عموري مبارك: التروبادر النبيل الذي نذر حياته للجذور الأمازيغية والمقاومة الموسيقية 

” نحن لم نعش الحياة، الحياة هي التي عاشتنا، بالطريقة نفسها التي يرشف بها النحل الرحيق، نرى ونتكلم ونحيا، الأشجار تنمو، بينما نحن ننام” فرناندو بيسوا 

نشعر بعدم الارتياح والحيرة وننحرف عن مسارات رسمناها عندما نسمع عن الموت بأشكاله المتعددة: الموت الجماعي، وفاة أشخاص مجهولين سمعنا أو قرئنا عنهم؛ أو موت أشخاص تمزق مغادرتهم نسيج حياتنا أو احتمال موتنا. إن أسوأ الأشياء التي يمكن أن تحدث للبشرية هو التعود على الموت سواء في الأمور السياسة أو في الحياة اليومية، والتعامل معه على أنه أمر عادي أو شيء آخر لا يعدو أن يكون مجرد فقدان. عندما تسير الأمور على ما يرام، يبقى الموت قابعا في الخلفية، ومن هناك يؤثر على وعينا بكل الأشياء. حتى عندما ننهي اليوم بسلام، فإن احتمال الموت لا يزال يحيط بنا بطريقة ما. 

تحدث سقراط عن الموت باعتباره هجرة، تمامًا مثل الانتقال إلى كورينث أو سبارتا. لكن هذا النوع من الهجرة، الهجرة إلى مكان آخر، أكثر من ذلك بكثير. ما وراء الحياة مختلف تمامًا عن الحياة بحيث لا يمكننا أن نتخيله. ربما يقترب الشخص من تجربة الموت أكثر، كما يعتقد هايدغر، عندما يموت شخص آخر، وذلك من خلال التعامل مع موت الآخرين باعتباره معاناة وفقدان. إلا أن هيدغر يستدرك قائلا أن الشخص لا يمكنه أبدًا أن يجرب موت الآخرين بالمعنى الحقيقي ولأنه لا يمكن لأحد أن يموت بدلاً من الآخر في آخر المطاف فيجب على كل وجود أن يتحمل ويجرب فعل الموت بنفسه. في نهاية المطاف “نهاية العالم – هي الموت. “النهاية” التي تنتمي إلى حدود الوجود وتحدد الوجود كله … الموت مجرد وجود مصاحب”. (هايدجر، ص 302، 2014). 

الموت حدث لا يقبل التعويض والفناء هو ذلك الذي نشكل ونصوغ فيه ذواتنا. ولذلك لا نملك سوى أن نعبر عن مواساتنا وحبنا اتجاه المفقود من خلال الشعر والغناء الذي هو بعد كل شيء احتفال بالحياة والوجود، وهذا ما تصبو إليه أنثولوجيا مخصصة لمرثيات الفنان عموري مبارك.

مرت ست سنوات على رحيل الفنان والملحن الأمازيغي الموهوب والملتزم عموري مبارك غير أننا مازلنا نتذكره ونحتفل بحضوره الغائب سواء في خلوتنا الموحشة بين جبال الأطلس الكبير في حضرة موسيقاه أو رفقة الأخلاء الذين ربطتهم به علاقة صداقة وود وأخوة إنسانية أو مع أفراد عائلته أو أسرته الكريمة، وبالخصوص أرملته الفنانة والشاعرة زهرة تنيرت وإبنهما المحبوب سفاو.

بقدر ما أتذكر، ولا أدعي بأنني عمرت طويلا لأتذكر الكثير، لا سيما البدايات التي تكون دائما صعبة مثل المخاض، لكنني عشت بما فيه الكفاية وكنت محظوظًا لأن وجودي تزامن مع وجود وذكرى الملحن والمغني الأمازيغي عموري مبارك الخالدة. أتذكر كيف أنه في التسعينيات كان كل شيء تقريباً التقطته أذني من مذاييع الفلاحين الأمازيغ في قريتي الأمازيغية المنعزلة في أماسي رتيبة كان من إبداع عموري مبارك. أتذكر أننا خصصنا له حيزه المهم بين عباقرة موسيقى الفولك والروك أمثال بوب ديلان وفيل أوكس وجوان بايز وليونارد كوهن ووودي غاتري وبيتي سيغر. مما لا شك فيه أنه كان موضع احتفاء كبير بين أفراد جيل والديّ الذين شهدوا ولادة ونهاية مجموعة “أوسمان” (البرق)، لكنهم رفضوا التخلي عن تقديرهم وتأييدهم لفنان حقيقي شق طريقه إلى الشهرة بالرغم من العراقيل التي كانت تلاحقه أينما حل وارتحل. عاش جيل والديّ في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي وتأثر بشكل طبيعي بروح ثقافة الهيبي التي انتشرت في جميع أنحاء العالم وكان من الطبيعي أن يلتقطوا الأغاني التي تعكس هموم وتطلعات جيلهم ولحظتهم التاريخية ويمرروها إلى جيلنا.

يعتبر عموري مبارك من أبرز الفنانين الأمازيغ الذين نقلوا، من خلال الأداء الموسيقي، إحساسًا جديدًا تأثر بشكل ملحوظ بالتجارب المؤثرة في دور الأيتام والتهميش الثقافي والتمييز الذي شهدته فترة ما قبل 2001. كان من الطبيعي أن يتذكر جيل والديّ عموري بملابسه وأسلوبه المختلف أينما ظهر برفقة أعضاء فرقه المختلفة. مثل كل الأمازيغ الذين كانوا متحمسين لسماع لغتهم المحكية في الأماكن العامة وأغانيهم تغنى في وسائل الإعلام الرسمية، حافظ جيلي بحماس على صوت عموري المدوي وهو يحتفي بالحياة ويقدر القيم الإنسانية ويثني على الثقافة والتقاليد الأمازيغية. شغف عموري الشرس والمستهلك للموسيقى والإبداع شغف معدي ولا شيء ينقل هذا التفاني الفني الشبه الديونيسي وهذه اللهفة للسمو والجمال أكثر من مثابرته على تكريس حياته كلها لمهنة الفن. إن تجربة طفولة عموري مبارك في دار الأيتام بتارودانت، وهي مؤسسة تديرها راهبات الفرنسيسكان، حيث وقف جنبًا إلى جنب مع الأطفال البائسين وأعرب عن حزنه واستيائه المبكر كعضو في الكورال، شاهد على روحه الفنية الأصيلة.

ولعل ما يميز الميولات والاختيارات الفنية لعموري مبارك عن غيره من الموسيقيين الأمازيغ من جيله سعيه المستمر إلى الجمع بين أشكال مختلفة من التعبير الفني كالشعر والموسيقى. لقد فطن عموري أنه من المستحيل تحقيق نهضة ثقافية في غياب ممارسة ملتزمة تجمع بين الأنماط الفنية المختلفة التي من شأنها استرجاع الصوت المكتوم للهوية الأمازيغية والفاعلية الثقافية الأمازيغية. عرف عموري الدور المعزز الذي يلعبه المزج بين الفنون المختلفة في تحسين مستوى الوعي لدى العامة، وبالتالي ركز اهتمامه على المنجز الغني والفتي للشعر الأمازيغي المعاصر الذي كان مفتونًا به وعمل بشكل خاص على قصائد إبراهيم أخياط، وعمر أمرير، ومحمد المستاوي، وحسن ادبلقاسم وعلي صدقي أزيكو الذين ركزوا باعتزاز على مواضيع مرتبطة بالهوية الأمازيغية والحرية والحب والترحال والنفي. لقد عمل جاهدًا على فصل الموسيقى الأمازيغية عن المفهوم الفولكلوري الذي ظل يحوم فوقها لعقود من خلال تقديم إيقاعات وألحان وترتيبات جديدة تردد صداها مع الابتكارات الموسيقية العالمية المعاصرة.

من المشروع أن تكون ذكرى عموري مبارك محط اهتمام ومدعاة لاحتفال أفراد الأجيال السابقة والحالية، وفي واقع الأمر يبين نشر هذه الأنثولوجيا الشعرية التي تضم مرثيات كتبها أقرب أصدقائه وكذلك عشاقه المجهولين عن خصلة الاعتراف والتقدير المستحقين لعمل فنان لا يقبل التعويض. ومن المثير للاهتمام، أن هذه الأنثولوجيا المكونة من مرثيات تمثل أيضا نقطة محورية تلتقي فيها ابتهالات وتضرعات وتأملات عميقة في شخص عموري مبارك، واستحضارا لروحه المسالمة، وإرثه الرمزي، والخدمات الثقافية الهائلة التي قدمها من خلال نشاطه الفني المبدع. وبالرغم من أن بعض القصائد المدرجة في الأنثولوجيا تميل إلى ما هو رثائي بشكل جلي لأن كتابها لا يمتلكون سوى أن يندبوا فقدان شخصية قريبة، وفريدة ومحبوبة في الثقافة الأمازيغية، فإن معظم المرثيات ليست مجرد تعبير مثير للشفقة عن الفاجعة، بل بالأحرى تحقيق على وجه التحديد لغبطة مشتركة أخطأ مصطلح الفقدان في وصفها. في هذه الأنثولوجيا، يمتزج صدى صوت العزاء المشترك للشعراء المساهمين بالنبرات الخفية للاحتجاج الواعي والدعوة إلى بالالتزام الجماعي بتكريس الثقافة والتقاليد الأمازيغية بجميع أشكالها. إن هذه الأنثولوجيا تعكس القيمة السامية للتعاطف مع مبدع كحدث أنطولوجي إنساني له أهميته من منظور أي شخص يتطلع إلى استيعاب الكيفية التي يمكن للشعر أن يجمع فيها بين الأحاسيس الأكثر خصوصية والأكثر عمومية في الآن نفسه في عمل فني ملتزم ثقافيًا.

