( من المفهوم القديم للاستقلال الى المفهوم الجديد للتحرر)
ونحن نستشرف حلول يوم 18 يونيه، في ظل حالة الطوارئ الصحية، ذكرى استشهاد المقاوم محمد الزرقطوني، و كنا قد خلدنا ذكرى فسخ معاهدة الحماية الموافقة ليوم ثاني مارس؛ تطوقنا واقعة “تواصل” سفيرنا في عاصمة الأنوار، المكلف بتدبير عملية افتحاص نموذجنا التنموي، مع سفيرة صديقة مصالحنا الإستراتيجية وحامية تاريخنا الرسمي وأمننا الحيوي، مناصفة مع جيراننا في المغرب الكبير، بنفس القدر الذي تطوقنا فيه وبه سير و ذاكرات بعض الفاعلين الذين حرروا بعض المعطيات، وقدموا حقائق بنصف نقد ذاتي، كما أنصاف الحلول التي أسسوا عليها مساوماتهم، أو تسوياتهم.
وإنه لجيد جدا و عظيم أن يبوح كل فاعل سياسي سابق أو مقاوم قيدوم بعد زمن من الصمت الدهري، بكل ما ظل يختزنه لمدة عقود في صدره، ومقبول ان تعدد خصال ومناقب المتوفين من الشخصيات العمومية، في محافل العزاء والرثاء، وهذا مفيد جدا لمزيد من الاجتهاد للبحث عن تقاطع المعطيات، رغم صعوبة التيقن من صحتها في ظل شروط التحرى وسياقات عملية التذكر وملابساتها، مما يستدعي تدخل المؤرخين عوض الإعلاميين الذين ينصبون أنفسهم قضاة، بتواطئ فاضح مع السياسيين، وبغض النظر عن كون اغلب الشهادات شفاهية وتقدم علنيا وعموميا دون حضور المعنيين بها، لوفاتهم أو لتغيبهم أو تغييبهم، ومهما كانت الحقيقة المتوافق حولها، افتراضا، فإن أهم عناوينها لا يمكن أن تخرج عن أمرين، الأول أن المغرب طيلة عقود عانى من قسوة نظام حكم فردي مطلق، كان حليفا للأنظمة الرجعية والديكتاتورية على امتداد العالم، وكان، ضمنيا وصراحة، عميلا للمعسكر الغربي، بل دركيا للامبريالية يقمع المد التحرري، على سبيل المثال في افريقيا.
وبالتالي لن يجادل أحد في الطبيعة القمعية للنظام، وهذا كله موثق في التقرير النهائي لهيأة الإنصاف والمصالحة، والذي كان للملك محمد السادس كامل الشجاعة السياسية والنزاهة الفكرية للتصديق عليه واعتباره بداية حجة للقطع مع ماضي سنوات الجمر، وما قرار العودة الى أحضان الاسرة الإفريقية سوى امتحان لنوايا المصالحة مع الجوار من خلال مساءلة الدين التاريخي الذي تراكم في ذمة الاستعمار، والأمر الثاني هو أن معارضي النظام خلال سنوات الرصاص، يتحملون كامل مسؤولياتهم السياسية والتاريخية، فقد اختاروا تغييره، واختص جناح المقاومة وجيش التحرير بالخيار الثوري و المسلح، ولا يهم إن كانوا مصيبين أو مخطئين، المهم أنهم اعتقلوا وحوكموا ونفذ في رفاقهم الإعدام، علنيا وسريا، ولا يعقل أن نحاكمهم على نفس الفعل مرتين، وهي قاعدة يقابلها مبدأ عدم الإفلات من العقاب في حق الجلادين الحقيقيين والمفترضين، مع ضمان المحاكمة العادلة، هذا بالنسبة للذين اشتبه وتبث في حقهم كونهم شاركوا في عمليات مسلحة أو نسب اليهم تواطؤهم مع القوات المسلحة الملكية.
فهذا جانب مهم في تاريخ الحقيقة الوطنية التي ينبغي استجلاؤها، فهل المذكرات المنشورة تشفي الغليل في هذا الصدد أم أن الأمر لا يعدو أن يكون بوحا خارج الأجل « التاريخي » يهدف إلي تبرئة ذمة، أو يروم إلى « التبرع » بصكوك غفران وعفوا لمن يعتبرون أنفسهم مذنبين اضطرارا أو « الحاسين » بوخزة ضمير، وهذين الأمرين يرتبان لا محالة مسؤوليات هنا وهناك قد تكون فردية أو جماعية، اقترانية وتضامنية، كاملة أو مشطرة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية لابد من التذكير أن أخطاء الآخرين لا تبرر التعسف في استعمال الحق في الدفاع « الشرعي » إن كان له محل أو موجب، ويكفي أن نتمثل خلاصات توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة، ليتبين أن القانون لم يحترم أو لم يطبق أصلا في أغلب الحالات، ثم ينبغي أن لا ننسى مطلب الحقيقة الذي ظل عالقا في كثير من قضايا الاعتقال السياسي التعسفي والاختطاف والإعدام خارج نطاق القانون. بغض النظر عن إنصاف ضحايا القمع من معتقلي الرأي أو في القضايا ذات طبيعة سياسية واجتماعية ونقابية، فلا هم حملوا سلاح ولا حتى لوحوا به.
من هنا ينبغي التركيز في مجال الذاكرة على تجميع المعطيات والشهادات و الوثائق وتكليف المؤرخين وعلماءالاجتماع و الأكادميين المختصين في المجال لتشخيص ظاهرة العنف والعنف المضاد والبحث عن سبل تكريس سلمية الصراعات، والتي هي شر لابد منه، مادامت الاختلافات كائنة والمصالح المتباينة موجودة، وكل هذا في سياق استكمال الحقيقة المنتجة لإمكانيات التقييم والتقويم والمحاسبة العادلة والمنصفة، في أفق دمقرطة التنافس من خلال إرساء ضمانات عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، واذا كانت الدولة قد اختارت البعد الاقتصادي لتحصين الحقوق التاريخية مع الجوار، فانه حان الوقت، وعلى عاتق قوى المجتمع المدني، ان تكرس، عبر بوابة البعد الحقوقي والثقافي، عدالة الانتقال الدمقراطي باستيفاء الدين التاريخي الذي تخلذ بذمة الاستعمار. فأي دور نوعي متجدد للمؤسسات الحقوقية والوطنية في هذا السياق المطلبي؟ ولنفتح صفحة مشروع المفهوم الجديد للتنمية بأفق حقوقي يربط جدليا مطلب عدالة الإنتقال الديموقراطي في العلاقة مع الجوار والإستعمار ؟
مصطفى المنوزي (في خلفية الصورة اشجار تطل على امتداد منطقة آيت خويا والتي اوصت ندوة أجدير بتحويلها الى موقع للضمير )