علي صدقي أزايكو مفكر مجهول؟؟!! أليس هو المعروف، كعلم في رأسه نار، ليس داخل الوطن فحسب، بل خارجه أيضا، بأنه ذلك المناضل الأمازيغي الذي كلّفه دفاعه عن الأمازيغية سنة من السجن عام 1982 بتهمة المس بأمن الدولة؟ نعم هذا ما نعرفه عن الأستاذ علي صدقي أزايكو، ولهذا السبب فهو مجهول ومغمور ولا نعرف عنه في الحقيقة شيئا.
لقد كنت مطمئنا إلى “معرفتي” هذه بالأستاذ أزايكو إلى أن قرأت مؤخرا مجموعة من مقالاته وأبحاثه لأول مرة بعد أن جمعها ونشرها مركز طارق بن زياد في كتاب بعنوان “تاريخ المغرب أو التأويلات الممكنة”، وأخرى ضمن كتاب “معارك فكرية حول الأمازيغية”. فاكتشفت كم كنت أجهل علي صدقي أزايكو، وكم كان يجهله غالبية المهتمين بالأمازيغية كما يبدو ذلك من خلال عدم الإشارة فيما “كتب” عن أزايكو سوى إلى أنه أول سجين للقضية الأمازيغية في تاريخ المغرب.
وعندما أقول إن أزايكو مجهول ومغمور، فإنني أقصد بذلك، كما وقفت عليه مؤخرا بعد قراءتي بعض ما كتب، أننا كنا، لعدم اطلاعنا على كتاباته، نجهل تمام الجهل القيمة الفكرية والفلسفية لأفكاره وتحليلاته ومنهجيته في التفكير والتحليل، وأثر ذلك على مستوى تكوين الوعي الأمازيغي، هذه القيمة المتمثلة على الخصوص في:
1 ـ أن هناك موضوعات وأسئلة حول الثقافة والهوية واللغة والتاريخ بالمغرب لم تثر، وبشكل محتشم وخجول، إلا ابتداء من تسعينات القرن الماضي. أما أزايكو فتطرق إليها وناقشها وقدم أجوبة بصددها، وبشكل واضح وصريح، منذ أزيد من ثلث قرن، وبالضبط منذ أواخر الستينات في مقالاته بصحيفة “صوت الجنوب” (1968).
وبداية السبعينات (1971) بمجلة “الكلمة”، خصوصا في مقالاته التعقيبية على ردود السيد أحمد الفحصي، لا سيما ذلك الذي يحمل عنوان “حينما يحتقر تاريخنا وتداس كرامتنا” المنشور بالعدد 4 لشهر مايو 1972 من مجلة “الكلمة”. لقد كان أزايكو إذن، بتحاليله وموضوعاته ومنهجيته وأسئلته وأفكاره الجديدة حول اللغة والثقافة والهوية والتاريخ بالمغرب، سابقا عن عصره ـ مثل كل المفكرين الكبار والمبدعين الأفذاذ ـ وعن الحركة والخطاب الأمازيغيين. وربما أن هذا السبق عن المرحلة التي كان يكتب فيها هو ما يفسر جزئيا لماذا بقي مجهولا ومنسيا تقريبا.
2 ـ تأسيسه لما يمكن أن نسميه بـ”الفكر الأمازيغي” La pensée amazighe. فإذا كان أزايكو قد أثار موضوعات جديدة وطرح أسئلة جديدة وبمنهج جديد، فذلك لأنه أسس لفكر جديد هو “الفكر الأمازيغي” القائم على رؤية وتصور ومفاهيم وتحليل ومنهج كلها تصب وتدور حول قطب الأمازيغية وما يرتبط بها من لغة وهوية وتاريخ وثقافة. إذا كانت الحركة الأمازيغية تسعى، من خلال خطابها الذي بدأ في التبلور مع تسعينات القرن الماضي، إلى تأسيس فكر أمازيغي متميز، فإن أزايكو سبق إلى ذلك من خلال كتاباته منذ أواخر ستينات القرن الماضي كما سبق أن أشرنا، هذه الكتابات التي تتميز، موضوعا ومنهجا وأسئلة وتحليلا، عن جل ما كتب قبل ذلك التاريخ حول اللغة والثقافة والهوية والتاريخ بالمغرب. هذا التميز هو ما يعطي لفكره طابع “الفكر الأمازيغي”، مثلما يحضر ذلك في ما نسميه مثلا بـ”الفكر الفرنسي” أو الصيني أو العربي… حيث نجد مفاهيم وأسئلة وموضوعات وتصورا ورؤية خاصة تجعل هذا الفكر ذا طابع فرنسي أو صيني أو عربي.
هذا التدشين لفكر أمازيغي متميز من طرف أزايكو، هو ما يفسر لماذا حكم النظام العروبي بالمغرب على أزايكو بعام من الحبس بتهمة “المس بأمن الدولة”. فهذه التهمة ـ المس بأمن الدولة ـ ليست تهمة باطلة أو جائرة أو ملفقة أو مبالغا فيها كما كُتب عن ذلك. بل هي التكييف القانوني الصحيح للفعل الذي “اقترفه” أزايكو، والمتمثل في مشروع “الفكر الأمازيغي” كما شرحنا ذلك. فهل هناك من مس بأمن الدولة العروبية بالمغرب أخطر عليها من نشر الفكر الأمازيغي المقوض للأساطير المؤسسة لهذه الدولة، والفاضح للأكاذيب التاريخية التي تستمد منها وجودها ومشروعيتها، والكاشف عن الحقيقة التي تخافها وتجفل من مجرد التفكير فيها؟ إنه حقا وفعلا مس حقيقي وفعلي خطير بأمن الدولة، دولتهم طبعا. هذا الحكم على أزايكو في 1982 يبين أننا إذا كنا نجهل هذا المفكر الأمازيغي الفذ، أي نجهل حقيقة وثورية فكره الأمازيغي، فإن السلطة العروبية لم تكن تجهل ذلك، بل كانت تعرفه وتراقبه وتتخوف منه. لذلك سارعت إلى إيقافه ومنعه بوضع صاحبه في السجن.
هنا نطرح السؤال التالي: لماذا لم يصبح هذا الحدث ـ حدث اعتقال ومحاكمة أزايكو من أجل أمازيغيته ـ حدثا مرجعيا في مسار وتاريخ الحركة الأمازيغية؟ لماذا لم يصبح محطة تاريخية مفصلية معها تبدأ مرحلة جديدة على مستوى الوعي والمطالب ووسائل النضال؟ لقد تحولت مثلا أحداث الربيع الأمازيغي بالجزائر في 1980 إلى مثل هذه المحطة التاريخية المفصلية في مسار الحركة الأمازيغية هناك، رغم أن الذين قُتلوا واعتقلوا في هذه الأحداث هم أشخاص مناضلون فقط، في حين أن من اعتقل واغتيل في حدث محاكمة أزايكو هو الفكر الأمازيغي الذي كان يمثله هذا المفكر الكبير. لماذا إذن لم تعد محاكمة أزايكو حتى مجرد ذكرى معروفة التاريخ نستحضرها ونتذكرها؟ بل لماذا ظل صاحبها مجهولا ومنسيا ومغمورا رغم أن فكره الأمازيغي يشكل فتحا جديدا في تناول قضايا اللغة والهوية والثقافة والتاريخ والهوية؟ لا شك أن أحد الأسباب ـ وليس كلها ـ هو أن صاحب هذا الفكر الذي حوكم من أجله كان، كما سبق أن قلت، سابقا لعصره ولمطالب الحركة الأمازيغية في تلك المرحلة.
وهنا أعرّج على مسألة تهميش الأمازيغية التي نحمل المسؤولية فيها دائما للسلطة السياسية ومؤسساتها. لكننا ننسى أن أقصى وأقسى أنواع التهميش هو الذي يمارسه بعضنا على البعض عندما يجهل بعضنا البعض الآخر ويتجاهله ولا يعترف به ولا بأفكاره. وهكذا تعاملنا مع أزايكو لأكثر من ثلث قرن ـ وقد يستمر لمدة أطول ـ ظل أثناء ذلك مغمورا ومجهولا لا نعرف عنه إلا الظاهر، أي ذلك المناضل الذي دخل السجن من أجل الأمازيغية مع جهل تام لفكره الأمازيغي، لأن هذا الفكر سبق زمانه بفترة طويلة كما قلت.
واليوم، إذ نكتشف ـ أتحدث أولا عن نفسي لكن قد ينطبق ذلك على الكثيرين ـ هذا الفكر الأمازيغي الذي أسسه أزايكو، ماذا ينبغي علينا أن نفعل ونقدم لهذا المفكر عرفانا بجميله وفضله علينا وعلى الأمازيغية؟ هنا أتذكر جبران خليل جبران الذي قال: إذا أردتم أن تكرموا وتكرّموا الرجل العظيم لتردوا له جميله وفضله، فلا تعطوه بل خذوا منه. وهذا ما يصدق على أزايكو: فهو لا ينتظر منا أن نعطيه وليس في حاجة إلى مثل هذا العطاء، ولكنه جاهز لأن نأخذ منه المزيد ونمتح من فكره الأمازيغي الذي أسسه ووضع مفاهيمه وأرسى لبناته الأولى منذ أزيد من ثلث قرن كما قلت.