تتعالى هذه الأيام داخل صالونات السياسة بالمغرب، أصوات تدعو إلى عودة الدولة الإجتماعية والتحرر من وصاية ووصايا صندوق النقد والبنك الدوليين، كسبيل وحيد لمواجهة تداعيات وباء كورونا والأزمات المستقبلية.
فما الذي يحصل ويهندس؟ هل نحن مقبلون فعلا على معركة من أجل سيادة، سياسية اقتصادية ومالية، كاملة غير منقوصة؟ وهل من السهولة تحرير المغرب من إلتزاماته اتجاه العولمة وأسيادها ؟ وهل تملك بلادنا هوامش للتحرك من أجل التحرر؟ هل يستبق المغرب انهيار النظام العالمي الحالي، المؤسس على نهب ثروات الدول الفقيرة وفرض الوصاية الإقتصادية والمالية عليها، بعد ظهوره هشا ومهزوما أمام تداعيات كورونا؟ هل يستطيع المغاربة تحويل أزمة تداعيات وباء كورونا إلى لحظة لتفكيك المكابح الثقافية والسياسية والإقتصادية وبناء نموذج مستدام للتنمية؟
ليست لدينا أجوبة نتقاسمها معكم، لكن لدينا حكاية مختصرة جدا قد تعين على فهم ما يجري ويدور.
الحكاية…
سبق للخبير الإقتصادي الدكتور نورييل روبيني – Nouriel Roubini – والمعروف بالدكتور كاطاسطروف – – Dr Catastropheأن تنبأ بالعديد من الأزمات الإقتصادية العالمية الأخيرة، والتي كان لها الوقع الكبير على النظام العالمي. فقد كان أول من حذر من انفجار أزمة الرهون العقارية – La crise des subprimes – كما حذر الإتحاد الأوروبي من تداعيات أزمة الدين اليوناني. في أول تحليل له للتداعيات الإقتصادية والإجتماعية المحتملة لوباء كورونا، أكد هذا الخبير الدي يستشيره الساسة بالولايات المتحدة الأمريكية والبنوك المركزية بأوروبا وآسيا، على أنه مخطئ من يعتقد بأن تلك التداعيات ستكون على شاكلة V بمعنى سقوط يليه قيام وانتعاش. كما يؤكد على أن الساسة لا يدرون عن ماذا يتحدثون وهم يقترحون التدابير لمواجهة تداعيات الوباء، السّاسَة بالنسبة له لا يملكون ما يواجهون به تداعيات الوباء على الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية بالعالم، لذلك فالبشرية مقبلة على كارثة حقيقية بكل المقاييس. ( حوار مع دير شبيكل الألمانية).
عجز من يسُوسُون ويدبرون شؤون دول العالم اليوم، كما يقول الدكتور كاطاسطروف، يذكرنا بساسة آخرين احتفظ لهم التاريخ بحنكة كبيرة في مواجهة أخطر الكوارث الإقتصادية والإجتماعية التي لحقت العالم إبان أزمة 1929؛ أبرزهم الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت الذي كان لخص فلسفته في تدبير الأزمة في مقولته الدائعة الصيت: ” في كل مرة يقع حدث ما، يمكن أن نتيقن بأنه كان متوقعا حدوثه بالشكل الذي حدث به”.
اليوم لو قدر للرئيس روزفلت أن يبعث ليدبر مع سَاسَة العالم تداعيات وباء كورونا، لخانه ذكاؤه ولغاب عنه حدسه؛ فعالم وباء كورونا ليس عالم أزمة 1929، لقد تحول العالم في العقود الثلاث الأخيرة إلى قرية صغيرة ترتبط عناصرها بعضها ببعض بشكل معقد وفق منطق سيستيمي – logique systémique – حيث لا يمكن تفسير الأحداث وأسبابها ونتائجها إلا وفق سببية سيستيمية دائرية، وليس وفق سببية خطية تختزل كل شيء كما يبدو ذلك جليا في مقولة الرئيس الأمريكي روزفلت.
لقد سبق للعديد من المفكرين أن أثاروا الإنتباه إلى هذه المتغيرات في العالم، بعضهم أفنى عمره في الإشتغال على ما يسميه المفكر الفرنسي “إدغار موران” الفكر المركب – la pensée complexe – ؛ فالبشرية اليوم تعيش في عالم اللاّيقين – le monde de l’incertitude – كلما ازدادت الحركية العابرة للحدود وزادت فيه وسائل الإتصال والتواصل تطورا – l’hyperconnectivité – بين المجتمعات، كلما توسعت دائرة اللاّيقين وخطى البشر خطوات متسارعة نحو المجهول، وتقلصت قدرة الخبراء والسّاسَة على استشراف المستقبل واستباق الكوارث. فلا يمكن تفسير القلق والهلع الكبيرين والكرب الشديد المستبد بالناس هذه الأيام إلا من خلال العجز أمام اللاّيقين وتعقيدات ما صنعه الإنسان بنفسه وببيئته. لا عجب إذن في تناسل الأخبار عن نهاية العالم –l’apocalypse – واعتبار وباء كورونا علامة من علامات الساعة من طرف بعض المؤمنين بالكوارث بما هي انتقام من الله من خلق الله، كما لا عجب في ما نراه من هدم للأحلاف والمعاهدات الدولية وإغلاق للحدود بسبب الرعب من العدوى. هذا غيض من فيض المجهول الذي دخلته البشرية بشَرّ أفعال بعض من مدبري شؤونها، مجهول عجز العلم إلى حدود اليوم في إيجاد حلول للخروج منه، فتعالت أصوات الجهل والخرافة وكثر ضجيجها معلنة قدرة الجهل على هزم المجهول.
لقد كانت الكثير من الأوبئة الخطيرة التي لحقت بالإنسانية وراء العديد من التحولات والثورات التي غيرت تاريخ البشرية، كما يقول المفكر الفرنسي جاك أطالي؛ فوباء الطاعون في القرن الرابع عشر مثلا، ساهم بشكل كبير في التخلص من هيمنة الكنيسة وظهور الدولة الحديثة، لقد تخلص الأوروبيين من نظام كنسي لم يستطع حمايتهم من الطاعون، واستبدلوه بنظام آخر علقوا عليه الآمال لحمايتهم. اليوم تخلص العالم من هوس البورصة ولم يعد يسير على إيقاع أسعار الأسهم بها، كما لم تعد التوازنات الماكرو اقتصادية تهم أحدا؛ فمواجهة تداعيات وباء كورونا تفرض عودة الدولة الإجتماعية والدولة المستثمر كما هو الحال في ألمانيا التي قررت فيها الدولة شراء كل المقاولات الإستراتيجية إن اقتضى الأمر ذلك.
بالأمس القريب رفضت كل الدول الصناعية التخفيض من أنشطتها الصناعية حتى ينخفض مستوى الانبعاث الحراري من أجل إنقاذ كوكبنا من مصير مجهول، رفضت جميعها القيام بمجهود ولو رمزي من أجل الأرض وأجيال المستقبل. لكن وباء كورونا أجبرها على توقيف كل الأنشطة الصناعية تقريبا والكثير من الخدمات، فتنفس كوكبنا بشكل غير مسبوق كما تؤكد ذلك بيانات وكالات الفضاء الدولية. فهل نحن مقبلون على نهاية نظام عالمي ألغى البيئة من حساباته، وخدم أقلية قليلة على حساب الأغلبية الساحقة كما تؤكد ذلك المعطيات عن الفقر بالعالم؟
بالنسبة للإقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي – Thomas Piketty – لا يكفي القول بأنه يجب تغيير النظام الإقتصادي الحالي، بل يجب تحديد مضامين النموذج البديل سواء تعلق الأمر بنظام الملْكيّة -propriété – أو بموازين القوى داخل مؤسسات الإنتاج أو بالتوازنات الماكرو اقتصادية. كما يؤكد صاحب “رأس المال والإيديولوجيا” على الحاجة إلى تجاوز الناتج الداخلي الخام كمفهوم محوري وتعويضه بمفاهيم أخرى تركز على إعادة توزيع الثروة بما يضمن القضاء على الفقر والهشاشة. ومن غرائب النتائج الأولية لتداعيات وباء كورونا إستعداد إدارة الرئيس الأمريكي ترامب لتقديم شيك بمبلغ ألف دولار لكل أمريكي، ليس بدافع محاربة الفقر بل لأنقاد الإقتصاد الأمريكي المتهاوي؛ وقد اعتمدت إدارة الرئيس الأمريكي في ذلك على ما سماه الإقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان helicopter money – – علما بأن فكر فريدمان يتمحور حول قولته الشهيرة ” ليس هناك طعام بالمجان”.
فالنظام الاقتصادي الليبرالي المتوحش يتهاوى لوحده وهو يحاول إنقاذ نفسه من تداعيات وباء كورونا.
عَود عَلى بَدء..
صرح المندوب السامي للتخطيط في خرجاته الإعلامية الأخيرة بأن سنة 2020 ستكون أسوأ سنة يعرفها الإقتصاد المغربي منذ سنة 1999، حيث سيؤدي المغرب ثمن هشاشة نظامه الإقتصادي وفراغ مضامين الإملاءات النيوليبرالية لصندوق النقد الدولي من أية قيمة مضافة تذكر. لذلك فالمندوب السامي للتخطيط يدعو إلى عودة قوية للدولة الإجتماعية والتخلص من وصايا صندوق النقد الدولي، كما يدعو إلى استثمار الإستقرار السياسي بالبلاد من أجل إنجاح المنعرج الذي سيسمح للمغرب بإرساء دعامات دولة إجتماعية يلتف حولها الشعب من أجل خدمة مصالحه في إطار نظام ديمقراطي.
ما تفضل به المندوب السامي للتخطيط ليس مستحيلا على كل حال، ففي أوروبا فرض وباء كورونا إعادة ترتيب الأولويات وعادت معه الدولة الإجتماعية بقوة. لكن أسئلة كثيرة يفرضها السياق المغربي، وهي التي طرحناها في التمهيد أعلاه، والإجابات الممكنة عليها تشكل مفاتيح أساسية لتلمس ملامج مغرب ما بعد كورونا.
في انتظار ذلك، يمكن لنا جميعا أن نحلم بمغرب لا يقيد طموحات الناجحين من أبنائه، مغرب بمصعد اجتماعي يتسع للأغلبية من مواطنيه، دون أن يترك الفئات الأقل حظا على هامش مجتمعه.