيها في جزء منها) بالإضافة الى الخلط الذي يقعون فيه دعاة التعريب (وأغلبهم ينتمون إلى الحركات الإسلامية) حين يربطون القومية العربية بالإسلام وكأن حال لسانهم يقول أن من يتحدث الأمازيغية ليس مسلما، أو أن إسلامه غير مكتمل الأركان، لأن هذه الحركات الإسلامية بالمغرب لا تستطيع أن تتصور مغرب إسلامي بهويته الأمازيغية ولا تقبل أن تكون دولة المغرب بثوابت أمازيغية إسلامية بدل العروبة والإسلام، على غرار دول كثيرة ليست عربية ولكنها مسلمة أفضل من إسلام العرب أنفسهم.
الحرشي عبد الله
باحث في الفلسفة والفكر الإسلامي