عاد بنا الخطاب الاعلامي المشحون برد فعل سياسوي ، يتعمد تناسي التاريخ وعبره ودروسه ، وتعود جميع التيارات المحافظة السلفية والأصولية الى رفع سيف ، نحثت عليه عبارة “” عود على بدء ، إن عدتم عدنا “” ، ولا يسعنا إلا نرحب بأي نقاش منتج وخالص من أي ترهيب او ترغيب ، ونستلهم من تجربتنا المتواضعة ، أكثر من خمسين سنة من المغامرة والتجريبية والإنتظارية.
يعود هذا الماضي بشكل هستيري لكي يشوش على الآفاق والتأمل فيها ، لذا فإن أجود نقاش ،وربما أصدقه ، الذي يقع على مسافة كبيرة جدا مع المواعيد الانتخابية والمحطات الحزبية ، رغم أن وزارة كل الشؤون ، العامة والداخلية وغيرها عادت إلى عادتها القديمة ، تمارس وصايتها عوض رقابتها ، بعلة أن كورونا هم عظيم وشأن خاص وحكر على الدولة دون السياسة العمومية ، حيث على المنتخبين العناية بمقاعدهم وتجديد نفسهم الانتخابي ؛ فلنستغل الفرصة ونطرح سؤالا مركزيا : من أجل تفعيل مشاريعها المجتمعية ،حاجة الوطن للأحزاب الدمقراطية ؟ حاجة المجتمع إليها ؟ حاجة الدولة لها ؟حاجة الأحزاب الدمقراطية للدولة و للمجتمع ؟ هل يغني التعاقد مع الملك عن الباقي ؟
تأتي أهمية هاته الأسئلة إثر كل كبوة مبتذلة وعبثية ، فعلى هامش بعض تداعيات الحركية الاجتماعية كنت أعتقد أن الغيورين على الوطن الديموقراطي سيمارسون قانون نفي النفي ، لكن يبدو أن هناك مخططا من أهم مظاهره تركيز بعض الأقلام والتصريحات على فقاعة “لدكاكين السياسية ” و تروم تبخيس العمل الحزبي مقابل نشدان وساطة المؤسسة الملكية أو تحكيمها لا فرق ، وعلى الخصوص المرتبط بهيئات سياسية منحدرة من الحركة ، الوطنية بهدف إبراز بدائل سياسية لا تعترف بالتنظيم والإنضباط والدمقراطية التمثيلية الوسيطة .
وذكرني بما جرى في بداية السبعينيات ، عندما رفع شعار ” لا رب ولا سيد ” ، والذي تبنته تيارات شبابية تغترف بعضا من مبادئها من نظرية وثقافة الشيوعية الجذرية والإشتراكية الفوضوية ، وإن كان الفرق شاسعا بين تلك التجربة وبين ما يجري حاليا ، لكون سياق اليوم يتغذى من ثقافة إنتهازية يمينية محافظة ، تؤسس لنظرية ” كم من حاجة قضيناها بتركها ” ، لا تعترف سوى بالعالم الأُخروي ، فأما الحياة الدنيا فمجرد ” لهو وعبث ” .
ليبقى وجه التشابه والإشتباه هما عودة الإيديولوجيا بقوة ، مؤطرة بالفكر السحري و الأسطوري والأريسطي معا ، تروم بناء سلام ” عادل ” بين الأصوليات ، تقدس الإقتصاد السياسي المفعم بتجارة الخرافة والدين ، تحت يافطة وديماغوجيا تبجيل قيم الحرية ، حرية تنقل الإشاعة والبضاعة والخدمات والمبادرات وحرية تملك و احتكار ، سلطتي المال والإستغلال ؛ مع الحفاظ على الطابع الإحساني / الخيري للمسؤولية الإجتماعية ؛ ليتأكد إذن ، بنسبية طبعا ، على أن القائمين ومهندسي إنقاذ وتجديد المنظومة الرأسمالية يراهنون على استئصال كل ما له علاقة بالذاكرة الكفاحية والتحررية ، المناهضة للإستعمار ، أو ما له علاقة بالنضال الشبابي العالمي ، أو الحركة العمالية والثورات الثقافية ، وهذا يتجلى في تمثل بعض الرواد و الزعماء ” لمنطق ” لا رب ولا سيد “.
ولكن بنفحة تستهدف أركان التفكير النقدي وسيادة العقل والعقلانية ، بذريعة وعلة أن كل ما هو جمعي كلياني وشمولي ، حيث تتماهى مشاعة الحرية مع شيوعية التحرر من الضوابط ، ليكون معيار الأخلاق هو الأساس ، بمعنى أن الفساد هو سبب الإستبداد وليس العكس ، هذا الفساد الذي يحتاج فقط الى حراك وقتي لتصحيح الأمور ، يحتاج الى تخليق وعصيان سلمي ، إلى قوة ناعمة تغلف عنفا لفظيا وقتلا رمزيا بطيئا لقيم التنوير والتغيير، بدل تبني استراتيجيا الصراع الاجتماعي والسياسي والقانوني ، الكفيل ، فريدا ، بتقويم الدولة دمقراطيا . من هنا فالقضاء على الاستبداد لا يعني في نظر دعاة التمرد ، في عصرنا ، سوى هد أركان الرأسمالية المتوحشة ، بكفاية مناهضة الريع والفساد ، دون المساس بالجوهر .
وحتى ولو شاءت الأقدار بثورة على الوضع فلن يحصل سوى إنقلاب على الأشخاص دون النظام ، وذلك باستيراد “دمقراطية “الخارج والخوارج ، دمقراطية لا علاقة لها بخيارات الحركة التقدمية المغربية المهددة بالإستهداف والإستئصال بمعناه الانطولوجي ، ليس فقط في مشروعها الدمقراطي ولكن بالأساس في شرط دمقراطية نضالها الاستراتيجي الذي يراد أن يختزل في الوكالة الانتخابية المأسوف على مصيرها أيضا ، لأن الدمقراطية اللبرالية / البورجوازية ، وعلى علتها ومحدودية وقعها الحقوقي ، ينبغي ان يكون لها نساؤها ورجالها متشبعين بالوطنية والمواطنة ، وإرادة التحرر من العولمة المتوحشة المغذية للفكر الوهابي والإخواني والشيعي حتى فما هي إمكانيات استدراك الموقف والزمن بتجديد التصورات والخيارات بأفق تقدمي ودمقراطي .
لقد ولى زمن التضامن ورصد الانتهاكات ، زمن كفى المؤمنين بالتغيير شر النضال . و بعيدا عن منطق عدالة المهيمنين اقتصاديا والمسيطرين سياسيا ، علينا محاولة بسط ووضع قصة هيبة الدولة على محك التقييم والتقويم ، فالهيبة دائما نسبية جدا ، فالوطنيون تنازلوا عن أولوية الاستقلال الشكلي مقابل عودة رمز السيادة في شخص الملك بن يوسف الذي كان سلطانا ؛ ولأن التاريخ الوطني مجرد تسويات ؛ على الجميع عدم الإغترار بالتعاقدات القديمة ، التي كانت تفرز شرعيات معينة ، ولنفكر في كيفية تفعيل كل الإلتزامات والضمانات القانونية والتعاقدية التي دسترت ضمن وثيقة فاتح يوليوز 2011 ، على حالتها أو علتها.
ونطرح سؤال يبدو إنه شبه وجودي: ألم يحن الوقت لإبرام بعض التنازلات التبادلية الإيجابية من قبيل رد الإعتبار للعمل الحزبي المستقل والمنتج لإرهاصات البناء الدمقراطي المؤجل منذئذ ؟ ولنبدأ من مصالحات بينية داخل الصف التقدمي وأيضا داخل مربع التحالف الطبقي الحاكم .