مثل تشارلز أولسون وموريل روكيسير، يؤمن علي شوهاد بأن العمل الذي تقوم به القصيدة هو نقل للطاقة البشرية، لكنه يعتقد أيضًا أنه لا وجود لمكان نلجأ إليه من عبء الذاكرة أو  نتحرر فيه من المعاناة حتى عندما يغوص المرء في أعماق الخيال. يتساءل على شوهاد:

aɣaras da ittawin kra yiwi ur ad urrin

da ntkkaɣ bulɛjlat nddu nau urriɣ

manzak a walli ra yyid irar sul ad urriɣ

adrar lli aɣ n immaln tilli ḥḍanin

adrar n drn ɣ assa d yan uu nns is d yakuf

aaa nkkin ixlan a immi

mamnk rad araɣ imurig f yan iɣ yyi yugr

ur t mlɣ nɣ immut sul iddr ukan s urar

ggutn t tguiwin ar xttad ur sul ib yan

asnnan mumma n tiṭṭ ad nn yut

aḥḥḥ nlla ɣ tillas

ixsi lqndil i irgitn izwar nf t inn

nrgl nn amṭṭa s rric n tiṭṭ iffid s akal

ijdr tiṭṭ ur bx i nmd ijddrn ul

tanirt! mi amṭṭa das isalla udinan d imiss

يعتقد إزرا باوند أن الشاعر “يرتب فقط ما هو موجود بالفعل” وما هو موجود بالفعل لمعظم الشعراء هنا هو تجربة الفقدان والندب على فنان محبوب للغاية ظل فخوراً بأصوله الأمازيغية واحتفل بها من خلال الأعمال الموسيقية. كان من الطبيعي أن يعبر محمد المستاوي عن معاناته الجسدية والروحية بقدر كبير من الصراحة عندما يناجي نفسه:

ɛmmui mbak idda anɣ

nga yan ɣ infcadn wins

yuki d waṭṭan iɣʷi ax t

izzwar asn amggr iqqn tn

ad sul ur sllɣan iɣ isawl

ad sul ur issflid iwis

ula tamɣart tada yiwi

وقبل أن يتطرق إلى صفات عموري النبيلة والمخلصة والتأثير الساحر الذي تركته موسيقاه وحضوره على جمهوره الذي يقف بوقار عندما يظهر على الخشبة، يتوسل سعيد بن ناصر إلى الأمازيغ ليستحضروا عموري مبارك ويصلوا من أجله. يتذكر بن ناصر بعبارات شجية:

yan usmun igllin immut iggʷz ikaln

illa dars imurig immimn sul d lxaṭṛ

bbi ka tn iubban iga sn tafi ɣ ils

iɣ ibidd ɣ usarag ar ittirir gr middn

ad ukan sawin lgia izid f urarn

izuzzr d gis awal amaziɣ ibdu srsn

a kullu kra t igabln ifṛḥ iɣ d isawl

……….

ibbi a imaziɣn yan izzuln dɛun asn

tacc a tga ɣayad n ddunit ur dawmnt

ikka t inn yan uzmz iɣ nn ibidd ɣ usays

ar akʷ itbddad ugdud nns ur a tgawarn

يمثل عموري النموذج الأولي للتروبادور النبيل الذي عاش حياة كاملة منشغلة بقضية نبيلة، رجل أثر وأثرى حياة كل من حوله. بامتنان كبير يتذكره أصدقائي الذين نشأوا في أكادير وهو يتجول في شوارع المدينة مثل أي إنسان بسيط لأنه كان بالفعل إنسان الشعب. كان يدعوهم بطبيعة الحال ليتقاسموا لحظات خلوته ويحدثهم عن أحدث مشاريعه. يختتم بن ناصر بهذه الأسطر:

yan izzrin ddunit nns ifwwej lxaṭṛ

ad as ur yalla yan mqqa iggʷiz d ikaln

ifld agdud nns ula sifaw isnna tn

الحبيب الواعي: شاعر ومترجم مغربي حاصل على شهادة الدكتوراه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط حول المثاقفة وأشعار جيل البيت الأمريكي، حاصل على جائزة فولبرايت للبحث والتبادل التربوي بأمريكا .

 

  • نص الورقة المقدمة في إطار الذكرى السابعة لرحيل الموسيقي الأمازيغي عموري مبارك والمنظمة من قبل مؤسسة عموري مبارك بتعاون مع منظمة تاماينوت فرع أيت ملول ومقهى كابريس يوم السبت 13 فبراير 2023 بفضاء مقهى كابريس بمدينة أكادير. 

 

اقرأ أيضا

الإحصاء العام: استمرار التلاعب بالمعطيات حول الأمازيغية

أكد التجمع العالمي الأمازيغي، أن أرقام المندوبية تفتقر إلى الأسس العلمية، ولا تعكس الخريطة اللغوية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *