ضمن كل عمل إبداعي، تكمن قصة تحمل بين طياتها رؤية وأفكارا تتفجر من أعماق الكاتب، لتلامس عقل وروح القارئ، في هذا السياق، نلتقي اليوم بالكاتب الشاب عبد الوهاب حداشي، ليأخذنا في رحلة عبر تجربته الأدبية، من أولى خطواته في الكتابة إلى صدور روايته البكر “سيليا”.
“سيليا” نافذة جديدة في الأدب الأمازيغي، يتناول فيها حداشي قضايا الهوية والمجتمع، ويصور صراعا وجوديا لبطل تقوده ملامح بشرته إلى معركة لا تنتهي، صراع هوياتي بين جماعة ترى في قرار الزواج شأنا جماعيا، لارتباطه بالشرف، والهوية، والقيم، والعرف، وبين عاشق يرى العكس تماما !
لغة حداشي أداة تمرد وحياة، فعندما يتحدث عن إلهام الكتابة، يشبهه بالمخاض الذي يولد من رحم المعاناة، مشيرا إلى أن الكلمة هي ملاذه، خلاصه ودواءه.
مرحبا بك ضمن حوارات العالم الأمازيغي الشهرية. بداية، كيف تقدم نفسك لقراء الجريدة؟
بداية، أتمنى السلام الدائم لقلوب قراء الجريدة.
شكرا لك، صديقي، ولأسرة الجريدة على حفاوة الاستضافة. يسعدني أن أكون ضيفا ضمن حوارات «العالم الأمازيغي».
اسمي عبد الوهاب حداشي، من مواليد مدينة تنغير، أدرّس مادة الفلسفة، وحديث العهد بالكتابة.
كيف بدأت رحلتك مع الأدب؟ وما الذي دفعك إلى خوض غمار الكتابة؟
علاقتي بالكتابة كعلاقة الرضيع بثدي أمه؛ فعندما تنتابه الدوافع التدميرية، كما تقول عالمة النفس ميلاني كلاين، يحتمي بثديها. كذلك أنا، أدير ظهر المجنّ للحياة عبر الكتابة، لأنها ملاذي، خلاصي، ودوائي.
لم تكن لدي الجرأة لاقتحام عوالم النصوص الطويلة التي تتطلب نفسا طويلا كالرواية، لكن حينما شاءت الأقدار، أو المصادفات، ما إن كتبت الحرف الأول حتى انسابت الأحرف الأخرى وتشكلت الرواية.. هكذا، بعفوية.
روايتك “سيليا” هي باكورة أعمالك الروائية، ما الذي ألهمك لكتابتها؟ وما أبرز التحديات التي واجهتك أثناء الكتابة والنشر؟
الكتابة بالنسبة لي تنسج تحت وقع الإلهام، وكما في الرواية: «كتابة الإلهام كالمخاض، تؤلم، لكنها تفضي إلى الحياة».
النصوص الطويلة تحتاج إلى نفس طويل، وكثير من الصبر والوقت، بالإضافة إلى ما تفرضه اللغة من إكراهات حين تبحث عن المفردات المناسبة لكل وضعية.
أنت تعرف كيف تتعامل دور النشر مع كاتب حديث العهد بعوالم الكتابة؛ لا أحد يعترف بموهبتك، ولا بلغتك، ولا بأفكارك، وبالتالي لن تجد من يثق بك منذ الوهلة الأولى. عليك أن تغامر فحسب، وتتحمل تكلفة الطباعة والنشر، فالأيام كفيلة بكل شيء.
هل اعتمدت على نموذج نفسي أو اجتماعي معين في بناء شخصيات الرواية، أم أن تطورها جاء بشكل عفوي أثناء الكتابة؟
صدقني، لقد تطورت الشخصيات بعفوية. ولأضعك في الصورة، فالرواية تولد من جديد مع كل منعطف.
هل يمكن اعتبار “سيليا” انعكاسًا لمأزق الهوية في المغرب الحديث؟ وإلى أي مدى تعكس الرواية صراع الهوية الفردية والجماعية؟
بشكل دقيق، تناوش الرواية جرحا وجوديا لبطلٍ كان على شفا الانتحار، بعد أن تعرض للتمييز العنصري بسبب لون بشرته. لقد تم اختزاله، رغم جلال قدره، وفكره، وكيانه، في لونه! مما دفعه إلى الخوض في نقاش علمي حول ظاهرة السواد.
وهو، في نهاية المطاف، صراع هوياتي بين جماعة ترى في قرار الزواج شأنا جماعيا، لارتباطه بالشرف، والهوية، والقيم، والعرف، وبين عاشق يرى العكس تماما!
لماذا اخترت عنوان “سيليا”، الذي يحمل دلالات أمازيغية عميقة؟ وما رمزيته في سياق الرواية؟
كان العنوان ليكون، على سبيل المثال: «سيمان، أريناس، تايمات»، إذ تعكس الفكرة الاحتفاء بالثقافة الأمازيغية، وإعادة نسج صورة مغايرة لما هو شائع عن الأنثى الأمازيغية – كونها مثقفة، ذات فكر ثاقب، وقادرة على ممارسة التفكير النقدي.
أما اختيار اسم «سيليا»، فذلك أولا لجاذبيته من حيث النطق، وثانيا لما يحمله من حمولة ثقافية؛ ففي السياق الأمازيغي، يرمز إلى الأنثى فاتنة الجمال، الجميلة شكلا ومضمونا، كما يحمل في سياقات أخرى دلالات ميتافيزيقية مثل النور والسماء. وعلى كل حال، يزخر الاسم بتنوع دلالي ثري، يتماهى مع رؤيتي في إرساء مجتمعات العيش المشترك، القائمة على ثقافة احترام الآخر المختلف—في لونه، معتقده، ولغته.
كيف تعاملت مع حضور اللغة الأمازيغية داخل الرواية؟ هل استخدمتها بشكل مباشر، أم اكتفيت بتأثيرها على البنية السردية والأفكار؟
عملت على حضورها، بشكل يخدم الرواية ومتنها، وكذلك السياق العام.
هل يمكن اعتبار “سيليا” استعادة رمزية للمرأة الأمازيغية المقاومة، سواء في التاريخ أو في الواقع الحديث؟
طبعا. «سيليا» كاسم لشخصية رئيسية في الرواية، ترسخ صورة المرأة الأمازيغية في علاقتها بالحياة عموما، تظل إنسانا يقاوم تصاريف الحياة بجرأة ناعمة.
برأيك، هل هناك صعوبة في إدخال الأمازيغية في الأدب المغربي المكتوب بالعربية، أم أن ذلك ممكن دون فقدان جماهيرية النص؟
بالعكس، في نظري الشخصي، أرى أن الأمازيغية كنتاج ثقافي للأمازيغ هي مادة دسمة للكاتب في أعماله الأدبية، بشرط أن يكون النقل أمينا ويخدم الأمازيغية أولا والوطن ثانيا. ورغم ذلك، يظل إشكال الترجمة قائما، خاصة عندما لا تجد في اللغة العربية ما يعادل المعنى الأمازيغي لكلمة ما. قد تنجح في ترجمة كلمة، ولكن يصعب عليك الجزم بقدرتك على إيصال المعنى الخصب والأصيل لها. ولذلك، نقول: الترجمة خائنة!
ما هي أهم المؤثرات الأدبية والفكرية التي أثرت على أسلوبك الروائي؟
بطبيعة الحال، نوعية المقروءات، سواء في الأدب أو الفلسفة، تؤثر بشكل كبير على اختياراتي. أنا أقرأ بانتقائية شديدة، وهذه المقروءات تصقل في دواخلنا الكاتب أو تساعد على نضج فكرة ما في عقولنا. لما أقرأه فضل كبير جدا على أسلوبي الأدبي، وهو ما يعني أن الموهبة وحدها لا تكفي.
هل تعتقد أن اللغة قادرة على ترجمة المعاناة الداخلية للشخصيات، أم أن هناك دائماً مساحة لصمت يحمل دلالاته الخاصة؟
لو لم تكن اللغة قادرة على حمل جراحاتنا الوجودية، لما التجأنا إليها. ببساطة، نهرّب بها عبر الأبطال الذين نصنعهم من ورق شطط الحياة!
كيف تتعامل مع الرقابة الذاتية أو المجتمعية أثناء الكتابة؟ وهل شعرت يوماً بأنك مضطر لتخفيف حدة بعض الأفكار؟
بصراحة، أطلق العنان للخيال؛ أعني الخيال الحر باعتباره تجليا أسمى للحرية، كما يقول سارتر في كتابه «الوجود والعدم». لا أكتب لأحد، بل أحاول أن أستمتع قدر الإمكان وأنا أمارس هوايتي.
ما الذي تطمح لتحقيقه في أعمالك المستقبلية؟ وهل تفكر في التوجه نحو أنواع أدبية أخرى، مثل الخيال العلمي أو الرواية الفلسفية؟
أنا أنشد العالمية (يضحك).
صراحة، هناك مشاريع أخرى قادمة، وقد يحمل بعضها أفكارا فلسفية. أما الخيال العلمي والكتابة العجائبية، كأن تجعل من الكرسي يتحدث (يضحك)، فذلك مما لا أحبه.
كلمة حرة..
شكرا لك صديقي وللجريدة على الاهتمام الذي نحتاج إليه..
شكرا لكل من يحبنا بلا قيد أو شرط..
شكرا لكل من يؤمن بنا..
شكرا من القلب لكل من اقتنى أو قرأ أو نشر أو شهّد روايتنا سيليا.
أرجو صادقا أن يستمتع رواد هذه الجريدة بهذا الحوار.
حاوره: خيرالدين الجامعي