على النخبة المثقفة أن تستدرك ما خسرته من قيمة رمزية في المجتمع

المعتقل السياسي محمد جلول*

ضرورة الاهتمام بالوضع الاجتماعي للطبقة المتوسطة للحفاظ عليها، وذلك للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، هي عبارة رائجة بين أوساط النخبة السياسية المغربية التقليدية أثناء فترات اشتداد الاحتقان الاجتماعي وتصاعد الحركات الاحتجاجية الشعبية.

– شخصيا كلما حاولت هضم هذا الخطاب فإنني لا أستسيغه، لأنني أجد فيه تكريسا للطبقية والتمييز بين مكونات الشعب، وذلك عندما يتضمن دعوة صريحة وبدون مواربة إلى الحفاظ على الوضع الطبقي لتركيبة المجتمع، وهو ما يتناقض مع مبادئ الدولة الديمقراطية والمساواة وإلغاء كل أشكال التمييز بين مكونات الشعب، وفي ما يتعلق بالاستفادة من حقوق المواطنة.

– كما ان هذا الخطاب رغم كونه يأتي تحت مظلة الاهتمام بالأوضاع الإجتماعية لما يسمى بالطبقة المتوسطة.والمقصود منها أساسا فئة الموظفين الصغار إلى جانب الفنانين والمبدعين ….الخ،فإنه اي هذا الخطاب يحمل إهانة كبيرة لهذه الفئة الإجتماعية، وذلك عندما لا تكون مسألة الاهتمام بها وتحسين اوضاعها الإجتماعية غاية في حد ذاتها انطلاقا من حقوقها المستحقة،وما يوفر لها شروط العيش الكريم،والشروط المواتية لأداء واجبها المهني بكل أريحية ومن دون اكراهات مادية تعيق مهمتها،وإنما يتخذ من ذلك وسيلة للحفاظ على تقسيم طبقي يكون الرهان الأساسي الذي يقوم عليه ما يسمى الإستقرار الاجتماعي.

– إن هذا الخطاب لا يخفي نظرته التنشيئية الى هذه الفئة الإجتماعية،انه يحولها إلى موضوع وأداة للتوظيف والاستعمال قصد الوصول إلى نتائج معينة تهم المتحكمين في رسم السياسات العمومية.انه يوحي بسياسة ميكيافيلية بائدة تنظر الى الشعب ليس بمثابة مجموعة من المواطنين يشاركون في إتخاذ القرار ويتمتعون بكامل حقوق المواطنة،بما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات،وإنما كمجموعة من الرعاية،أو قل كقطيع،وتاليا تسويغ كل اسلوب سياسي لضبطه والتحكم فيه.

– إن لمحة تاريخية سريعة كافية لاستخلاص وجود سياسة تفقيرية وتيئيسية تسعى إلى عزل هذه الفئة الإجتماعية وابقائها بعيدة ومحايدة عن قضايا المجتمع والذي نتشكل غالبيته من المحرومين والكادحين،بعيدة عن قضايا العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص ومحاربة الفساد والريع السياسي والاقتصادي،وتحييدها عن القيام بدورها في أداء رسالتها النبيلة في توعية المجتمع والنضال من اجل دولة ديمقراطية تسودها الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

– خاصة اذا علمنا أن هذه الفئة شكلت النخبة المثقفة التي لعبت ادوارا طلائعية في تاريخ النضال الوطني وساهمت في توعية المجتمع وتأطيره واستنهاض الهمم عبر ترسيخ القيم النبيلة،قيم النضال والكفاح والوطنية،وقيم نكران الذات والتضحية في سبيل المصلحة العامة والخير العام،وقيم التضامن والتكافل المجتمعي وقدمت تضحيات جليلة وجسيمة في سبيل هذه المهمة.

– إنها سياسية مضادة إذن سعت الى الدفع بهذه الفئة الى مربع اليأس وتحييدها عن القيام بدورها المجتمعي الحيوي وعن أداء رسالتها النبيلة،انها سياسة سعت ولازالت تسعى إلى عزلها عن بقية المجتمع وجعلها طبقة اجتماعية ذات وضع خاص وانشغالات خاصة،وإبقائها أسيرة وضعها المادي معلقة بين الأمل في الارتقاء في السلم الإجتماعي والخوف من فقدان ما تعتقده هذه الفئة أنه يشكل إمتيازا لها عن الطبقة الكادحة والمحرومة،ولكن هذا الأمل في الارتقاء في السلم الإجتماعي يبقى مستحيل المنال نظرا لسياسة الكوابح المستمرة التي تأخذ باليسرى ما تقدمه باليمنى،وتبقى هذه الفئة أكثر قربا من الطبقة المسحوقة تعيش بشكل دائم على الأوهام والخوف.

