كثيرا ما نجد بعضهم لا يفرق بين الحقائق التاريخية وبين ما يتمنى أن تثمره لرغبة في نفسه.
نقول هذا لأن بعضهم يعتقد أن تبوأ الخطابي لصدارة المقاومة الشرسة للاستعمار، والدعوة لدحره من جهة، وقيادة عباس المساعدي لجيش التحرير الذي انطلق يوم 2 أكتوبر 1955، من جهة أخرى لا يمكن أن يتمخض الأمران إلا عن علاقة وطيدة بين الرجلين المكافحين. وهذا محض افتراض أو أمنية، لأنه لم يثبت إلى اليوم وجود أية علاقة بينهما، أو ما يفيد أنهما التقيا أو توافقا على العمل التحريري بالمغرب وغيره.
الوثيقة الوحيدة بين أيدينا (أنظر كتابي: عباس المساعدي، الشجرة التي تخفي غابة جيش التحرير، ص324) تأكد العكس تماما، كما تؤكد نفور عباس من الخطابي، وتحامله عليه، والوثيقة هذه كتبت بخط يد عباس المساعدي يوم 16 يوليوز 1955، ويَتَحامَل فيها بشكل واضح على الخطابي إلى حد أنه اتهمه بعدم اكتراثه بمستقبل الأمة (!).
وإنني أستغرب كثيرا أن يكون عباس قد تراجع عن موقفه هذا إزاء الخطابي بعد مرور ستة أشهر، أي بُعيد التحاقه بمصر في الأسبوع الثاني من يناير 1956، صحبة بنعبود والدكتور الخطيب.
بدون شك سيحتار المرء أمام موقف عباس هذا، وهنا أقول أن المساعدي لم ينحُ هذا المنحى إلا نزولا عند رغبة المصريين الذين أثروا فيه، منذ لقاءاته التي بدأت سنة 1954 مع عبد المنعم النجار الملحق العسكري المصري بالسفارة المصرية بمدريد، في إطار البحث عن السلاح لتزويد المقاومة المغربية به في المدن.
وسيتطور الأمر مع المصريين حتى عند انطلاق جيش التحرير في أكتوبر 1955، حيث كانت مراسلاتهم الحربية التي تعني عمليات جيش التحرير المغربي تبدأ بقولهم: “قامت قواتنا المقاتلة في الريف والأطلس بمهاجمة الجيش الفرنسي” أو ما شابه ذلك. وكأن المغرب أصبح مقاطعة مصرية، وجيش التحرير لعبة في يد المصريين.
ويعود الموقف المتشنج لعباس إزاء الخطابي إلى إملاءات المصريين الذين كانوا يجدون في البحث عن مد أذرع الناصرية والعروبة إلى كل شمال إفريقيا، الذي لم يستسغه الخطابي لما اجتمع به فتحي الديب يستطلع رأيه في كيفية تنظيم سير الثورة في شمال إفريقيا، فكان أن أجابه الخطابي بأن دور المصريين يتجلى في تقديم المساعدات اللوجيستيكية، أما تدبير شؤون الثورة وتسييرها، فيجب أن يعود إلى أبناء شمال إفريقيا… أغاض الجواب هذا القيادة المصرية، وازداد نفورها من الخطابي، ونقلت العدوى إلى عباس الذي عول عليه المصريون حينما أقام بينهم أكثر من شهرين، وكذا قبلهما…
لكن توقيع وثيقة الاستقلال في 2 مارس 1956 خيب آمالهم. وسيصبح مستقبل عباس بعدئذ على كف عفريت، خاصة بعد أن عاد الدكتور الخطيب إلى المغرب وترك عباس بمصر. فأشاع أن المصريين حاولوا معه ولم يفلحوا، ولا شك أنهم فعلوا نفس الشيء مع عباس… ومما لا ريب فيه أن هذه الإشاعة هي من حدد مآل عباس، لاسيما وأن الخطيب قبل شهر من مقتل عباس سيجيب عن سؤال وجهه إليه المقاوم عبد السلام الجبلي عما تلوكه الألسن حول عباس المساعدي، فقال (أي الخطيب): “أقول لك الحق وبصراحة، هَدَاك وَلْد لَحْرَامْ، ولا توجد أي إمكانية للتفاوض معه، ولا ينتظر منه أن يتراجع عن معاداته للنظام الملكي، الآن، لأن الذي يهمه ليست الأحزاب وإنما هو النظام، ولذلك لا يوجد أي حل معه سوى تصفيته”، (انظر مذكرات عبد السلام الجبلي: “أوراق من ساحة المقاومة المغربية”، ص 127).
بقلم: محمد لخواجة