في المقال السابق بعنوان: “هل التخلّي عن مخزنة الأمازيغية هو عودة إلى سياسة إقصائها؟”، انتهينا إلى الخلاصة التالية: «وهذا موقف يكشف عن “انقلاب” حقيقي في التعامل مع الأمازيغية، بإلغاء كل ما تحقق من الاعتراف بها والمصالحة معها بفضل إضفاء الصفة “المولوية” عليها عبر عملية مخزنتها بنهج “سياسة بربرية”، بهدف رفع الإقصاء الثقافي واللغوي والهوياتي الذي كانت تعاني منه بعد الاستقلال. كيف ولماذا حصل هذا الانقلاب والإلغاء؟».
في هذا المقال الثاني سنحاول الإجابة عن السؤال المطروح.
هل كانت دسترة الأمازيغية غطاء لإقصائها؟
الكثير منا رأوا في الترسيم الدستوري للأمازيغية، الذي نصّ عليه دستور 2011، ثورة حقيقية لفائدة الأمازيغية، لكون هذا الترسيم يشكّل حماية قانونية لها من الإقصاء والتهميش، ويفتح مرحلة جديدة للنهوض بها ورد الاعتبار لها، كلغة وثقافة وهوية إثنية، وهي العناصر التي تشتغل عليها “السياسة البربرية” كمظهر لعملية مخزنة الأمازيغية وإضفاء الصفة “المولوية” عليها، كما قلت.
لكن الحقيقة أن هذه الترسيم سيُستعمل كمسوّغ قانوني مشروع ـ وهو ما سيثبته المآل الذي عرفته عملية تنمية الأمازيغية لما بعد دسترتها ـ لمنع ترسيمها الحقيقي. وذلك ليس فقط لأن الفقرة الأولى من الفصل الخامس تقول: «تظل العربية اللغة الرسمية للدولة» وهو ما يعني، كما يدلّ على ذلك استعمال كلمة “اللغة” معرّفة، أنها لا توجد لغة أخرى رسمية (انظر موضوع: “قانون تنظيمي لإعدام ترسيم الأمازيغية”)، ولا لأن الدستور يربط هذا الترسيم بقانون تنظيمي، وإنما لأنه ينزع عن الأمازيغية صفتها “المولوية”، وذلك ينقلها من الاختصاص الملكي كشأن سيادي إلى اختصاص الحكومة والبرلمان كشأن عادي.
وأين المشكل في هذا النزع والنقل؟
لم يسبق للحكومة والبرلمان، منذ وجود هاتين المؤسستين بالمغرب لما بعد الاستقلال، أن فعلا شيئا لصالح الأمازيغية. الاعتراف الرسمي الوحيد الذي حظيت به منذ ظهور المطالب الأمازيغية، هو الذي سيقرّره الملك بإصداره، في 17 أكتوبر 2001، لظهير أجدير المنشئ لمعهد “ليركام”، الذي كان علامة بارزة على هذا الاعتراف، وبداية لعملية مخزنة الأمازيغية وإلحاقها بالمؤسسة الملكية كشأن “مولوي” سيادي. ولا يقلّل من الأهمية العلمية والرمزية لهذا المعهد أنه لم ينجز إلا القليل من الكثير من الصلاحيات والاختصاصات التي منحها له ظهير أجدير؛ ولا أنه لم يلقَ تعاونا من الجهات الحكومية؛ ولا أنه لاقى معارضة حتى من داخل الحركة الأمازيغية.
حلّ “ليركام”، كما يقضي بذلك القانون التنظيمي لمجلس اللغات والثقافة المغربية، هو إذن حلّ “للسياسة البربرية” وللغاية منها، التي هي التأسيس الشرعي للأمازيغية المخزنية المولوية، التي أُنشئ هذا المعهد ليتولّى نشرها وتنميتها كأقصى ما يمكن للدولة، بحكم أنها تعتبر نفسها “عربية”، الاعتراف به للأمازيغية كلغة وثقافة وهوية إثنية، لكن ليس كانتماء للدولة، وهو ما يؤدّي إلى استمرار إقصائها السياسي، كما شرحنا. وهذا يعني، كما سبقت الإشارة، أن هناك تراجعا حتى عن عملية مخزنة الأمازيغية، أي تراجعا عن الأمازيغية المخزنية المولوية، التي أقرّتها الدولة منذ أكتوبر 2001.
وهكذا تستعمل الحكومة والبرلمان المقتضيات الدستورية الخاصة بترسيم الأمازيغية، الذي اعتُبر أكبر إنصاف لها وأهم اعتراف بها وأعظم انتصار حقّقته، لإلغاء هذا الترسيم بإصدارهما لقانون تنظيمي يُعدم هذا الترسيم، كما سبق توضيح ذلك، وقانون تنظيمي خاص بمجلس اللغات والثقافة المغربي يُعدم معهد “ليركام”، إعلانا عن الاستغناء حتى عن “السياسة البربرية” التي جاء بها ظهير أجدير، والتي كانت ترمي، كما سبق توضيح ذلك، إلى مخزنة الأمازيغية بجعلها “مولوية” تابعة للمخزن وملحقة به، كما ينص على ذلك ظهير أجدير.
ففي الوقت الذي كان من المُنتظر فيه أن تكون دسترة الأمازيغية قفزة عملاقة إلى الأمام تتخطّى سياسةَ مخزنة الأمازيغية وأداتَها التي هي “السياسة البربرية”، لتنتقل بها إلى سياسة تمزيغ المخزن، وتبنّي سياسة أمازيغية تعي وتتصرّف فيها الدولة على أنها دولة أمازيغية، بالمفهوم الترابي دائما، فإذا بهذه الدسترة تُستعمل للقفز إلى الخلف والعودة، عمليا، إلى ما قبل مرحلة مخزنة الأمازيغية وما يرتبط بها من “سياسة بربرية”، أي العودة إلى مرحلة الإقصاء الثقافي واللغوي للأمازيغية.
كيف نفسّر هذه المفارقة؟
تجد مصدرها في فقدان الأمازيغية، نتيجة دسترها، وبذلك الشكل الناقص والمشروط، لما كانت تتمتّع به من حماية ملكية منذ أن جعل منها ظهير أجدير، وفي إطار عملية مخزنتها، شأنا “مولويا” سياديا من اختصاص الملك، غير خاضع ولا تابع لسلطة الحكومة ولا البرلمان. لكن دسترتها ألغت ما كانت تحظى به من امتياز سيادي كمجال يقرّر فيه الملك وحده، حسب سلطاته الدستورية (الفصل 19 من دستور 1996 والفصل 42 من دستور 2011)، ليصبح التقرير في شأنها بيد الحكومة والبرلمان. وهو ما يفسّر عودة هاتين المؤسستين إلى موقفهما المعروف من الأمازيغية، وهو أصلا موقف أمازيغوفوبي مناوئ، وخصوصا أن تيار الإسلام السياسي هو الذي يقود الحكومة منذ دسترة الأمازيغية، وهو تيار لا يُخفي عداءه للأمازيغية، ولو أن غالبية المنتمين إليه ناطقون بالأمازيغية، كما هو الشأن بالنسبة لكل الأحزاب الأخرى، ذات التوجهات اليسارية والقومية. ولهذا كان انتقال ملف الأمازيغية من المؤسسة الملكية إلى الحكومة والبرلمان، هو انتكاسةً حقيقية وكبيرة بالنسبة إلى القضية الأمازيغية.
وهو ما وفّر لهاتين المؤسستين فرصة لتصفية حساباتهما مع الأمازيغية، كما يظهر ذلك جليا في مضمون القانون التنظيمي لتفعيل ترسيم الأمازيغية والقانون التنظيمي لمجلس اللغات والثقافة المغربية. فهناك تكامل بين القانونين في ما يخص “معاقبة” الأمازيغية و”الانتقام” منها: فكما سبقت الإشارة، إذا كان القانون التنظيمي لتفعيل ترسيمها يُعدم هذا الترسيم، فإن القانون التنظيمي لمجلس اللغات والثقافة يُعدم معهد “ليركام”، الذي هو المؤسسة العلمية المختصة التي كانت ستواكب عملية هذا الترسيم، وتشرف عليها بتنمية اللغة الأمازيغية وتهيئتها لهذا الترسيم. أما وأن هذا الترسيم قد أعدمه القانون التنظيمي، فلا حاجة إذن لوجود مؤسسة “ليركام”.
وهكذا انتهت مخزنة الأمازيغية وقُضي على “السياسة البربرية” التابعة لها، وهو ما يعني القضاء على مشاريع النهوض بالأمازيغية بالصيغة المخزنية.
هل هذا يعني أن للحكومة والبرلمان بديلا أخر للنهوض بالأمازيغية؟ إذا كان الجواب بنعم فما هو هذا البديل؟
تعريب الأمازيغية كبديل لمخزنتها:
ليس لأن إيديولوجية العروبة العرقية والقومية والإسلام السياسي مهيمنة عند أغلبية أعضاء الحكومة والبرلمان، فإن هؤلاء سيعملون، بعد أن جعلت دسترةُ الأمازيغية أمرَ التقرير والتشريع بشأنها في أيديهم، على الإقصاء النهائي للأمازيغية، كما كان الأمر مباشرة بعد الاستقلال عندما كانت تُعتبر إرثا استعماريا تجب محاربته وتصفيته. فموقفٌ مثل هذا مستبعدٌ جدا اليوم، بعد التطورات الكثيرة التي عرفها المغرب والعالم. فهؤلاء الأعضاء سيركبون هم أيضا “الموجة”، وسيعلنون أنهم حريصون على تنمية الأمازيغية والنهوض بها. وهذا صحيح بالنسبة إلى فهمهم لمعنى “تنمية” الأمازيغية و”النهوض” بها، ولما يريدونه من هذه التنمية وهذا النهوض. فكيف يفهمون، في إطار إيديولوجيتهم الأمازيغوفوبية، “تنمية” الأمازيغية” و”النهوض” بها؟ وما ذا يريدون وينتظرون من هذه “التنمية” وهذا “النهوض”؟
لأنهم لا يستطيعون إنكار وجود الأمازيغية بصفة نهائية، كما أشرت، فإن ما يقصدونه بتنميتها والنهوض بها هو جعلها تابعة للعروبة ولإسلامها السياسي، خاضعة لحكمهما وسلطتهما، ممتثلة لتشريعاتهما وقراراتهما. فكما رأينا أن تنمية الأمازيغية والنهوض بها كانا يعنيان، في “السياسة البربرية” الجديدة، مخزنتَها بجعلها “مولوية” تابعة للمخزن وملحقة به، تخدمه ويستخدمها، فكذلك تنميتها والنهوض بها، يعنيان، عند غالبية أعضاء الحكومة والبرلمان، تعريبها بجعلها تابعة للعروبة وإسلامها السياسي، تخدمهما ويستخدمانها. ومن هنا نفهم إصرار هؤلاء، أثناء مناقشة مشروع القانون التنظيمي لتفعيل رسمية الأمازيغية، على رفض التنصيص على تيفيناغ كحرف نهائي لكتابة الأمازيغية.
لماذا؟ لأن استعمال تيفيناغ لكتابتها يعني أنها أفلتت، بخصوص حرف الكتابة، من التعريب ومن قبضة العروبة وإسلامها السياسي. وهذا ما قد يفسّر، أولا، لماذا تنكّرت الحكومة لهذا القانون التنظيمي رقم 26.16، المتعلق بتفعيل ترسيم الأمازيغية، رغم أنها هي التي هيأته وحرّرته على مقاس إعدام هذا الترسيم، عندما أعدّت مشروع قانون رقم 04.20 يقصي كتابة تيفيناغ على البطاقة الوطنية للتعريف الجديدة، والذي تستهتر فيه، وبكثير من الصلف والتحدّي، من الدستور ومن القانون التنظيمي الذي وضعته هي نفسها، كما قلت (انظر موضوع: “في تعِلّة إقصاء الأمازيغية من مشروع البطاقة الوطنية”)؛ ويفسّر، ثانيا، مصادقة البرلمان بغرفتيه على هذا المشروع في يوليوز 2020، رغم خرقه للدستور ولنفس القانون التنظيمي رقم 26.16، كما كتبت.
ولهذا فإن هؤلاء المسؤولين الذين لا يكنّون ودّا للأمازيغية، ويملكون سلطة القرارات الحكومية والتشريعية، يُشيدون دائما بالأمازيغ الذين خدموا العروبة والإسلام السياسي كممثلين للأمازيغ “الأحرار”، على شاكلة طارق بن زياد وأحمد ويحمان… وعلى العكس من ذلك، يندّدون بالأمازيغ الذين يطالبون باستقلال الهوية المغربية الأمازيغية عن الهوية العربية المشرقية، ويدافعون عن تدريس اللغة الأمازيغية كما تُدرّس العربية، ويشيطنونهم بربطهم بالاستعمار والصهيونية، معتبرينهم لا يمثّلون الأمازيغ “الأحرار”. وهؤلاء أنفسهم هم الذين تدخّلوا لتحريف مشروع الدستور بخصوص المساواة بين العربية والأمازيغية، بفرضهم نص الفقرة الأولى من الفصل الخامس التي تفيد أن العربية وحدها هي اللغة الرسمية للدولة.
ويقدّم القانونان التنظيميان، قانون تفعيل رسمية الأمازيغية وقانون مجلس اللغات والثقافة، نموذج نوع “التنمية” و”النهوض” اللذيْن يريدهما أتباع التيار القومي وتيار الإسلام السياسي للأمازيغية.
إما أن توجد الأمازيغية من أجل خدمة العروبة والإسلام السياسي، وإما فإنها خادمة للصهيونية والاستعمار.
ضرورة الانخراط في “السياسة الصغرى”:
أمام استفراد الحكومة والبرلمان المنتخب بالأمازيغية، وبعد تخلّي المؤسسة الملكية عن التكفّل بها عقب دسترها، ما العمل لوقف التراجعات التي بدأ يعرفها مشروع تنمية الأمازيغية والنهوض بها؟ ما العمل لإنقاذ ـ على الأقل ـ مخزنة الأمازيغية من التعريب الذي ينتظرها داخل الحكومة والبرلمان؟ ما العمل لجعل اللغة الأمازيغية لغة رسمية حقيقية، أي لغة الدولة ومؤسساتها ووثائقها الرسمية؟
النداء الذي أطلقته “جبهة العمل السياسي الأمازيغي”، والذي تدعو فيه نشطاء الحركة الأمازيغية إلى المشاركة في العمل السياسي، سواء بإنشاء تنظيمات سياسية جديدة، أو بالانخراط في الأحزاب القائمة، ذات التوجهات التي لا تتعارض مع مطالب ومبادئ هذه الحركة، شيء هام يعبّر عن حكمة وتبصّر ووعي سياسي متقدّم، حتى لو أنه جاء متأخرا.
سياسة مقاطعة الانتخابات، تسجيلا وترشيحا وتصويتا، كانت تعبّر عن ممارسة “السياسة الكبرى”، التي تقوم على مبدأ: “كل شيء أو لا شيء”، والذي يفيد، في مدلوله الأول الذي يخصّ الفاعلين السياسيين من غير المؤسسة الملكية: إما ديموقراطية كاملة وحقيقية وإما المقاطعة. أما مدلوله الثاني، المرتبط بالمؤسسة الملكية، فيعني: إما امتلاك كل السلط وإما الفقدان لكل سلطة. ويُقصد بذلك احتكار الحكم الحقيقي، الفعلي والتنفيذي، والاستفراد باتخاذ القرارات الكبرى والهامة للدولة.
وقد كان الرابح دائما من المقاطعة هو الجهة التي تمارِس “السياسة الصغرى”، التي تقوم على مبدأ: “شيء قليل أفضل من لا شيء” (تمرير القليل من القرارات والحصول على القليل من الامتيازات أفضل من عدم تمرير أي شيء وعدم الحصول على أي شيء). وهي الجهة التي يريد المقاطعون التسبّب في خسارتها وإفشال مشاريعها السياسية. لكن المواطن الذي يقاطع الانتخابات، ولا يصوّت بالتالي ضد من يعتبره خصمه السياسي، يُهدي في الحقيقة صوته لهذا الخصم، الذي يستفيد من غياب صوت كان سيخفّض من عدد الأصوات التي حصل عليها. وهذا شيء نعرفه جميعا من خلال تصدّر “البيجيدي” للانتخابات العامة، لأن الشباب الرافضين لهذا الحزب لا يصوّتون، وهو ما يجعلهم يمنحون ضمنيا أصواتهم لهذا الحزب الذي يعارضونه، لأنها أصوات لا تُحتسب ضمن التي صوّتت ضده حتى تساهم في التأثير سلبا على النتائج التي حصل عليها.
ونفس الشيء يصدق على الأمازيغية التي لا تتوفر على مدافعين عنها داخل الحكومة والبرلمان، والمجالس الجهوية والإقليمية، والجماعات الحضرية والقروية، لأن شباب ومناضلي الحركة الأمازيغية لا يصوّتون، وهو ما يجعل أصواتهم تذهب، بطريق غير مباشر، حسب ما شرحت، إلى خصومهم المناوئين للأمازيغية. وهو ما يعني أن مشاركة هؤلاء الشباب ومناضلي الحركة الأمازيغية والمتعاطفين معها في الانتخابات، تسجيلا وترشيحا وتصويتا، سيقلب موازين القوى “الانتخابية” داخل مختلف الهيئات المنتخَبة بالاقتراع العام، وخصوصا تلك المشكّلة للبرلمان، نظرا لاختيار أعضاء الحكومة من الأحزاب الأكثر تمثيلية في هذا البرلمان. فتكون النتيجة أن الهيئة السياسية الحاصلة على أكبر عدد من الأصوات، هي التي تكون لها فرصة صنع القرار السياسي في إطار “السياسة الصغرى”.
ومما يندرج ضمن هذه “السياسة الصغرى”، كل ما يتعلق باللغة والثقافة. ففرض العربية أو الفرنسية أو الأمازيغية أو الدارجة، مثلا، كلغات تعليمية، هو من اختصاصات البرلمان والحكومة، والتي لن يتدخّل فيها القصر لأنها لا تمسّ مجال “السياسة الكبرى” التي هي، بمدلولها الثاني، حكر على المؤسسة الملكية.
وعكس ما يُعتقد بأن القصر لن يفرّط في العربية، فالحقيقة أن القصر لا تهمه العربية ولا أية لغة أخرى، ما دام أن المشاركين في لعبة “السياسة الصغرى” هم الذين اختاروا، بناء على قواعد اللعبة الانتخابية التي حدّدها وارتضاها لهم المتحكّمون في “السياسة الكبرى”، والتي (القواعد) منحتهم سلطة هذا الاختيار، اللغةَ التي فرضوها، تشريعا وتنفيذا، كلغة تعليمية.
ورغم أن القرارات التي تخصّ مجال “السياسة الصغرى” مراقبَة وموجّهة من قبل صنّاع “السياسة الكبرى”، بمدلولها الثاني، كما في قوانين المالية مثلا، أو حتى بالنسبة إلى ما يهمّ اللغة نفسها عندما يقتضي الوضع تدخّل هذه “الساسة الكبرى” في القرار الخاص باللغة، كما رأينا في تمرير البرلمان في يوليوز 2019، تنفيذا لتعليمات “السياسة الكبرى” للقصر، للقانون الإطار رقم 51.17، المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، والذي وضع حدّا لتعريب العلوم بإقراره تدريسها باللغة الأجنبية في المرحلة الابتدائية والثانوية بعد أن كانت تُدرّس بالعربية منذ ثمانينيات القرن الماضي، (رغم ذلك) إلا أن هذه المراقبة والتوجيه لن يسحبا، حفاظا على المظهر الصوري والانتخابي للديموقراطية المغربية، من “السياسة الصغرى” صلاحياتها التي قلنا بأنها تتلخّص في مبدأ: “تمرير القليل من القرارات والحصول على القليل من الامتيازات أفضل من عدم تمرير أي شيء وعدم الحصول على أي شيء”. لماذا القليل فقط؟ لأن هناك، كما أشرنا، مراقبة وتوجيها “للسياسة الصغرى” من قبل “الساسة الكبرى” التي تخص القصر.
ومن هنا فإن تواجد مناصرين للأمازيغية، وبعدد كافٍ داخل البرلمان، سيمكّن من استصدار تشريعات لصالح اللغة الأمازيغية، في احترام لقواعد اللعبة الانتخابية في إطار اختصاصات “السياسة الصغرى”، المتروكة لـ”ممثّلي” الشعب. فكل ما لا يهدّد ولا يُضعف سلطة القصر، ولا يشكّل أدنى خطر عليها، فهو مسموح به وغير ممنوع إذا كان نتيجة التزام بقواعد اللعبة الانتخابية، كما قلت. ومعلوم أن الأمازيغية لا تهدّد سلطة القصر ولا تعمل على إضعافها ولا تشكّل أدنى خطر عليها. بل إن القصر لن يعارض أن يكون المغرب مملكة أمازيغية ما دام أن ذلك لن يمسّ بأسس نظام الحكم بالمغرب، ولا بمجال “السياسة الكبرى”، بمدلولها الثاني، والذي هو مجال محفوظ للملك.
ونفس الشيء يصدق على القرارات التي تخص الشأن المحلي. فمثلا لو أن الأغلبية، المشكّلة للمجلس البلدي لمدينة “تمارة”، كانت من المناصرين للأمازيغية، نتيجة مشاركة هؤلاء المناصرين في الانتخابات المحلية، ترشيحا وتصويتا، لما رأينا شوارعها تحمل أسماء وهابية وإرهابية أجنبية (انظر مقال: “وهل هناك فرق بين تسمية المغرب بالعربي وتسمية شوارعه بـ”الدهلوس؟”) فرضتها الأغلبية المسيّرة للمجلس، المعروفة بتوجّهها المناوئ لكل ما هو أمازيغي ومحلي مغربي أصيل. لكن مقاطعة المدافعين عن الأمازيغية، وخصوصا شباب وطلبة الحركة الأمازيغية، المشارَكة في لعبة الانتخابات، رفضا منهم “للسياسة الصغرى” وتمسّكا بـ”السياسة الكبرى”، بمدلولها الأول، هي التي أعطت الفرصة ليفوز الأمازيغوفوبيون بتسيير مجلس “تمارة”. وهو ما منحهم السلطة الشرعية، التي تخوّلها لهم اختصاصات المجالس البلدية، ليطلقوا على الشوارع الأسماء الوهابية الأجنبية التي اختاروها طبقا لأيديولوجيتهم الوهابية والقومية.
إذا كان هذا الانخراط في لعبة “السياسة الصغرى” من طرف المدافعين عن الأمازيغية لن يجعل من المغرب، بين عشية وضحاها، دولة أمازيغية، هوياتيا وسياسيا، إلا أنه سيكون ضروريا لنهوض حقيقي بالأمازيغية في جانبها الثقافي واللغوي، والذي هو من اختصاص “السياسة الصغرى”.
ويدخل في هذا النهوض طبعا إنجاح مشروع تدريس الأمازيغية، المعطّل منذ أن أُعلن عن انطلاقه في سبتمبر 2003، وذلك بتوفير الأدوات القانونية والمؤسساتية لتدريس جدّي، إجباري وموحّد للأمازيغية، ولاستعمالها الشفوي والكتابي في إدارات ومؤسسات الدولة بصفتها لغة رسمية.
لماذا التركيز على التدريس؟ لأن تعلّم المغاربة لأمازغيتهم سيجعلهم “يتعلّمون” أيضا هويتهم الأمازيغية الجماعية، ويكتشفونها ويعودون إليها. وسيكون ذلك شرطا وبداية للانتقال التدريجي إلى الدولة الأمازيغية، دائما بالمفهوم الترابي، موازاة مع الانتقال التدريجي من الوعي الهوياتي الزائف والكاذب، الذي رسّخته سياسة التعريب والتحويل الجنسي، القومي والهوياتي، إلى الوعي السليم والصحيح الذي سينشره تدريس الأمازيغية، واستعمالها الشفوي والكتابي في إدارات الدولة ومؤسساتها بصفتها لغة رسمية، كما قلت.