– وعليه فإذا كان من المخجل ان نسمع مثل هذا الخطاب من أصوات تعتبر نفسها مدافعة عن الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية ومصلحة الشعب …الخ،فإنه من الخجل كذلك ان تنساق من يفترض منها ان تكون نخبة مثقفة مع مثل هذه السياسيات التي تسعى الى ابقائها أسيرة لوضعها الاجتماعي في جزيرة معزولة عن قضايا الشعب ،شغلها الشاغل تحسين وضعها المادي في ظل ما هو قائم من وضع عام غير عادل،أسيرة السلم والرتبة والزيادة في الاجرة،بعيدة عن هموم الجماهير والفئات الشعبية المقهورة و المحرومة التي خرجت من رحمها،بعيدة عن هموم ابناء المنطقة والحي والمدشر الذي ترعرعت فيها،بل بعيدة حتى عن هموم العائلة والإخوان والاخوات الذين يشاركون المرء نفس البيت. -والاخطر من ذلك بمكان ان ينزاح من يعتبر نفسه او من يفترض فيه ان يكون مثقفا بسبب هوس الارتقاء الاجتماعي المادي (الخلاص الفردي)الى درجة التخلي عن كل المبادئ والأخلاق ،ويصاب بعمر القلب وفقدان الضمير ،فيجعل كل وسيلة مشروعة للكسب المادي والارتقاء في المناصب ،وهذا ما يؤدي إلى تفشي الفساد الانتهازية والزبونية والمحسوبية وكل أشكال الانحطاط الأخلاقي وانهيار العلاقات الإنسانية القائمة على النبل والفضيلة والتكافل المجتمعي.

– إنه يجهل أنه وقع في الفخ الذي نصبه له أولئك الذين يسعون الى الحفاظ على الوضع القائم الغير العادل،أولئك الذين يستفيدون من وضع الريع والامتيازات والاحتكار،يجهل أنهم تمكنوامنه،استطاعوا أن يفسدوا اخلاقه،وجعلوا منه لعبة واداة لتحقيق مآربهم ومصالحهم وجعلوه رهينة سياساتهم ومخططاتهم،فلا هو حافظ على كرامته ومكانته الرمزية الاعتبارية لدى المجتمع الذي غدا ينظر إليه كمجرد كائن انتهت زي خبزي،لا يهمه سوى البحث عن مصلحته الشخصية في ظل ما هو قائم ،ولا هو استطاع أن ينجو بنفسه من دائرة الفقر والحرمان.

– إن المثقف او من يفترض فيه ان يكون مثقفا والذي يعلن الحياد في زمن الظلم والفساد والانحطاط والتفسخ الذي يصيب المجتمع،ولا ينخرط في إصلاح الفساد وعملية التغيير من اجل تكريس الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية،وقيم النبل والفضيلة وقيم الوطنية ونكران الذات والتكافل المجتمعي. ..الخ،فإن حياده بمثابة مساهمة في التخريب والفساد،وذلك لانه تخلى عن واجبه ومسؤولياته في هذا الصدد،هذا فما بالك بالمثقف الذي ينحط الى مستوى التخلي عن كل المبادئ والأخلاق ،ويتورط بدوره في الفساد و الانتهازية،او يسترزق بالمعرفة والقلم لطمس الحقائق ومنع الناس من الفهم الصحيح وادراك مكان الاعطاب في تسيير الشأن العام، ومكامن المرض التي أصابت او تصيب المجتمع.

– إن النخبة المثقفة عليها أن تتحرر من شرك الأوهام الذي أريد لها أن تقع فيه لتحييدها عن أداء دورها الحيوي ،ودفعها نحو الزيغ والضلال،عليها ان تستدرك ما خسرته من قيمة رمزية في المجتمع،وأن تدرك جسامة مسؤولياتها،وبأن على عاتقها تقع نهضة المجتمع او انحطاطه،وأن دورها المطلوب ان تقوم به في المجتمع لا يقاس بأية قيمة مادية مهما بلغت،وأنها لا يمكن أن تحقق ذاتها وكرامتها إلا عبر القيام بادوارها و مسؤولياتها. -وهذا لا يتعارض طبعا مع حقها المشروع في المطالبة بتحسين أوضاعها الإجتماعية المادية والذي لا يمكن ان ينازعها حوله احد،ولكن لا يجب أن تنسى أن تحقيق مرادها في العيش الكريم لا يمكن ان يتأتى إلا في إطار تحقق العيش الكريم لكافة مجتمعها،لأنها جزء من هذا المجتمع و مرتبطة به وبمعاناته ولا يمكن لها ان تعيش معزولة عنه لان ذلك يعني ان يعيش الانسان معزولا عن مشاكل اهله وابناء حيه وابناء بلده،لذلك لا يجب ان تكون نضالاتها النقابية نضالا فئويا معزولا عن قضايا المجتمع وعلى رأسها قضية الديمقراطية والتنمية الشاملة.

* محمد جلول معتقل بالسجن المحلي عكاشة – الدار البيضاء

شاهد أيضاً

ندوة دولية بأكادير حول أهمية التربة في التنمية المستدامة

افتتحت يوم الاثنين فاتح يوليوز بأكادير ندوة دولية حول موضوع “متجذرة في القدرة على الصمود: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *