ظلال وحقائق: كيف جئت إلى الحركة الأمازيغية؟

بقلم: د. عبدالله الحلوي

ظِلال

سنة 2011 تعرفت على صديق فايسبوكي أحسبه من جماعة “العدل والإحسان” لما شهدته فيه من دفاع شرس عن الجماعة وعن شيخها الراحل عبدالسلام ياسين رحمه الله. كان هذا الصديق مواظبا على قراءة جميع ما أنشره من شذرات وستاتوهات ومقالات على الفايسبوك والتعليق على كل ذلك بين الفينة والأخرى. لست أدري ما الذي جذبه لما كنت أكتب. ربما مردّ ذلك تعاطفه معي عندما أقدمت على تطهير خزانة كلية الآداب بنفسي بعدما رفض رئيس مصلحة الصيانة أن يقوم فريقه بذلك. أو ربما بسبب ما لاحظه في من دفاع مستميت عن الهوية الأمازيغية وهو شاب مستضعف من مدينة تنغير الصغيرة في الجنوب الشرقي للمغرب. أو لربما لأسباب أخرى قد لا أعلمها. اسمحوا لي أن أسمي صديقي هذا ب”ياسين” تذكيرا بشيخه المفضل “عبدالسلام ياسين”.

لكن كان هناك شيء واحد يثير بعض الريبة في قلب ياسين و يجعله حذرا كل الحذر من الإنسياق ورائي في كل ما أقول: فقد كنت أبالغ في انتقاد حزب العدالة والتنمية وأمينها العام بنكيران حتى عرّضت نفسي لمظنّة كراهية حزب كان يبدو عليه آنذاك أنه حزب إصلاحي عازم على محاربة “الإستبداد والفساد”. فالمشكلة بالنسبة لياسين ليست في الپيجيدي بل في خضوعه لاشتراطات النظام الحاكم وما يفرضه هذا النظام من قيود على الديموقراطية. ولم يشفع لي عند صديقي أني كنت أنتقد الپيجيدي لأنه عارض ترسيم الأمازيغية، ولأنه قاوم استعمال خطها التاريخي تيفيناغ، ولأن زعيمه سخر من هذا الخط معتبرا إياه نوعاً من “الشينوية”.

ففي المغرب حزبان يتنافسان بشراسة على السلطة: الپيجيدي الذي يعتبر نفسه حزبا إصلاحيا يسعى لمحاربة الفساد، والپام الذي يعتبر نفسه حزبا حداثيا معاصرا يسعى إلى إنقاذ المغرب من طوفان التطرف الذي قد يأتي عليه وذلك في إطار مشروع سياسي شامل كان السيد الهمة يسميه ب”المشروع المجتمعي للملك”. لذلك فإن النقد اللاذع للپيجيدي لم يكن يعني بالنسبة ل”ياسين” سوى شيء واحد ووحيد: وهو أن هذا “الحلوي” مخادع كبير يستعمله أهل الپام ومن خلفهم للدفع بالحركة الأمازيغية إلى أحضان الپام.

ليس ياسين وحده من وصل إلى هذه النتيجة بل أصدقاء آخرون أيضا. فقد لاحظت أن بعض أصدقائي يلمحون أحيانا لهذه “الحقيقة” بأشكال مختلفة. أتذكر مثلا أن زميلا لي قال لي ذات يوم: “فالحقيقة باراكا علينا من هاد الپيجيدي. خاصنا نجربو الپام شويا”. كان يقول ذلك بنظرة مشرقة توحي أنه يتوقع مني أن أعلن موافقتي على ما يقول وأن أُبدي سعادة كبيرة لاعتراف صديقي بحاجتنا لحزب يظن أني أنتمي إليه وينتمي إلي 🙂
هناك “أدلة” كثيرة تدعم اعتقاد أصدقائي بأني “عميل خطير” من عملاء النظام (وذراعه السياسية التي تسمى بالپام). أولها أني “موّلت” مؤتمرا شبابيا دوليا ل”نموذج الأمم المتحدة” جمعت فيه ما يقارب 300 وفد من جميع أنحاء العالم وجعلت موضوعه الأساسي “الصناعة في إفريقيا”، مما ينسجم تماما مع توجهات الدولة نحو إفريقيا! فهل يمكن أن يكون اختياري لهذا الموضوع مجرد صدفة؟ .. من طبيعة الحال: لا. ثم من أين آتي بالمال الذي “مولت” به هذا المؤتمر الكبير؟ كل المؤشرات تدل على أن المسألة “فيها إن”!

الدليل القاطع الثاني على “عمالتي” للنظام وكوني عنصرا “خطيرا” يعمل لصالح القصر بشكل سري وذكي هو أنني كتبت مقالتين أنتقد فيهما كتاب “الملك المفترس”. لقد كان هذا الكتاب بمثابة “الكتاب المقدس” عند كل منتقدي الملكية بالمغرب. حتى إن الصحافي المغربي توفيق بوعشرين خص إحدى افتتاحياته ل”هؤلاء الشباب المغاربة” الذين يدعون “الحداثة والمعاصرة” ولكنهم يدافعون عن القصر طمعا في التقرب منه والإستفادة الشخصية من “عطاياه”. لقد كان انتقادي لكتاب “الملك المفترس” فرصة ذهبية لتوفيق بوعشرين ليصفي بها حسابه مع القصر والمدافعين عنه.

كل هذه “البراهين القاطعة” على اشتغالي لصالح الپام أو النظام أو القصر أقنعت ياسين بأنه لا يجوز ولا ينبغي لكل من تشبع بفكر الشيخ ياسين أن يدنّس عينيه وعقله بقراءة ما أكتبه. أنا عميل مأجور. ودفاعي عن الأمازيغية ليس سوى حيلة خِسّيسة لاستدراج الحركة الأمازيغية لأحضان النظام. حيلة خِسّيسة وخطيرة. وفي نظر ياسين وأشباهه، هذا هو سر التحاقي بالحركة الأمازيغية بالضبط سنة 2011 .. السنة التي كانت خطيرة على الملكية في المغرب والتي كان يحتاج فيها النظام لمن يدفع عنه خطر الحركات المعارضة، التي من بينها الحركة الأمازيغية.
هذه، باختصار، هي خلاصة “عقيدة” ياسين وأشباه ياسين في ما أكونه وما أسعى إليه. هذه هي الظِّلال الكثيرة المختلطة المتشابكة الملتبسة التي قد تكون انعكاسا لأي شيء آخر إلا الحقيقة!

الحقائق

أشكر الله كثيرا لأن حياتي كانت مملوءة بالإثارة والمفاجئات الجميلة. فقد ترعرعت في أسرة دافئة، ميسورة الحال في أغلب أيامها ومتوسطة الحال في أسوئها. كنت محاطا بحب أسرتي عموما ووالدتي رحمها الله خصوصا إلى درجة أني لا أكاد أتخيل وجود الشر في العالم. كان (ولازال) كل شيء بالنسة لي جميلا ومشرقا ومستحقا لأن نغامر من أجله.

كان بيتنا، في فترة طفولتي المتأخرة، يعج ب”آيت تمازيرت” (أهل البلد) ممن يغريهم قرب بيتنا من محطة “لاساطاس” قديما وكرم والدي من القدوم أفرادا وجماعات لقضاء ليلة أو ليلتين قبل الإتجاه بعد ذلك إلى الدار البيضاء والرباط، العاصمتين الإقتصاديتين لتجار سوس، موطن أبي الأصلي، أو القنيطرة، الإتجاه الجديد لعائلات إدا ومحمود التي منها والدتي.

رغم أنني وأخويّ فقدنا قدرتنا على التحدث بالأمازيغية في مدينة الرباط التي ولدت فيها أنا وأختي، ومراكش التي ولد فيها أخي الأصغر، فقد كان بيتنا يعج بمتكلمي الأمازيغية، أبي وأمي كانا يتحدثان بها مع بعضهما البعض، وكل من كان يملأ بيتنا من الزوار كان لا يتحدث إلا بها. كنا نعيش في بحر أمازيغي صاف حتى إن لكنتي بالدارجة المغربية كانت (ولازالت) تغلب عليها النبرة الأمازيغية.

كانت حياتي الأكاديمية في المستوى الإبتدائي متوسطة وأحيانا ضعيفة، حتى إن الكثير من أساتذتي كانوا دائما يستغربون من التناقض الكبير بين ما يعتبرونه “ذكاء كبيرا” ونتائج مدرسية “عادية جدا”. بدأت بوادر التفوق الأكاديمي تظهر في مساري الدراسي انطلاقا من السنة الخامسة ابتدائي لتصل إلى أحد أعلى مستوياتها في مستوى الباكالوريا. أصدقائي يتذكرون أني عندما كنت أدرس في السنة الثالثة باكالوريا كان لدي ما يكفي من النقط (مما جمعته في السنتين الأولى والثانية) لأنجح حتى ولو حصلت في السنة الثالثة على صفر نقطة!
تواصل هذا التفوق الأكاديمي بشكل دراماتيكي في المستوى الجامعي حتى إن أحد أساتذتي بالجامعة كان يطلب مني أن أحاضر بدله في أيام مرضه معتمدا علي في إعداد المحاضرات بشكل كامل رغم أني كنت مجرد طالب في السنة الرابعة من سلك الإجازة.

في العشرينيات من عمري، كنت أحمل عداء تلقائيا للسياسة لا لأن السياسيين أشرار، فقد كنت ولازلت أومن بأن “الأشرار” بالمعنى الحرفي الكلمة لا يوجدون إلا في سلسلات الرسوم المتحركة، بل لأن السياسية مملة وغير جذابة بالنسبة لي. مملة لأنها مجرد تطبيق لأفكار أعمق كنت مهتما بها أكثر. وغير جذابة لأنها لا تجدي نفعا في بلدنا. لقد كنت مهتما بالفكر الماركسي أكثر من اهتمامي بالأحزاب الماركسية. وكانت تثيرني أفكار جون لوك أكثر مما كنت مهتما بالأحزاب الديموقراطية.

كنت محظوظا أيضا في مجال العمل لأني لم أعش البطالة مثل الكثيرين من مجايليّ في زمن كانت فرص الشغل أندر بكثير مما هي عليه اليوم. التحقت بهيئة التدريس بمدرسة أمريكية بمدينة الدار البيضاء في فترة متقدمة نسبيا من شبابي لأعين أستاذا في جامعة القاضي عياض سنتين بعد ذلك عندما كان عمري 32 سنة. أتذكر كيف أن البورد المسير للمدرسة الأمريكية التي كنت أدرس فيها ضاعف أجرتي بشكل مفاجئ ليغروني بعدم مغادرتهم إلى الجامعة لكني أبيت إلا أن ألتحق بها، فهي مركز الإشعاع الفكري، رغم أن أجرتي بها كانت أقل بكثير مما كنت أحصل بعد مضاعفة مرتبي في المدرسة الأمريكية آنذاك.
كانت الحياة توفر لي فرصا مهنية ذهبية كنت لا أكترث لها لأني كنت أرغب في التدريس في الجامعة. من ذلك مثلا أنه سنة 2001 عينتني منظمة سويدية تعمل في مجال تهيئة برامج محاربة الأمية “خبيرا لسانيا”، لكني سرعان ما توقفت عن مراسلتهم لاستيفاء مطالب التعيين. كان المنصب مغريا ولكن مملّاً. لا أستطيع أن أقضي كل وقتي في دراسة “فيدباك” متعلمي اللغات من الكبار! .. كانت تستهويني التكوينات. كلما سمعت بأمر تكوين أقدر عليه، اتجهت إليه واستفدت منه: فأخذت تكوينا في إعداد برامج الراديو، وتكوينا في كتاب “الوجود والعدم” لجون پول سارتر، وتكوينا في إعداد الكتب الدراسية انطلاقا من كتب غير دراسية (بل واشتغلت في هذا المجال مع دار نشر بريطانية)، وتكوينا مكثفا في الترجمة، … بالإضافة لتكويني القوي في مجالات تخصصي الضيق، وهذا موضوع آخر.

رغم مشاكل الحياة الكثيرة، فقد كانت حياتي متميزة بالنجاح الأكاديمي والمهني. فلم أحتج في يوم من الأيام للعمل عند المخزن. ولا أظن أن النظام السياسي المغربي يحتاج لإنسان يقضي جل يومه معتكفا أمام كتبه وحاسوبه. لقد كان جل زملائي في العمل ينظرون إلى، بتعبير أحد أصدقائي، ك”فيلسوف إنجليزي مجنون يحمل حقيبة مليئة بالكتب يتجول بها في شوارع لندن يفكر بشكل دائم في أشياء لا يفكر فيها الناس ولا يفهمونها ولا يحتاجون إليها أصلا” .. ألم أقض جزءا مهما من حياتي وأنا أفكر في معنى صفة “الوجود” و”العلاقات الأنطولوجية” و”الكينونة” و”الإضافات الپنوماتية” ..! لاأظن أن العملاء يهتمون بهذه الأمور على أية حال 🙂
لكن تحت هذا النجاح الأكاديمي والمهني، كانت هناك طبقة من الكآبة التي يصعب التعبير عنها .. كآبة مرتبطة على الخصوص بمن أكون!

