غياب الدولة عند الأمازيغ وأثره على اللغة والهوية

محمد بودهان

في أن جود الدولة شرط لوجود حضارة متقدّمة:

إذا كانت كل القرائن تؤكّد أن المستوى الحضاري للشعب الأمازيغي، في التاريخ القديم، كان متقدّما بالمقارنة مع شعوب بإفريقيا وأمريكا وأستراليا مثلا، كانت معاصرة له، فإن المقارنة بشعوب أخرى كانت معاصرة هي أيضا للأمازيغيين، كالمصريين والفينيقيين والإغريق والرومان والفرس والصين واليابان…، تُبرز أن هذا المستوى الحضاري للأمازيغيين كان متواضعا ودون المستوى الذي بلغته هذه الشعوب.

لماذا لم يستطع الأمازيغ، وهم من أقدم وأعرق الشعوب، أن يُنتجوا حضارة في مستوى الحضارة الفرعونية أو الصينية أو الإغريقية أو الرومانية أو الفارسية…؟

لسبب بسيط وهو أنهم لم يستطيعوا إنشاء دولة ذات استمرارية تاريخية ـ وليس شبه دولة مؤقتة وزائلة كتلك الممالك الظرفية التي كانت تستدعيها ضرورة المقاومة لصد الغازي المحتل ـ، يُفترض أن تكون، منذ قيامها، حاضرة عبر كل المراحل التاريخية للأمازيغيين، كما نجد عند الشعوب التي أشرنا إليها، والتي كانت متقدمة حضاريا عن الأمازيغ، كما كتبنا.

لماذا الدولة؟ وما علاقتها بالتقدّم الحضاري؟

شعب بلا دولة ذات استمرارية تاريخية، كما كان الشعب الأمازيغي وشعوب أخرى، يستطيع فقط إنتاج ثقافة شفوية ذات إشعاع محلي محدود، تشمل العادات والمعتقدات والأعراف، مع تنظيم اجتماعي وسياسي بسيط لا يتجاوز مستوى التنظيم القبلي. في حين أن الحضارة، بغض النظر عن النقاش شبه الأبدي حول الفرق بين الثقافة والحضارة، هي أكثر تعقيدا من الثقافة، وأشمل وأوسع منها لأن الثقافة هي جزء فقط من الحضارة. وهو ما ينتج عنه أن المجتمع، ذا المستوى الحضاري المتقدم، هو أكثر تعقيدا في تنظيمه الاجتماعي والسياسي. وهذا غالبا ما يرجع إلى وجود نظام للدولة، لكونها هي نفسها تجسيدا لتنظيم اجتماعي وسياسي أكثر تعقيدا، يتجاوز بساطة التنظيم القبلي، وذلك لأن الدولة هي تنظيم اجتماعي أعقد وأرقى من التنظيم القبلي، حتى عندما تكون هذه الدولة ذات طبيعة قبلية يقوم الحكم فيها على الروابط القبلية.

ولهذا أوضّح أن المقصود بالدولة (وهو ما لا يختلف إلا في الظاهر عن أركانها الثلاثة المعروفة: الأرض والشعب والسلطة)، بخصوص هذا الموضوع، ولا سيما أن الأمر يتعلق بالتاريخ القديم، هو كل سلطة سياسية مركزية (حاكم واحد أو هيئة واحدة للحكم) تتوفر على قوة نِظامية (جيش، حرس، شرطة…) للردع والأمر والنهي، والإكراه والتحكّم…، بغض النظر عن طبيعة هذه القوة، كأن تتشكّل من مرتزقة أو قطاع طرق أو عصابة من المجرمين أو من أفراد ينتمون جميعهم إلى عشيرة حاكم هذه الدولة…، وبغض النظر كذلك عن كون هذه الدولة بدائية، أو قبلية، أو استبدادية، أو تيوقراطية، أو شخصانية مرتبطة بشخص حاكمها… لأن العبرة ليست بطبيعة هذه القوة، ولا بطبيعة هذه الدولة، وإنما العبرة بتوفر هذه الدولة على هذه القوة، وبحق استعمالها للردع والأمر والنهي، والإكراه والتحكّم… ومن هنا لا يجب الخلط بين تنظيم اجتماعي قبلي وبين دولة ذات طبيعة قبلية. فالفرق أن الأول ـ وحتى عندما يقوم، كما كان ذلك هو الطابع الغالب للقبيلة الأمازيغية، على وحدة المجال وليس فقط على وحدة الدم والقرابة ـ يفتقر إلى تلك القوة النظامية للردع والأمر والنهي والإكراه والتحكّم، بينما الثانية تملك هذه القوة وتملك بالتالي الحق في استعمالها، بالرغم من أنها دولة تقوم على وحدة الدم والقرابة أكثر من وحدة المجال والأرض. ولهذا، مهما بلغ تنظيم اجتماعي قبلي من تطوّر، فإنه يبقى دائما أقل تعقيدا من دولة بسيطة وبدائية وذات طبيعة قبلية.

علاقة الدولة بالاستعمال الكتابي للغة:

لكن إذا كانت الدولة عنصرا مهما، بل ضروريا، للتقدّم الحضاري، فليس فقط:

ـ لأنها قادرة، افتراضا، على حماية الجماعة المنضوية تحت لوائها، والدفاع عن أرضها بفضل ما تتوفر عليه من قوة نظامية،

ـ ولأن في ظلها، باعتبارها تحكم كل تلك الجماعة التي تخضع لسلطتها، تتحقق شروط تعاون جماعي أفضل للإنتاج الاقتصادي، ولاتساع المبادلات التجارية، ولتطوير الصنائع الحرفية، مهما كان كل ذلك بسيطا وبدائيا ومحدودا،

ـ ولأنها، بفضل ما تتوفر عليه من إمكانات يتيحها ما تجمعه من خَراج وضرائب، تكون قادرة على إنجاز مشاريع عمرانية كبرى، كأهرام مصر أو سور الصين مثلا، تعبّر عن مظاهر التقدم الحضاري…

 

بل لأن الدولة عامل أساسي وضروري ـ حتى لا نقول إنها شرط واقف ـ لظهور الكتابة وانتشار استعمالها. فإذا كانت هناك عوامل عديدة تفسّر نشأة الكتابة واستعمالها، فإن وجود نظام الدولة كان عنصرا حاسما في هذه النشأة والاستعمال. لماذا؟ لأن حاجة الدولة إلى الاستعمال الكتابي للغة كانت أكبر وأقوى من حاجة العلاقات الاجتماعية، والمبادلات التجارية، والمعتقدات الدينية إليها. لماذا كانت حاجة الدولة إلى ذلك أكبر وأقوى؟

فبحكم أن الدولة ذات سلطة مركزية، وبحكم أن من طبيعتها أن تعمل على توسيع سلطتها إلى أقصى منطقة يمكن أن تُخضعها لهذه السلطة، فإن ذلك يستتبع أن عليها أن توصل قراراتها وأوامرها، كحكم مركزي، إلى هذه المناطق الخاضعة لها، والتي قد تكون نائية عن مقر السلطة المركزية (العاصمة). وقد كان النقلُ الشفوي هو الوسيلة الوحيدة، قبل الكتابة، لإيصال تلك القرارات والأوامر من المركز إلى الأطراف البعيدة. وهي وسيلة لم تكن هي الأمثل والأفضل والأنسب، بسبب ما كان من الممكن أن يطرأ من تحريف وتغيير على قرارات وأوامر الدولة المبلّغة شفويا، إما بسبب النسيان أو بسبب انتقالها عبر أكثر من شخص واحد إلى أن تصل إلى الشخص الأخير، الموجّهة إليه قصد تطبيقها كممثّل للسلطة المركزية في المنطقة المعنية. كما أن التبليغ الشفوي لم يكن يشكّل حجة ثابتة ومضمونة، يمكن الاحتجاج بها من طرف من له المصلحة في ذلك، سواء كانت الدولة نفسها أو أشخاص لهم علاقة بالموضوع. يضاف إلى ذلك أن الاعتماد على الأسلوب الشفوي وحده لم يعد كافيا ولا مناسبا لضبط مداخيل الدولة ونفقاتها، مع ما يستلزم ذلك من ضبط وإحصاء للملزمين بأداء الضرائب (خَراج عيني في بداية ظهور الدولة)، ومقاديرها وتواريخها. ومن هنا كانت الحاجة ماسّة إلى التدوين والتسجيل بشكل يسمح بالرجوع إلى تلك المعطيات كلما تتطلّب الأمر ذلك. وهذه الحاجة الماسّة للدولة إلى التدوين والكتابة هي التي تفسّر العلاقة السببية بين الدولة وظهور الاستعمال الكتابي للغة. وتجدر الإشارة إلى أن عدم معرفة الناس بالقراءة والكتابة لا أهمية ولا تأثير له، بخصوص دور الدولة في ظهور واستعمال الكتابة، لأن المعنيين بقراءة وفهم الأوامر والقرارات المكتوبة للدولة، هم المكلّفون بتطبيقها من ولاة وعمال ممثلين للسلطة المركزية، والذين يُفترض أنهم كانوا ذوي معرفة بالقراءة والكتابة، والتي هي من شروط اختيارهم لتلك المهام.

ولهذا إذا كانت العديد من الشعوب القديمة، مثل الشعب الأمازيغي نفسه، قد اخترعت، قبل أن تعرف نظام الدولة، حروفا للكتابة، سواء كرسوم ترمز إلى كلمات أو أفكار idéogrammes، أو كأبجدية تتكون من حروف تمثّل أصوات اللغة المنطوقة، إلا أنها لم تستعملها للتدوين والكتابة، ونقل الأخبار والمعلومات، والإنتاج الثقافي والفكري الكتابي. لأن شروط هذا الاستعمال لم تكن متوفرّة بعدُ. وأول هذه الشروط هو وجود دولة، وحاجتها الملحّة إلى مثل هذا الاستعمال، كما شرحت.

الخلاصة أن الدولة إذا كانت عاملا للتقدم الحضاري، فلأن في ظلها تطوّر الاستعمال الكتابي للغة، مع ما يتيحه ذلك من تراكم فكري ومعرفي، وسهولة تداوله وانتقاله ونتشاره، وهو ما يوفّر شروطا أنسب وأفضل للتقدم الحضاري.

الأمازيغ بين دولة “البرّاح” ودولة الكتابة:

بناء على ما شرحناه من وجود علاقة سببية بين ظهور الدولة وحاجتها إلى الاستعمال الكتابي للغة، سيكون الجواب عن السؤال الخاص بغياب الكتابة والتدوين عند الأمازيغ واضحا: غابت الكتابة والتدوين عند الأمازيغ لغياب نظام الدولة، بمفهوم الاستمرارية التاريخية، كما سبقت الإشارة. لأن التنظيم الاجتماعي والسياسي القبلي، عكس التنظيم القائم على الدولة، لا يحتاج، وحتى عندما يكون على شكل فيديرالية من القبائل، إلى الكتابة لتبليغ أوامر وقرارات مجلس القبيلة إلى أعضاء هذه القبيلة أو الوحدات المنتمية إليها. فالاستعمال الشفوي وسيلة كافية ومناسبة، عكس ما رأينا بخصوص الدولة، لإيصال تلك الأوامر والقرارات إلى مختلف المعنيين بها، نظرا لصغر المجال الجغرافي الذي تشغله القبيلة، حيث يكون التواصل المباشر بين أعضاء القبيلة ووحداتها ممكنا ومتاحا. ولهذا كان يكفي تكليف “منادٍ” للقيام بهذا التبليغ أيام السوق الأسبوعي أو بعد صلاة الجمعة، حتى أن مهمة القيام بهذا التبليغ عبر “النداء” كانت عبارة عن “مهنة” معروفة، يُختار لها ذوو القامة الطويلة والصوت الجوهري، المجيدون للنطق بشكل واضح ومفهوم. إنها “مهنة” “أبرّاح” abarrap، الذي هو اسم فاعل من فعل “بارّح” barrp، أي “نادِ” بالأمازيغية. وهي كلمة شائعة الاستعمال بأمازيغية الشمال. ولا يبدو أنها ذات أصول أجنبية. وتٌنطق “البرّاح” في الدارجة. وقد استمر اللجوء إلى خدمات “البراح” حتى بعد الاستقلال ببضع سنوات، وخصوصا في القرى والبوادي، كما يتذكّر ذلك جيدا كاتب هذه السطور.

إذن عن السؤال: لماذا لم يستطع الأمازيغ استعمال أبجديتهم “تيفيناغ” للكتابة والتدوين والإنتاج الثقافي والأدبي، كما نجد مثلا عن الصينيين واليابانيين والإغريق والرومان…؟ الجواب هو أنهم لم يكونوا في حاجة إلى ذلك، لأن التنظيم القبلي يكتفي، لـ”نشر” قرارات مجلس القبيلة، بالتبليغ الشفوي عبر خدمات “البرّاح”، عكس نظام الدولة كما سبق أن شرحتا. فالأصل إذن في غياب الكتابة والتدوين عند الأمازيغ هو غياب الدولة، كما سبقت الإشارة. لقد اكتفوا بدولة “البرّاح”، التي لا تستدعي قيام دولة الكتابة.

علاقة الكتابة بالتقدّم الحضاري:

 

وهنا نصل إلى بيت القصيد، وهو فهم لماذا ظل مستوى التقدّم الحضاري للأمازيغ متواضعا ودون المستوى الذي بلغته تلك الشعوب التي استشهدنا بها. السبب هو غياب الكتابة وما ينتج عن استعمالها من إنتاج ثقافي وتراكم فكري ومعرفي، مع ما يخلقه ذلك من شروط أنسب، كما سبق أن قلت، لمستوى حضاري متقدّم مقارنة مع المجتمعات التي بقيت “شفوية” ولم تنتقل بعدُ إلى مرحلة الكتابة والتدوين.

ولهذا إذا كان الأمازيغ قد تفوّقوا على الكثير من الشعوب المعاصرة لهم، كما سبقت الإشارة، إلا أن غياب الدولة لديهم، جعل أهم مقوّمات الحضارة والتقدّم غائبة ومفقودة عندهم، ألا وهي الكتابة، التي هي مفتاح الدخول إلى التاريخ، وتملّكه والانتماء إليه. فالشعب الذي لا يكتب لا تاريخ له، لأنه لم يدوّن بعدُ تاريخه حتى يتذكّره ويعيَه كتاريخ.

الإنتاج الكتابي، الفكري والثقافي، ضروري إذن لكل حضارة وتقدّم. لكن غياب الكتابة لغياب الدولة، كما شرحت، جعل المستوى الحضاري للأمازيغ يقف عند المستوى الأدنى، مستوى ما قبل الكتابة.

غياب الكتابة لغياب الدولة بدايةٌ لتغييب الهوية:

شعب بلا دولة هو شعب بلا دفاع ولا حماية، لأنه بلا قوة نظامية ـ وليس فقط تطوّعية ـ تحميه من عدوان شعب آخر، له دولة وقوة نظامية يتوقف وجودها على وجود دولة. ولهذا فمن غير المناسب التبجّح، كما يردّد ذلك بعض النشطاء الأمازيغيين، أن الشعب الأمازيغي لم يسبق له أن غزا شعوبا أخرى واحتل بلدانها. طبعا لم يسبق له أن غزا واحتل، لأنه لم يكن يملك الوسائل الضرورية لذلك، وهي الدولة أولا، ثم ما تستلزمه من جيش نظامي قد تستعمله في العدوان على الشعوب الأخرى واحتلال أراضيها. فعدم احتلال الأمازيغ لأراضي الشعوب الأخرى، لم يكن إذن قرارا اختياريا بعد توفر الشروط الضرورية لذلك (دولة وجيش)، حتى يصحّ التذكير به على سبيل التبجّح والافتخار، وإنما هو موقف اضطراري لغياب شروط الاحتلال، وهي الدولة وما يلازمها من قوة نظامية على شكل جيش. لكن غياب هذه الدولة لدى الأمازيغ هو الذي يفسّر أن شعوبا أخرى كان يسهل عليها احتلال أرضهم، رغم كل المقاومة البطولية التي كانوا يواجهون بها هذا الاحتلال، لأن وراء هذا الاحتلال قوة نظامية ـ وليست فقط تطوعية كما كان المقاتلون الأمازيغيون المدافعون عن حرمة أرضهم ـ على شكل جيش تشرف عليه وترعاه دولة منظّمة، كيفما كانت طبيعتها ومستوى تطوّرها، كما سبق أن شرحت.

وفضلا عن سهولة تعرّض الأرض الأمازيغية، بسبب غياب الدولة، للاحتلال الأجنبي من طرف شعوب تملك دولا وجيوشا، فإن من نتائج هذا الغياب كذلك سهولة تعرّض الجانب اللغوي للهوية الأمازيغية “للاحتلال” الأجنبي أيضا، وذلك عندما يتبنّى الأمازيغي، لأسباب دينية وثقافية ولغوية وسياسية…، وعملا بمبدأ المغلوب يقلّد الغالب، لغةَ المحتل الأجنبي ليستعملها في الكتابة والتدوين، مُعرضا عن تطوير لغته والارتقاء بها إلى مستوى لغة كتابية، لأنه لم يعد يحتاج إلى ذلك بعد أن أصبح يكتب بلغة أخرى أجنبية. بل قد ينتحل هذا الأمازيغي حتى الانتماء إلى ذلك الشعب الأجنبي صاحب تلك اللغة الأجنبية، ويتنكّر تماما لهويته الأمازيغية كلها، وليس فقط لعنصر اللغة، فيغدو متحوّلا جنسيا، لتخلّيه عن جنسه الأمازيغي واعتناقه لجنس أجنبي، كما حدث مع الأمازيغ المتحولين جنسيا ـ أي قوميا وهوياتيا ـ بالمغرب، والذين يتحدثون الدارجة ويرفضون الاعتراف بانتمائهم الأمازيغي الأصلي والطبيعي، وحقيقةَ كون الدارجة لغة أنتجها الأمازيغ من أجل إنجاح عملية تحوّلهم الجنسي، دائما بالدلالة العربية الأصلية للفظ “جنسي”، والتي تعني القومي والهوياتي.

فقدان الهوية هو فقدان للكرامة الجماعية:

فأخطر ما يهدّد شعبا لا يملك الكتابة ـ وليس الأبجدية ـ، بسبب عدم امتلاكه دولة، كما شرحنا، هو أن يفقد كرامته الجماعية التي تمثّلها هويته الجماعية المستمدّة من أرضه وموطنه. وبداية فقدان هذه الكرامة الجماعية تتجلى في تبنّي لغات الأخرين، ليس لأنها قد تكون لغات دين وكتابة وثقافة وعلم وحضارة، وهو شيء طبيعي وشائع جدا، وإنما عندما يكون الدافع إلى هذا التبنّي هو الرغبة في التحوّل الجنسي، القومي والهوياتي، إلى جنس الشعب الأجنبي صاحب تلك اللغة الأجنبية، كما وقع للمغاربة الذين يعتقدون أنهم عرب، فقط لأنهم يتحدثون الدارجة التي صنعها أجدادهم الأمازيغ، وليس العرب، حتى يُقنعوا أنفسهم أنهم فعلا عرب، ولم يبقوا أمازيغيين (انظر موضوع: “متى يكتشف المغاربة لغتهم الدارجة؟” ضمن كتاب: “في العربية والدارجة والتحوّل الجنسي الهوياتي”، المتوفر على الرابط: http://tawiza.byethost10.com/livre1.pdf).

فإذا كان غياب جيش نظامي ـ بسبب غياب الدولة ـ يحميهم من أي عدوان خارجي محتمل، قد جعل الأمازيغيين عرضة سهلة للغزو والاحتلال من طرف شعوب أخرى كانت لها دول وجيوش، كما سبقت الإشارة، إلا أن غزو الهوية واللغة، نتيجة غياب الدولة والكتابة، كانت له نتائج أخطر من غزو الأرض. فالدولة تشكّل، عندما تكون موجودة وقائمة ـ ومهما كانت بدائية أو متطورة، متقدمة أو متخلفة، دينية أو علمانية، ديموقراطية أو استبدادية ـ، حماية للهوية باعتبارها هي الكيان الجامع لهذه الهوية والممثّل لها، وخصوصا في زمن لم تكن فيه “الجنسية” موجودة بعدُ كانتماء فردي إلى دولة وطنية قُطرية، إذ كان الانتماء الوحيد هو الانتماء الجماعي إلى الدولة، لأن هذه الدولة تجسّد الموطن والشعب اللذيْن تقوم عليهما وتنبع منهما الهوية الجماعية لشعب تلك الدولة. فبدون دولة، ليست هناك حماية للموطن ولا للشعب، مما يجعل الهوية هي أيضا بلا حماية. وإذا لم تكن هناك حماية للهوية الجماعية، فلن تكون هناك حماية للكرامة الجماعية، والتي يعبّر عنها التمسّك بتلك الهوية الجماعية والاعتزاز بالانتماء إليها. فالشعب الذي يتخلّى عن هويته فهو يتخلّى في الحقيقة عن كرامته الجماعية، لأنه يصبح كمن يجهل من أنجبه فيبحث، كما يفعل المغاربة الذين يعتقدون أنهم عرب، عن شعب أجنبي يتبّاه ويقبل انتسابه إليه، ليبقى دائما تابعا هوياتيا لهذا الشعب الأجنبي، فاقدا لكل سيادة واستقلال على مستوى انتمائه الهوياتي. وهو ما يعني في النهاية فقدانه لكرامته الجماعية التي ترمز إليها هذه السيادة وهذا الاستقلال.

نلاحظ أن التسلسل السببي الذي أفضى إلى فقدان جزء من الأمازيغيين لكرامتهم الجماعية التي تمثّلها هويتهم الأمازيغية، وذلك عندما تنكّروا لانتمائهم الأمازيغي، الأصلي والطبيعي، وانتحلوا انتماء عربيا زائفا وكاذبا، بدأ من غياب الدولة الأمازيغية، الذي أدى إلى غياب الكتابة لعدم الحاجة إليها في ظل نظام قبلي، وهو ما أدى في الأخير إلى فقدان الهوية الأمازيغية وانتحال هوية أجنبية.

الدولة الأمازيغية تتحوّل إلى دولة عربية:

أسوأ ما يمكن أن يحصل لشعب ما، نتيجة لهذا التسلسل السببي لقدان الهوية، هو أن يبحث عن “نسب شريف”، كاذب وزائف وخرافي، خارج نسبه الأشرف، الحقيقي والأصلي، كما حدث للأمازيغيين المدّعين لخرافة “النسب الشريف” بالمغرب، الذين باعوا شرف انتمائهم الأمازيغي بأكذوبة انتمائهم إلى شرف خرافي ووهمي. والأسوأ، أكثر، عند هؤلاء الأمازيغيين الذين انتحلوا الانتماء إلى الشعب الأجنبي صاحب اللغة الأجنبية التي أصبحوا يستعملونها في الكتابة، بسبب غياب الدولة الأمازيغية وما نتج عنها من غياب للكتابة، كما شرحنا، (الأسوأ) أنهم عندما أنشأوا دولتهم التي هي بديهيا دولة أمازيغية، نسبوها هي أيضا إلى هوية الشعب الأجنبي صاحب اللغة التي يكتبون بها. هكذا أصبحت دولة المغرب دولة عربية وجزءا من الوطن الخرافي المسمّى العربي. فخرافة “النسب الشريف”، التي هي أصلا خرافة فردية، تحوّلت إلى خرافة جماعية تمثّلها وترعاها دولة خرافية، هي دولة المغرب العربي الخرافي. لكن هذا الواقع الخرافي أنتج واقعا حقيقيا، وهو تهميش الأمازيغية وتحقيرها من طرف أهلها الذين عقّوها وانصرفوا عنها لخدمة لغات وهويات أجنبية.

وهذا ما يفسّر أن الأمازيغيين الذين تمكّنوا، مثل الأدارسة والمرابطين والموحدين والمرينيين والعلويين…، من إقامة دولة في الفترة الإسلامية، لم يستعملوها، كما كان مفترضا، لتعزيز هويتهم الأمازيغية والانتقال بلغتهم من الاستعمال الشفوي إلى مستوى الاستعمال الكتابي لفرضها كلغة للسلطة والدولة، كما فعل الفرس والأتراك مثلا، بل استعملوها لتعزيز اللغة الأجنبية والتمكين لها، وهو ما جعلهم يتعاملون مع دولتهم الأمازيغية كما لو كانت دولة عربية لتبنّيهم اللغة العربية لغة للكتابة والتدوين. بل لم يستطيعوا أن يفعلوا، ليس مثل الفرس والأتراك، وإنما فقط مثل العديد من الشعوب التي تبنّت هي أيضا لغات أجنبية تستعملها للكتابة والتدوين بدل لغاتها المحلية، كالمكسيك والسنيغال وجنوب إفريقيا…، إلا أنها استعملت دولها، التي اتخذت اللغة الأجنبية لغة رسمية لها، لتعزيز هويتها والاعتزاز بها والدفاع عنها كهوية قائمة بذاتها ومستقلة عن هوية الشعب الأجنبي الذي تبنّت، لأسباب تاريخية وسياسية وثقافية ودينية…، لغته التي تستعملها كلغة للدولة، وللكتابة والتدوين.

ما نستخلصه إذن من تاريخ الأمازيغيين، هو أنهم لا يستطيعون إقامة دولة ذات استمرارية تاريخية إلا إذا كان ذلك على حساب هويتهم ولغتهم. ولهذا نلاحظ أن كل الدول الأمازيغية، التي تعاقبت على الحكم بشمال إفريقيا بعد معركة “الأشراف” سنة 740 ميلادية، والتي وضعت حدّا نهائيا للوجود السياسي والعسكري (وليس الوجود الديني واللغوي) العربي ببلاد الأمازيغ، لم تبذل أي مجهود من أجل ترقية اللغة الأمازيغية واستعمالها الكتابي بفضل وجود الدولة، كما سبق أن شرحنا. بل استعملت هذه الدولُ سلطاتِها لتهميش لغتها الأمازيغية وإضعاف انتمائها الأمازيغي بسبب استعمالها للغة العربية، وتبنّي، في الأخير، الهوية العربية الزائفة كتحوّل جنسي، قومي وهوياتي، بشكل يكاد يكون فريدا في التاريخ.

الحركة الأمازيغية تكرّر نفس أخطاء الأمازيغ السابقين:

شكّل غياب الدولة، ذات الامتداد التاريخي، قدَرا لازم الأمازيغ طيلة تاريخهم الطويل. وهذا الغياب هو الذي أدّى إلى غياب كل شيء تقريبا، وخصوصا، كما شرحنا، غياب الكتابة التي هي شرط للتقدّم الحضاري، ومفتاح الدخول إلى التاريخ وحجز مقعد داخله، كما سبقت الإشارة. وهذا ما جعلهم يبقون على هامش هذا التاريخ، كموضوع سلبي له وليس كذوات فاعلة فيه. اقتنعوا واكتفوا بأنظمتهم القبلية ولم يطوّروها إلى نظام للدولة. وعندما أدّى التطور التاريخي إلى إقامتهم لمثل هذه الدولة، تعاملوا معها كدولة ذات هوية غير أمازيغية، كما سبق أن شرحنا.

وها هي الحركة الامازيغية تسكت عن مسألة الدولة الأمازيغية كما لو كانت شيئا غير ذي أهمية، مكررة نفس أخطاء الأمازيغ السابقين الذين عاشوا طيلة تاريخهم بلا دولة أمازيغية ذات استمرارية تاريخية، مكتفين بـ”دولة البرّاح” التي لا تحتاج إلى الكتابة، التي يستدعيها وجود الدولة، والتي هي ضرورية للتراكم الفكري والحضاري والثقافي، كما سبق القول. وإذا كان من الجائز أن نلتمس لأجدادنا الأوائل، بالنظر إلى طبيعة ومستوى وعيهم السياسي، عذرا لعدم إقامتهم لدولة ذات استمرارية تاريخية، فهذا العذر غير مسموح به بالنسبة لنا اليوم، نحن مناضلي الحركة الأمازيغية، لتبرير غياب مسألة الدولة الأمازيغية لدى هذه الحركة، التي لا زالت تتبنّى موقف الأجداد بخصوص موضوع الدولة، التي تعاملوا معها، بعد أن أقاموها، كدولة تنتسب في هويتها إلى أصحاب اللغة التي يستعملونها في الكتابة.

إنه موقف نشاز وغريب أن ينسب شعبٌ دولتَه إلى هوية أجنبية عن هويته هو، صاحب تلك الدولة، جاعلا من نفسه مجرد “أجنبي” داخل تلك الدولة، التي هي دولته. هذا ما نكرّره، نحن نشطاء الحركة الأمازيغية، عندما نعتبر الدولة المغربية دولة عربية ـ وحتى دون أن يكون هناك مقتضى دستوري يؤكد ذلك عكس الدساتير السابقة عن دستور 2011 ـ، فنطالبها أن تعترف لنا بحقوقنا كأمازيغ نختلف في هويتنا عن الهوية “العربية” لهذه الدولة. وحتى نؤكد لهذه الدولة أنها ذات هوية أجنبية عن هويتنا، اختلقنا خرافة “الشعب الأصلي”، مثبتين بذلك أننا، أولا، لم نفهم المقصود الحقيقي بمفهوم “الشعب الأصلي”، كما حدّده المجلس الاجتماعي والاقتصادي التابع للأمم المتحدة (انظر موضوع: «لماذا لا يجوز تصنيف الأمازيغيين ضمن الشعوب “الأصلية”؟» بكتاب: “في الأمازيغية والنزعة الأمازيغوفوبية”)، وأننا نريد، ثانيا، أن يسري علينا ما يسري على شعوب أصلية فعلا مثل “الإسكيمو” والهنود الحمر والسكان الأولين لأستراليا… وهو ما أوصل اليوم مطالب الحركة الأمازيغية إلى مأزق حقيقي تسبّبت فيه هي نفسها عندما تطالب الدولة بالاعتراف بالأمازيغ كشعب أصلي. من مظاهر هذا المأزق أن هذه الدولة، “العربية” كما أرادتها هذه الحركة، عندما تتعامل مع الأمازيغيين كأقلية عرقية وإثنية تطالب بالاعتراف بحقوقها اللسنية والثقافية والهوياتية، كما يطالب بها أبوريجين أستراليا وهنود أمريكا وشعب الإسكيمو، تثور هذه الحركة وتتهم هذه الدولة بالعنصرية ومعاداة الأمازيغية.

هذا الموقف يكشف عن غياب التفكير الاستراتيجي لدى هذه الحركة الأمازيغية، كما كان غائبا عند الأمازيغ الأوائل. ولهذا فهي تطالب بتحقيق مطالب جزئية وفرعية، وتسكت عن المطلب الأصلي والاستراتيجي الذي هو الدولة الأمازيغية، بالمفهوم الترابي والهوياتي، وليس العرقي. كما يكشف عن تناقض في موقفها عندما تردّد أن القضية الأمازيغية هي قضية سياسية في عمقها وطبيعتها، دون أن تعمل شيئا من أجل إقامة الدولة الأمازيغية، مع أن العمق السياسي للأمازيغية هو جانبها المرتبط بالدولة. ولهذا إذا كان ترسيم الأمازيغية تحوّل إلى شبه سراب كلما اقتربنا منه ابتعد ونأى، فذلك لأن الدولة تتصرف كدولة “عربية”، من غير المعقول أن تكون لغتها الرسمية أمازيغية. وهذا ما يجعل كل دفاع عن الأمازيغية من أجل أن تكون لغة رسمية حقيقية للدولة، وليس لغة رسمية صوريا وديكوريا فقط، خارجَ الدفاع عن قيام دولة أمازيغية تحمي وتحتضن هذه اللغة، هو عمل غير مجدٍ وغير منتج، بل هو خروج عن الموضوع ومضيعة للوقت.

ولا يعني أن مجرد مطالبة الحركة الأمازيغية باستعادة الدولة لهويتها الأمازيغية الحقيقية، التي تستمدها من موطنها الأمازيغي بشمال إفريقيا، سيتحول المغرب إلى دولة أمازيغية، بهذا المعنى الترابي الهوياتي. وإنما المطلوب من هذه الحركة، وبشكل يصبح معه ذلك جزءا بارزا في خطابها وأدبياتها، هو أن تضع ضمن أولوياتها وعلى رأس مطالبها الدفاع عن دولة أمازيغية بالمفهوم الترابي، أي الدولة التي تستمد هويتها من هوية موطنها، كما شرحت. وهذا يتطلب من هذه الحركة إعادة النظر في استراتيجيتها وأولوياتها وخطابها، الذي لا زال مفهوم الدولة الأمازيغية ينتمي إلى “اللامفكّر فيه” داخل هذا الخطاب، مع العمل على نشر الوعي بالهوية الأمازيغية للدولة المغربية، وتبيان أنها دولة تنتحل الصفة وتعيش بسبب ذلك الزيف والازدواجية والتناقض (تناقض بين هوية موطنها الأمازيغي وانتمائها العربي المزعوم)، وأن عودتها إلى أمازيغيتها هي عودة إلى هويتها الحقيقية غير المنتحلة، وقطع مع مظاهر الزيف والازدواجية والتناقض.

اقرأ أيضا

التناص في الأدب الأمازيغي نماذج مختارة من الشفاهية ومن رواية أضيل ن إسردان ل عمر بوعديدي

 تمت مناقشة أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في الأدب الأمازيغي بكلية الاداب والعلوم الانسانية جامعة سيدي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *