جمال المحدالي
إن حراك الريف الذي فجره حادث طحن الشهيد محسن فكري سرعان ما اتخذ طابعا هوياتيا واضعا الأمازيغية لغة وثقافة وحضارة في مركز الصدارة. فمنذ البداية، اختار نشطاء الحراك التواصل باللغة الأمازيغية الريفية، تلك اللغة التي عانت ولا تزال من ضروب الإقصاء الممنهج رغم تنصيص دستور 2011 على أنها ” لغة رسمية أيضا”. وهو ما يجعل منه حراكا أمازيغيا ريفيا بامتياز. والأكثر من ذلك، ينبهنا هذا الحراك إلى أن قضية الأمازيغية هي أساسا قضية الإنسان الأمازيغي، وأن الدفاع عن كرامة هذا الإنسان وحريته وحقوقه وعن رموزه الحضارية هو من صميم الدفاع عن الأمازيغية، وفِي المقابل إن عزل هذه القضية عن الشرط الجيوتاريخي للإنسان الأمازيغي وعن مختلف قضاياه الآنية والمصيرية وتغليفها بالطابع العرقي المغلق هو تشويه وتحريف ومن ثم إضعاف لها.
إن الحراك لم يختزل الأمازيغية في مجرد مطلب روتيني في قائمة مطلبية، بل جعل منها أداة محورية في الدفاع والمرافعة عنها وعن مجمل مطالبه. ما يعنى بأن الحراك تعامل مع الأمازيغية كمكوِّن مميٍّز له من حيث هو حراك شعبي في منطقة محددة من كوكب الأرض. فذكَّر العالم، أن هناك بالريف جزءا من شعب أمازيغي يعاني من تهميش كارثي وشامل، ويخنقه تغول سلطة فاسدة يصل حد طحن مواطن، يكافح من أجل لقمة العيش، في حاوية الأزبال. هذا الشعب الذي قرر أمام بشاعة تلك الجريمة وسواها أن ينتفض عبر حراك سلمي تحت رفرفة العلم الأمازيغي وراية الجمهورية الريفية، غير عابيء بأن يُؤوَّل رفع تلك الرايات تأويلا شيطانيا مُخوِّنا للحراك ولشعبه. وللأسف ذلك التأويل هو الذي تم ترسيخه وتكريسه في الإعلام الرسمي والمأجور أثناء مسيرات الحراك على امتداد سبعة أشهر، وغداة الإعداد لضرب الحراك، وخلال التحقيق مع نشطائه ومحاكمتهم. في حين إن رفع رايتي الأمازيغية والجمهورية هي إشارة شعبية ريفية إلى خلل فضيع في التعاطي الرسمي مع القضايا الهوياتية والحيوية للشعب المغربي وبخاصة بمنطقة الريف: استمرار تهميش الأمازيغية كلغة وثقافة وحضارة، واستمرار تهميش الريف كجغرافيا وتاريخ وإنسان. وبالتالي فإن رفع تلك الرايتين هو تعبير عن تشبث الحراك بهويته الأمازيغية واحتجاج عن الحيف الذي يطالها، كما أنه تعبير عن الإعتزاز بالذاكرة التاريخية للريف وبالرموز التي صنعت ملاحمه الخالدة، وفِي ذات الحين هو استنكار للحصار المضروب على تلك الذاكرة التاريخية الحية.
وتجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أن الحراك كان يستعد للإحتفال بحلول السنة الأمازيغية في يناير 2017، وهو ما عجَّل بإقدام السلطات المحلية والمجلس البلدي بالحسيمة بمحاصرة ساحة الشهداء التي كانت أغورا (Agora) الحراك، وابتداع ما سمي آنذاك بمعرض الصناعة التقليدية والمنتوجات المحلية لتبرير محاصرة تلك الساحة ومنع الحراك من مواصلة اشكاله النضالية عليها. وفِي غمرة هذا الحصار سيتم أيضا قمع مسيرة 5 فبراير 2017 التي كان قد دعى إليها نشطاء الحراك، وكان الهدف منها هو تخليد ذكرى رحيل الأمير عبد الكريم الخطابي والمصادقة على الملف المطلبي.
إن الدعوة إلى هاتين المسيرتين من طرف نشطاء الحراك ومنعهما بشكل رهيب وماكر وهمجي من طرف السلطات المحلية يختزل جوهر الخلل في تعامل الدولة مع الأمازيغية والريف على حد سواء، ويبين كيف أن الدولة عِوَض أن تواجه الواقع بجرأة وإرادة سياسية تتطلع نحو المستقبل، فتعترف بأخطائها وقصورها وتؤسس لتصالح حقيقي مع الريف والأمازيغية، فإنها اختارت كعادتها خلط الأوراق وتشويه الحقائق ومن ثم اختلاق أكذوبة التآمر والإنفصال والتمويل الخارجي وإلصاقها كتهم بالممعتقلين السياسيين ومحاكمتهم على أساسها ثم إصدار أحكام جائرة في حقهم بلغت حد عشرين سنة سجنا نافذا في حق بعضهم، كل ذلك لكي لا تضطر الدولة للتعامل مع الأحداث والأوضاع كما هي، وتلك عادتها. فبدل أن تسعي الدولة في شخص المسؤولين مركزيا وجهويا ومحليا لفهم وتفهّم رفع تلك الرايتين التلقائي خلال مسيرات الحراك فقد تعاطت معه أجهزة الدولة الأمنية والقضائية والحكومية وحتى أجهزتها الإيديولوجية كدليل على تهمة الإنفصال الواهية التي طالما أُتّهم بها الريفيون والريفيات كلما عاودوا الدفاع عن حقوقهم واستنكروا ما يتعرضون له من قمع، منذ زمن مقاومة الإستعمار إلى زمن الحراك مرورا بانتفاضة الكرامة 1959/1958 وانتفاضة الخبز 1984 وحركة 20 فبراير 2011.
لقد أخرج الحراك الأمازيغية من الحلقات المغلقة للمثقفين والمتخصصين ليجعل منها قضية حراك شعبي يصدح ببلاغة الريف المشبعة بروح المقاومة والصمود والتحدي والإبداع. وإذا ما كنا قد تعودنا بالريف أن يكون الخطاب في اللقاءات الجماهيرية وفي الأشكال الإحتجاجية باللغة العربية، مع أن الحضور يكون عادة وفِي غالبيته أمازيغيا ريفيا. وهذه إحدى تمظهرات أعطاب الفصام بين النخبة والشعب، فإن الحراك جعل الأمازيغية لغة الخطاب والتداول والشعارات، جعل منها لسانه الذي يخترق مسامع حتى الذين لا يفهمون الأمازيغية. أما الذين هم وهن شعب الحراك بكل فئاته وشرائحه ومشاربه، الذين على السفوح والأعالي الشاهقة لجبال الريف، الذين في القرى والحواضر الريفية… فقد وجودوا في خطاب الحراك الأمازيغي الريفي وشعاراته ما لم يجدوه في كل الخطابات الفصيحة البليغة والشعارات الصاخبة التي شنفت مسامعهم من ذي قبل، كما لو كان ذلك الخطاب مسكونا برعشة كيمياء سحرية تنفذ به إلى الأعماق: أعماق القلوب والضمائر، أعماق البوادي والحواضر. وقد كانت الهواتف الذكية والحواسيب، عبر الشبكة العنكبوتية ومنصات التواصل الإجتماعي، تنقل خطاب الحراك وشعاراته لينتشرا كما ينتشر الضوء والهواء في أرجاء الكون، ليحلق إلى أبعد مدى، إلى ريفيي وريفيات الشتات، حيث سيواصل فعله المبارك: ألم يوقظ الحراك بخطابه ومطالبه وسلميته وشعبيته جذوة الإنتماء إلى الهوية الأمازيغية الريفية في نفوس ريفيي وريفيات الشتات؟
إن التركيز هنا على الطابع الأمازيغي الريفي للحراك لا ينبغي أن يدفع أحدا للإعتقاد بأني أريد اختزال الحراك في نزعة إثنية مغلقة وعنصرية، لأن طبيعة الحراك ومساره وامتداده تضعه بالضرورة خارج هذا الإعتقاد. فنشطاء الحراك بقدرما كانوا بتحدثون ويتواصلون بالأمازيغية الريفية، فقد كانوا يتحدثون أيضا بلغة عربية فصيحة وبالدارجة المغربية وبلغات العالم، وخاصة في الدياسبورا. وهذا ما جعل الحراك يكسب تعاطف وتضامن المغاربة والرأي العام العالمي. كما أن أولئك النشطاء بقدرما ما كانوا يعتزون بهويتهم الأمازيغية والريفية ويدافعون عنها فإنهم كانوا أيضا يعتزون بانتمائهم للمغرب وللعالم. وبالتالي إذا كان ولا بد من الحديث عن هوية ما لحراك الريف فلن تكون تلك الهوية إلا هوية متعددة مفتوحة تتشكل في المستقبل المشترك للإنسانية وهي في أقصى درجات وعيها بالواجب وبالحقوق المافوق وتحت الإنسان، وذلك هو قدر الهوية الأمازيغية.