لقد كان بيتنا كما ذكرت يعج ب”آيت تمازيرت” .. لكن شيئا فشيئا بدأ “آيت تمازيرت” يختفون من حياتنا .. منهم من وافته المنية. منهم من هاجر من قريته في سوس أو أرڭانة للسكن في إحدى مدن المغرب الكبيرة. من نتائج ذلك أن الأمازيغية بدأت هي أيضا تختفي من بيتنا تدريجيا. حتى أبواي اللذان كانا لا يتحدثان إلا بها أصبحا الآن يتحدثان معنا ومع بعضيهما بالدارجة. وبدأت أغاني الروايس التي كانت لا تتوقف في بيتنا تعوض بأغاني “وردة الجزائرية” وما شابهها.

لقد كان وعيي بهذه التغيير حادّا ومؤلما. فالأمر لا يتعلق بمشكلة أكاديمية يمكن حلها بمزيد من الدراسة بل ب”حضن” وجودي كنت أنتمى إليه، وها هو ذا بدأ ينسحب بشكل جارف. أين أغاني الحاج بلعيد التي كانت لا تتوقف في بيتنا؟ أين قشفات باقشيش دوريجين؟ أين إيقاعات أحواش التي كان أبي لا يستطيع أن ينام إلا إذا شغّل “الكاسيطة” التي كانت مسجلة بها ووضع الآلة المسجلة تحت رأسه ليبدّد بها قلق الإنتقال من اليقظة إلى النوم؟ أين سفرياتنا إلى آيت وارح بسوس وأساكا بأرڭانة حيث كنا نجري ونلعب مع أبناء آيت تمازيرت؟ لقد اختفى كل ذلك وتبدّدت باختفائه كل لحظات الطفولة الجميلة.
لقد كان من أرهب ما عشته ما لاحظته في حياتي عندما سافرت ذات يوم في بداية الألفية الثالثة إلى مدينة أڭادير لأكتشف بأن أڭادير لم تعد أمازيغية كما كانت في نهاية السبعينيات عندما كان جل سكان هذه المدينة لا يتحدثون إلا بالأمازيغية … ماذا يحدث؟ .. من يُمعن في تدمير طفولتي دون أي رادع؟!

كل أبناء أخوالي وعماتي وأحفادهم أصبحوا لا يتحدثون سوى بالدارجة .. لم تعد “الشلحة” بالنسبة لنا سوى انتماء مجرّد باهت لا معنى له ولا لون ولا طعم! .. حتى أبناء خالتي الذين كانت كنيتهم “أيت أومزيل” ( “أمزيل” تعني “الحدّاد”) تُرجم لقبهم في الأوراق الرسمية للدولة ليصبح “الحدّادين”.

في العشرينيات من عمري وبداية الثلاثينيات بدأ الإحساس بهذا الفقدان يتحول إلى مناقشات مع الأصدقاء ودفاع بريء عن اللغة الأمازيغية. لم أكن أعرف آنذاك أي شيء عن الحركة الأمازيغية ومطالبها … عندما سمعت أول مرة عن “الحزب الديموقراطي الأمازيغي” لم أكترث كثيرا للموضوع، أولا لأن ما يهمني في السياسة هو الأسس التي تقوم عليها (أي الفكر السياسي)، ولأني لم أكن أتفاءل بالسياسيين وتدخلاتهم.

عندما احتد الصراع بين الحركة الأمازيغية والپيجيدي حول مسألة اعتماد حروف تيفيناغ كنت مدرسا بالمدرسة الأمريكية بمدينة الدار البيضاء. وكانت تعمل معي سيدة فلسطينية متزوجة بمهندس مغربي. كانت السيدة الفلسطينية شابة ذكية وطيبة وذات خلفية سياسية قوية. كان إيمانها بالقضية الفلسطينية كبيرا وراسخا، ومدافعة شرسة عن فكرة “القومية العربية”. لذلك فرغم أننا كنا نقدر ونحترم بعضنا البعض، فلم نكن نتفق في تصورنا لهوية المغرب ومستقبله. أتذكر أنها كانت تستفزني بين الفينة والأخرى وتقول لي بلكنة فلسطينية جميلة: “يا عبدالله إنتو مطالبكوم موش واقعية”. فأجيبها بسخرية: “موش واقعية؟ … غادي نشوفو” .. لقد أصبحت قناعتي بضرورة استرجاع المسلوب الهوياتي أقوى وأوضح مما كانت عليه في العشرينيات من عمري. لكن لم يكن للحركة الأمازيغية أي دور في هذا الوعي المتنامي. لقد كانت القضية الأمازيغية ولا زالت مشكلة وجودية أعيشها كل يوم ولا علاقة لها بالسياسة أصلا.

من أقسى اللحظات الوجودية التي اختبرت فيها الإحساس بفقدان طفولتي/هويتي هي ما حدث لي ذات يوم عندما كانت والدتي رحمها الله تعالى تعاني من مرضها الأخير الذي نقلت بسببه إلى المستشفى حيث وافتها المنية سنة 2014. فقبل وفاتها بحوالي شهرين كنت أحس بأن حالتها الصحية قد تدهورت بشكل كبير فصرت أقلق عليها بشكل أفقدني توازني واطمئناني. وفي يوم من تلك الأيام الكئيبة، استقللت سيارة أجرة لسبب لم أعد أذكره لوجهة لم أعد أذكرها، فكانت مفاجأتي أن سائق سيارة الأجرة كان يشغل أسطوانة لأحد الروايس (المغنيين) السوسيين ممن كنا نستمتع بأغانيهم في طفولتي. فإذا بتلك الأغنية تستعيد كل شريط طفولتي بعنفوانها وأحلامها ودفئها وشغبها .. لقد أحسست مرة أخرى إحساسا مدمرا بالمفقود الهوياتي الذي قد تنضاف إليه والدتي إذا ماتت وتركتني عاريا في هذا العالم العاري. لقد كان إحساسا رهيبا زاد في إحساسي باغتراب وجودي قاس.

سنة 2011 كانت سنة مهمة في تطور الوعي الهوياتي في وجداني بشكل دراماتيكي … ولكنا بداية هذا التطور الدراماتيكي كانت صغيرة جدا ومفاجئة. ففي هذه السنة كتبت بفعل تأثّري الكبير برؤية الأعلام الأمازيغية في مسيرات 20 فبراير (أو في مسيرة قبل 20 فبراير .. لا أتذكر بشكل جيد) مقالة صغيرة أبين فيها أن استعمال لفظة “بربر” لوصف الأمازيغ خطأ أخلاقي. فكانت مفاجأتي كبيرة عندما بدأت ألاحظ كثرة التعليقات على تلك المقالة وحِدّة التهجم عليّ بسببها. فمن القراء من اعتبرها تعبيرا عن عنصرية مقيتة أحملها في صدري، ومنهم من ذكرني بأن “لا فرق بين عربي ولا اعجمي إلا بالتقوى”، ومنهم من نصحني بالإبتعاد عن هذه المواضيع والتركيز بدل ذلك على محاضراتي في اللسانيات.

بدل أن أستجيب لهذه التهجمات غير الذكية، قررت أن أستمر في الدفاع عن جوانب أخرى من الهوية الأمازيغية، مما جعلني أكتشف أن معظم المتهجمين كانوا من المتعاطفين مع مع حزب الپيجيدي، وأن سبب تهجمهم هو أن هذا الحزب كان داخلا في صراع مفتوح حول القضية الأمازيغية في سياق المطالبة بترسيم اللغة الأمازيغية في إطار دستور ديموقراطي تعاقدي.

منذ ذلك اليوم، انطلقت في حماس لا حدود له للرد عن المعارضين لترسيم اللغة الأمازيغية ودفع شبهاتهم باستعمال علم اللسانيات وتطبيقاته. فكنت أرد على المعلقين الناقدين بتفصيل إلى أن يعلنوا استسلامهم في المناقشة، مما مكنني من تطوير قاموس جدلي أصبح استعماله سائدا في الحركة الأمازيغية – قاموس يتضمن مصطلحات مثل “الجنجويد” و”ردالمسلوب الهوياتي” وغيرهما.

بعد أشهر عددها قليل، بدأ الناشطون في الحركة الأمازيغية يتوافدون علي لتشجيعي على مواصلة الكتابة حول الهوية الأمازيغية أو للتعبير عن “إعجابهم” بما أكتب أو لدعوتي إلى تقديم عرض أو محاضرة حول جوانب مختلفة من قضية الهوية الأمازيغية.

أخيرا، بدأت أسترجع الأمل في استعادة طفولتي/هويتي التي سُرقت مني خلسة. هذا هو البعد الذاتي لنضالي الهوياتي .. لكن هناك بعد آخر موضوعي … بعد مرتبط بحضارة اسمها تامازغا سأحكيه لك عزيز القارئ قريبا إن شاء الله.

شاهد أيضاً

الجزائر والصحراء المغربية

خصصت مجموعة “لوماتان” أشغال الدورة السابعة لـ “منتدى المغرب اليوم”، التي نظمتها يوم الخامس من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *