لم تكن الخسائر في الأرواح البشرية هو الجانب الأوحد لكارثة فيروس كورونا المستجد، بل خسرت الإنسانية صورة حول نفسها تم تشكيلها طيلة ثلاثة قرون تقريبا بخيلاء شديد. صورة من ثلاث أبعاد على الأقل:
البعد الأول، ربطت فيه الانسانية تطور التقانة la technicité بالقوة، وهي قوة منبنية على تملك الموارد (صراعات الطاقة) وتملك الإنسان للانسان (الاستعمار والتحالف الإجباري). ولا تستقيم هذه القوة بالتشارك le partage بل بالتفرد والحصرية l’exclusivité هذه الحصرية التي تحولت لهدف أسمى للحرية (لكل فرد حق الوصول للحصرية في التمتع بالقوة).. وهو المبدأ الذي أفضى لتهافت الانظمة وتسابقها نحو التسلح (آلة القوة)
البعد الثاني، ربطت فيه الانسانية قيمة العيش المشترك بالتبادل المادي المتوازن (من حيث قيم المنقولات) بحيث تحولت البيئة المشتركة إلى مجال يمكن اشتراؤه وامتلاكه وبيعه وتبادله بشكل حصري.. فغذت بحيرات وغابات وجزر و ارصدة عقارية في يد مجموعات بشرية حولتها لمعطيات مادية تصنع بها القوة وتربح منها النفوذ. فضاع العمق البيئي واندثر بعد “الطبيعة” للإنسان. وللذكر، فإن للإنسان – لغاية القرن ١٩- بعدان اساسيان هما الطبيعة (مجال الانتماء) والثقافة (مجال الابتكار).. فأصبح الإنسان مبتكرا بدون انتماء… كآلة
لا اقصد بالانتماء هنا، الانتماء للاشياء والأشخاص (ارض، عائلة، دولة، مؤسسة…) بل الانتماء لقيمها: الانتماء لقيمة الأرض كارضية هوية وطموح، والانتماء للعائلة كقاعدة تجاوز base de dépassement لبلوغ الآخر، والانتماء للوطن كمجال حيوي لتحقيق الذات، والانتماء للدولة كفضاء للابتكار والإنتاج…
البعد الثالث، ربطت فيه الانسانية الإنسان بتحقيق الكم الهائل من مبتكرات التقانة وتم تهديد كيانه بوجود منافس شرس له ألا وهو الروبوت الآلي robot (نموذج مثالي للابتكار بدون انتماء). وتم توهيم الإنسان بأن أسمى درجات الذكاء واسمى درجات الانسانية هي حين يتمكن من إنجاز أعقد الحسابات، وتخطيط أعقد الهندسات الحسابية، وصنع اسرع المعدات، وابتكار أعقد الحلول التقنية… فشيدت المدارس والجامعات ومعاهد التكوين على هذا الباراديغم التقني او التقناوي techniciste… وكل هذه الكفايات في محصلتها المعرفية هي كفايات روبوتيكية سيبرنطيقية، أصبح الروبوت طوطما totem يرمز لألوهية الاكتمال وعدم الخطء والخطيئة. وتقزم البعد الإنساني للانسان “الطبيعي” أمام هذا الإنسان الجديد، الإنسان المهندس الرياضي التقني فائق الذكاء.. الذي يحصل على معدل 140 في سلم الذكاء.. كما لو ان الذكاء مصطلح في صيغة مفرد مذكر!
جميل أن يحاكي الإنسان الروبوت، ولكن على الإنسان قبل أن يؤدي اجر الروبوت، عليه أن يفكر في أجور ملايين البشر الذين هزمتهم الآلة والاخطر هو أن يفكر في خلق مجال آلي 3D يمنح للعاطلين المتعة والانشغال والاستمناء وليبيدو مزيف… وهو ما حدث بالضبط عندما تفتق ذكاء الانسانية في سبيل واحد هو إبداع مخارج للرفاه الجماعي بغية تعويض عطالة الإنسان التي تسببت فيها التقانة الربوتية: ملاهي متاحة، مباريات كرة، تظاهرات، اشتراكات مجانية للعب الإلكتروني، ربما انترنت مجاني، ومجتمع إنساني اصطناعي مجاني (فيسبوك، تويتر…).. خلاصة كل ذلك، هو محاولة تعويض عطالة الإنسان (القمعية) باشتراكية communisme تقنية تعويضية لعبية ludique تعوض الوقت ولا تستطيع تعويض الزمن… تعوض الفرد ولا تعوض الانسان
ماذا حدث واستجد مع هذا الوباء المسمى كوفيد-١٩؟
اول الأشياء التي حدثت لهذا الباراديغم القديم (الرأسمالي التقني التجاري) هي الصدمة. لأنه انسان مادي اعتاد على تصنيع “أزمات وبائية واقتصادية” متحكم فيها لزيادة قوته واستمراره، فوجد نفسه في وضعية إنكار باثولوجي جذري négation pathologique لكل امكانية خروج فرانك اينشتاين من المختبر.. فرأينا اكثر الانظمة ذكاء تتحول إلى اكثر الانظمة غباء حيال هذه الطفرة الكوبرنيكية، وهو نفس الموقف الذي أخذه الاكليروس القروسطي حيال فرضية كروية الأرض التي راح ضحيتها جاليللي.. اليوم راح مئات آلاف الناس ضحايا لهذه التعجرف الكنائسي العقائدي المتعجرف ،لا لشيء سوى لانه تم الاعتقاد أنه من المستحيل ان يطرأ فيروس قاتل يضع هذه “الكنيسة الرأسمالية” على محك الاندحار.
ثاني الأشياء هو انحلال ادلوجة “الغرب” كصرح متجانس منيع.. فتعرت فكرة التكتلات والتحالفات لأنها كانت مبنية على فردانيات لم يكن يجمعها سوى الحصاد المشترك للربح.. وحيث لا ربح اليوم، لا حياة مشتركة. الغرب أعطى دروسا أخلاقية طيلة ٣ قرون انكشفت اليوم مغالطاتها: اقتصاد السوق ليس مشترك (الأسواق المشتركة الزائفة) بل هو اقتصاد توحدي autiste لا يعترف بالتضامن الاقتصادي، ولا يعيه ولا يراه،، والقيمة المؤجلة للقروض البينية هي ضعيفة جدا أمام الكوارث لأنها منبنية على المبدء الغبي القائم على الفوائد.. ولم تستفد هذه العقيدة الاقتصادية الغبية من فرضية هيلمان هذه الكارثة على كل الانساق النفعية التي وضعها الإنسان الرأسمالية لحد الآن…نعم جاهد هذا الصيرفي المياوم l’homme comptable في وضع منظومات محايثة لاستغلال الكوارث (منظومات تأمين الكوارث) ، لكنه وقف كأبله أمام الجائحات الشمولية.. وها نحن بصدد إحدى أشرس بناتها، وهي جائحة كورونا.
ثالث الاشياء، هو التبجيل المنافق لمختبرات البحث ومراوضتها على نفسها لان تكون منقذا ليس للبشر بل للتجارة (عاهرة نظام اقتصاد السوق). العهدة اليوم للعلم لكي يفكك التجارة عبر تعميم شامل ومجاني للترياق. الثورة الحقيقية غير المرئية هي ثورة المختبر على السوق. بدأت بمرسيليا مع الدكتور رونو ومرت بألمانيا فسويسرا وكندا واليوم بأستراليا وأثيوبيا (عاصمة الحبشة العتيد). العلم اليوم يثور المختبر على الصيرفي ويهدد تجارته بالزوال مادامت حياة الإنسان على المحك. لكنه تماس محفوف بالخطورة مادامت اغلب المختبرات تقع تحت طائلة الحكومات والتي هي اصلا أصول تجارية للصيارفة.
انها ابستمولوجية سبق لغاستون باشلار ان تنبأ بها.. حالة يكون فيها العلم سيد موقف أحداث القطيعة.. نعم العلم كان يقوم بقطائع ابستمولوجية منهجية محدودة داخل العلم، لكن القطيعة اليوم هي قطيعة مع نموذج إنساني كلي.. سيكون للعام مكان سياسي بارز وواقعي وجدي..
رابع الأشياء، وهي طبيعية الهية شمولية فوق رأسمالية… رجوع الطبيعة لتوازنها، مراجعة البشر لبشريتهم، إعادة التفكير في المشترك. نعم ،المشترك اليوم سلبي يتمثل في الوباء، ولكن المشترك سيتطور حتما وستكون البيئة اول المشترك وستكون صحة الإنسان حاسمة في تحديد المشترك وسيتم تأجيل التجمهرات الاستهلاكية الغبية بتجمهرات بديلة اصيلة، مرهونة بقيمة انسانية حقيقية.
كورونا افزعتنا لأنها عرت نسقا متبجحا لكنها كشفت عن امل للانسانية.. حتى ولو كانت حربا بيولوجية كما يعتقدها مهووسو play station او مهووسو game of thrones فان الإنسان دوما ينتصر.. انتصر في عصر الظلمات وأخرج الانوار، وانتصر بعد الحربين العالميتين وأخرج منظومة اممية للحقوق والتنمية.. اليوم ستنتصر الانسانية لصالح البيئة المشتركة والايكولوجية المشتركة وسيدرك الاقتصاد انه لا اقتصاد بدون انسان فاعل يعوض ذلك الإنسان المستهلك الغبي