في الطبيعة الخفية للقضية الأمازيغية

الصافي مومن علي

لما كان البحث في طبيعة الشيء معناه عادة البحث في ماهيته وفي جوهره ، فسـوف احاول في هذه المقالة أن أتناول الجانب الجوهري الخفي للقضية الأمازيغية ، على اعتبار أن أغلب ما كتب حولها من الدراسات كان يركز أكثر على جانبها الحركي النضالي الظاهري ، وأنه في هذا السياق أرى أن القضية الأمازيغية إن كانت في شكلها الحركي ذاك ، تتمظهر باوصاف عدة كوصف القضية الثقافية، أو وصف القضية الاحتجاجية، أو الاجتماعية، بل وحتى وصف القضية السياسية والاقتصادية، فإنه في عمقها الداخلي تتجلى باوصاف أخرى غير معروفة من قبيل وصف القضية الإحيائية ، أو القضية التحررية، أو التنويرية، بل وحتى وصف القضية النهضوية الحديثة، كما سيتوضح ذلك فيما بعــــد.

وبالفعل فالقضيــة الأمازيغيـــة تشكل في جوهرها قضية وجود ، أي مسألة حياة أو موت لنضالها من أجــل اعادة الحياة للشعب الأمازيغي المعروف تاريخيا وجغرافيا واجتماعيا بأنه كان وما يزال مالك أرض شـمال أفريقيا وصاحبها الشرعي ، بدليل أن الفيلسـوف “هيجـــل” في كتابــه “العقل في التاريـــخ” كان يطلق على ملوك المغرب المعاصرين له ، اسـم “ملوك البربر” وبدليل ايضا أن علم الخرائطية الدقيق كان الى حدود القرن التاسـع عشـر يطلق اســم: (LA BERBERIE) أي: أرض البربر على شمال افريقيا، مثلما كان يطلق اســم (L’ARABIE) أي أرض العـرب على الجزيرة العربية، واسـم (LA PERSE) أي: أرض فارس على بلاد إيـران.

فهــذا الشعب الأمازيغي الذي كانت كل كتب التاريخ تشـهد على كونه السباق في العالم الإسلامي الى تحرير وطنه وكيانه من سـيطرة الخلافة العربية في الشـرق، والى تأسيس دوله وامبراطورياته الخاصة التي يحكم بها نفسـه بنفسـه انطلاقا من دول بني مدرار، وبورغواطة، وأوربة ، التي يطلق عليها خطأ (الدولة الادريسية ) ، مرورا بالمرابطين والموحدين وغيرهم قديما الى الدول المغاربية الحالية في العصر الحديث، هذا الشعب ان كان فعلا قد استطاع بقوته وبأسـه أن يخلص وطنه من سيطرة الامويين ، فإنه مع الأسـف لم يحـرر عقله من ايديولوجيتهم العربية التي دسوها كالسـم في الدين الإسلامي ، فأدت به هذه الايديولوجية الى التهافت والى اٌلإقبال على الاستعراب ، اعتقادا منه أن المسلم الحقيقي يجب أن يكون عربيا ، وأن لغة الجنة بعد الموت هي العربية ، وكان من النتائج السلبية لهذا الاستعراب العشوائي حدوث شـرخ كبير في كيانه بين المستعربين الناطقين باللسان الدارج المستحدث ، الذي يعتبر في عمقه لغة امازيغية مترجمة حرفيا الى العربية ، وبين الذين ظلوا محتفظين بلغتهم الأمازيغية ، بسبب احتمائهم في الجبال والغابات والصحارى النائية ، عن نفوذ الدول المركزية ، هذا الشـرخ اللغوي الذي يوحي للبسطاء الجاهلين بحقيقة الأمور أنه انقسام عرقي بين العرب وبين الأمازيغ.

اذن ، من المحقق ان القضية الأمازيغية في سعيها هذا الى بعث الحياة في الشعب الأمازيغي، وفي لغته الأصلية ، تجعل من نفسـها بامتياز حركة إحيائية ، بالنظر الى هدفها النبيل الرامي الى ضخ الحياة في هذين الكائنيين الحيين الطبيعيين، وذلك في مقابل القومية العربية، والحركة الإسلامية اللتان تجعلان من نفسهما بخصوص هذه المسالة حركتا إبادة وموت ، بالنظر الى هدفهما الغير النبيل الساعي الى القضاء على الشعب الأمازيغي وعلى لغته في هذا الوطــــن.

ولا بد هنا من الاقرار أن القضية الأمازيغية ان كانت في بداية نشوئها قد انطلقت كقضية ثقافية ثراتية محدودة ، تقتصر غايتها الكلية على المحافظة على الثرات الشفوي الأمازيغي، وعلى القيام بدراسات وأبحاث حوله لإبراز جوانبه الايجابية ، فأنها لما تحولت في المنتصف الأول لعقد السبعينيات من القرن الماضي، الى قضية إحيائية بتبنيها بعث الحياة في اللغة الامازيغية عن طريق الابداع والكتابة بها ، عوض مجرد الكتابة عنها بلغات اخرى ، ثم قيامها بالاعلان عن هذا المشـروع الإحيائي بتأسيس فرقة اوسـمان الغنائية، وبإصدارها لأول ديوان حداثي باللغة الأمازيغية ، أقول لما قامت بهذا التحول الثوري انتفضت ضدها معارضة قوية ، ذهب بعضها الى وصف المشروع بمحاولة احياء الظهير البربري بالغناء ، وذهب البعض الاخر الى رفضه تحت شعار : ((نعم للدراسات الأمازيغية، لكن لا للتمزيغ))، الذي يدعو الى الاكتفاء فقط بالمحافظة على الامازيغية كلغة ثراتية ميته ، في متحف أو في معهد خاص ، وذلك بدلا من المطالبة باحيائها.

هذا ومما يضفي الطابع الوحدوي على القضية الامازيغية ، وبالتالي يبعد عنها تهمة الانعزال والانفصال والتفرقة ، انها لا تحصر الشعب الامازيغي المراد احياؤه ، في الناطقين بالامازيغية فحسب ، بل تعتبر ان كافة مواطني شمال افريقيا ينتمون الى هذا الشعب ، من دون أي تمييز بينهم في اللغة ، او في اللون ، او في النسب العائلي الخاص ، او في الموطن ، وسنذها في ذلك ان هذه الهوية الامازيغية العامة المشتركة ، تستمد اصلها من الانتماء الى ارض شمال افريقيا الامازيغية ، وليس من اي انتماء اخر عرقي ، أو ديني ، او ثقافي ، فشعارها في هذا هو : ان كل من يعتز بشرف انتمائه الى هذه الارض الطيبة ، يكتسب تلقائيا هويتها الطبيعية ، تماما كما يكتسب الهوية الفرنسية من ينتمي الى ارض فرنسا ، والهوية الامريكية من ينتمي الى ارض الولايات المتحدة الامريكية ، وهكذا ذواليك في كل بقاع العالم.

ثم ان القضية الامازيغية في سعيها كذلك الى تحرير أرض وطننا من التبعية للوطن العربي في الشرق تجعل من نفسها ايضا حركة تحررية حقيقية ، لنضالها من اجل كرامة شعبنا بتحقيق سيادته الكاملة القائمة على هذه الأثافي الثلاث.
• سيادة الوطن.
• سيادة الكيان.
• وسيادة اللسان.
هذه الأثافي التي لخصها شـباب الحركة الأمازيغية في الشعار المشهور: أكال أي :(الأرض) أوال أي : (اللسـان) ، امادان أي : (الكيان او الشعب) ، معبرين عنه برفع ثلاثة أصابع اليد.
وفي هذا الصدد اشير الى ملاحظة هامة وهي أن الحركة الوطنية الاستقلالية ان كانت قد حررت وطننا من الاستعمارين الفرنسي والإسباني والايطالي ، فإنها مع الأسف قد قامت بالحاقه مجانا بالجزيرة العربية معتبرة إياه جزءا لا يتجزأ من الوطن العربي، الشيء الذي جعلها تبدو في عملها ذاك وكأنها نزعت بلادنا بيدها اليمنى من الغرب، لتقدمها بعد ذلك بيدها اليسرى لقمة سائغة الى الشـرق، ولذلك جاءت القضية الامازيغية لتصـحـح هذا الخلـل مقـررة أن كل مقومات سيادتنا الوطنية أصيلة وعريقة، حرة ومسـتقلـة لا تنتمي لا للغرب ولا للشــرق.
هذا ويدخل في هذا الباب التحرري أيضا سـعي القضية الأمازيغية تحرير انتاجنا الثقافي والحضاري القديم والحديث من الهيمنة الاجنبية ، على اعتبارانها تضفي الصبغة الامازيغية على كل ما أنتجه أفراد الشعب الامازيغي خلال العصوربلغات اخرى كالبونيقية ، واللاتينية ، والعربية ، والإسبانية ، والفرنسية ، والإنجليزية ، مقررة دخول هذا الثرات في ملكيته الادبية والفنية ، معتبرة ان كل محاولة لنسبته الى الغير تعد سـرقة واختلاسا ينبغي التصدي لها.

والقضية الأمازيغية في اعتمادها على العقل وما أفرزه هذا العقل من علوم وتقنيات حديثة في إقناع شعبنا بتصالحه مع ذاته ، ومع تاريخه ومستقبله ، ومع وطنه ، ومع ثراته الحضاري، ومع دينه ، ومع نظامه السياسي ، تجعل من نفسها بحق قضية تنويرية ، لسعيها الى تخليص مجتمعنا من القصور الفكري الذي عانى منه مجتمعنا ، والذي قيده عن الالتحاق بدرب الأنوار والتطور.

والقضية الأمازيغية في نهاية المطاف تعتبر في جوهرها قضية مجتمعية نهضوية لاعتمادها على نفس المرتكزات والأسـس التي استندت عليها الشعوب الاوروبية في نهضتها ، هذه المرتكزات التي تتمثل كما هو معلوم في ما يلي :
1) – انفتاح الشعوب الأوروبية على ثراتها القديم وعلى التاريخين اليوناني والروماني.
2) – اعتمادها في نهضتها على لغاتها الوطنية المحلية بدلا من اللغة اللاتينية السائدة.
3) – اعتمادها أيضا على استخدام العقل بغير توجيه من أي كان، وإيمانها بقدرة هذا العقل على السير بها في طريق نهضتها.

ومن الثابث أن القضية الأمازيغية قامت بدورها بتأسيس مشروعها المجتمعي النهضوي على نفس هذه الأسـس، لثبوت انفتاحها على تاريخ شعبنا القديم ، بعد أن كان هذا التاريخ يعتبر في عرف ثقافتنا السائدة من مخلفات الجاهلية المنبوذة ، ثم لثبوت قيامها كذلك بالدعوة الى اعتماد اللغة الأمازيغية الوطنية ، والى الاعتزاز بهويتنا الأصلية العريقة ، ثم ايضا لثبوت استخدامها للعقل وما أفرزه هذا العقل من علوم وتقنيات حديثة في الدفع بمجتمعنا الى التصالح مع ذاته ومع تاريخه ومع كل مكونات وطنـــه.

ويمكن القول اجمالا ان ما يبرهن على صدق وعدالة القضية الامازيغية هو أن جل افكارها الاحيائية والتحررية نجدها منعكسة في دستور سنة 2011 ، الذي أعلن المغاربة من خلاله عن كشف هويتهم الأمازيغية ، وعن الاعتزاز بها، بعدما كانوا طيلة قرون عديدة يخجلون منها ويخفونها عن الأنظار، كما أعلنوا فيه عن ترسـيم لغتهم الأمازيغية مع إدماجها في جميع مجالات الحياة العامة، مقررين في شجاعة بطولية ناذرة تحرير أرض وطنهم من التبعية للوطن العربي في الشـرق ، وتأكيد انتمائها الى وطنها الأصلي “المغرب الكبير”.

فمما لا شك فيه ان التاريخ سيسجل ان دستور سنة 2011 بحمولته التحررية العميقة يشكل بحق لحظة تحول فارقة ومفصلية في مسار حياة شعبنا ، من شأنها ان تعيد تحقيب تاريخه الى عصرين بارزين هما : عصر بائد الذي كان فيه مجتمعنا شاردا لغياب وعيه بذاته ، وعصر جديد هو عصر الرشد الذي تم فيه استرداد هذا الوعي، تماما كما ينقسم تاريخ الشعوب الاوروبية بعد استرجاعا لوعيها الذاتي الى عصرين مختلفين هما : عصر القرون الوسطى المظلمة ، وعصر الانوار الجديد.

وإذا ما صـح تجسيد مضمون الفصل الخامس من هذا الدسـتور لفكرة إحياء الشعب الأمازيغي ، فيصـح القول كذلك أن مصطلح la renaissance الدال حرفيا على معنى الولادة الجديدة ، الذي يؤرخ لنهضة الشعوب الأوروبية ، ينطبق تمام الانطباق على شعبنا في العصـر الحاضر، لثبوت وقوع إعادة خلق جديد له ، انتقل به من مصير الموت والانقراض الذي قادته إليه الأيديولوجية العربية التقليدية والمعاصرة ، الى أنوار الحياة ودفئها، التي تقوده إليها إرادة الحياة والوعي بالذات.

لصـافي مومــن علـــــــــي

شاهد أيضاً

«مهند القاطع» عروبة الأمازيغ / الكُرد… قدر أم خيار ؟!

يتسائل مهند القاطع، ثم يجيب على نفسه في مكان أخر ( الهوية لأي شعب ليست …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *