في ذكرى رحيله، الرايس أحمد أمنتاكَ:  المُدافع القويّ عن أصالةِ فنّ الروايس…

صوته قوي مؤثر، يتفنن بواسطته في أداء الأشعار تفننا متفردا. كلماته منتقاة بعناية شديدة، يحرص فيها على الرمزية والبعد الأخلاقي والديني. أنيق في هندامه وراقٍ في حركاته وحديثه. حريص أشد الحرص على تقاليد “تيرويسا” في اللباس والمظهر والطقوس والأخلاقيات، وفي التزام الألحان والأوزان الأصيلة، لا يقبل الآلات العصرية ولا أي انحراف عن المتوارث من تقاليد فن الروايس. لذا يمكن اعتباره مدرسة كبيرة في مسار تاريخ الروايس، إذ لم يتوقف عن العطاء لما يزيد عن ستّين سنة، وهو ما جعله محط احترم وتقدير من طرف كل الفنانين سواء من جيله أو من جيل تلامذته أو الشباب الذين يستلهمون فنه ومعزوفاته.

إنه الرايس أحمد بن إبراهيم بن الحاج علي بن محمد بن الرايس نايتْ كَيغيلْ، في قبيلة إركَيتنْ Irgitn بعمالة تارودانتْ، المعروف فنيا  بأمنتاكَ Amntag.

ينتمي إلى عائلة كَيغيلْ من دوار مورغْ في قبيلة إركَيتنْ والتي تفرعت منها أسرة أيت الرايسْ التي انتقلت من دوار مورغْ إلى قرية تيغرغارْ، ومنها انتقل جده إلى دوار بيطلجانْ الذي ولد به الرايس أحمد أمنتاكَ حوالي عام 1927م، لكنه انتقل من جديد إلى دوار تيغرغار وبه نشأ الرايس أحمد وتربى. التحق بمسجد القرية في سن السابعة، لكن رغم ذكائه المتقد وحافظته القوية لم يستطع مواصلة التعليم، فتوجه إلى رعي الغنم لفائدة أحد الأشخاص بدوار تيلزاطْ في الرابع عشرة من عمره وصنع آلة لوطار لتعلم العزف وأداء الأغاني المتداولة. كانت بداية أمنتاكَ في فن احواش المحلي بمحاولاته الأولى في مساجلات شعراء أسايسْ متأثر بالشاعر المحلي عدي اوبيضار -الذي تنبأ له بمستقبل واعد في الفن- وكذا بالشاعر أبيضارْ نخدّيجْ وقبله الحسن أكَورّيحْ وغيرهم.

ثم صنع آلة لوتار محاولا تعلمها وأداء الأغاني الرائجة آنذاك للحاج بلعيد وأنشاد وبودراع… ثم اقتنى الة الرباب وشرع في جولة (أمودّو) جاب خلالها منطقة راس الواد ثم في منطقة للاعزيزة التقى بالفنان بوبكر أزعري واستفاد من طريقته الفردية في الأداء ومن الموضوعات التي يطرقها، ثم في مدينة بمراكش كان لقاؤه بكبير بالرايس الموسيقي مولاي علي، وبمدينة أكَادير كان له اتصال بفرقة المقاوم الكبير الرايس الحسين جانطي، والذي اعتبره من شيوخه فحفظ الكثير من أشعاره وأخذ عنه بعض ألحانه.

كان لزيارة إحدى فرق الروايس الموسيقية وما لقيته من ترحاب وإكرام من قبل أهل المنطقة، التأثير القوي على الصبي أحمد الذي تحمس وتطلع للغناء والتعاطي للفن، فاقتنى آلة الرباب من الرايس علي أوبيطلجانْ، والتحق بقرقة للروايس ومتأثرا بالرايس المقاوم الحسين جانطي ومولاي علي ومحمد ساسبو والحاج محمد أوموراكَ. وبفضل مرافقته لفرقة للروايس تجول في سوس وحوز مراكش على عادة الروايس.

وفي عام 1953م، سجّل أول أغانيه في أسطوانة. ثم اشتهر بقصيدته “الله الوطنْ” بعد رجوع محمد الخامس من المنفى وحصول المغرب على الاستقلال.

وقد كان أحمد أمنتاكَ من أشهر الروايس خلال الستينيات من القرن الماضي، إذ بالإضافة إلى تسجيلاته وسهراته في مختلف مناطق المغرب، قام بعدة جولات فنية إلى دول فرنسا وألمانيا وبلجيكا(1965، 75، 77). لذلك فقد ذاع صيت أمنتاك داخل المغرب وخارجه. وبعض أسطواناته سجلها بفرنسا.

إذا كان أمنتاكَ قد عايش الجيل الثاني للرواد كالرايس الحاج بلعيد، محمد ساسبو، بوبكر أنشاد، بوبكر أزعري، محمد بودراع، مولاي علي، محمد أوموراكَ، إلخ، وتلقى عنهم طريقة العزف وأصول الغناء والممارسة الفنية كما هي في أصلها، فإنه قد أسهم كثيرا في ظهور أسماء غنائية كبيرة تتلمذت عليه بشكل أو بآخر، ومنها: الرايس محمد الدمسيري، الرايس عمر واهروش، سعيد أشتوك، جامع الحاميدي، إلخ. ونستطيع أن نقول إنه رغم تأثره بمدرسة الحوز والصويرة في فن الروايس، فقد أخذ الكثير عن مدرسة تيزنيت-أشتوكن، لاسيما الرايس الحاج بلعيد حيث كان أحمد أمنتاكَ الرايس الوحيد الذي استطاع أن يؤدي قصائده باحترافية كبيرة تراعي أداء صاحبها الأصلي في إطار مشروع “أماركَ المغرب”، كما يرجع الفضل لأمنتاكَ في الحفاظ على كثير من شعر الرايس المقاوم الحسين جانْطي الذي كان سيضيع إلى الأبد لو لم يقدم على تسجيله في أسطوانات، علاوة على توثيقه لمعزوفات شهيرة، على أنه كان شديد الحرص على أداء أعماله بآلته الخاصة “الرباب” التي لا يقوم مقام عزفه لها أحد من العازفين، فحتى حينما يستعين بالعازف محمد بونصير أو لحسن بلمودن، فإنه لا يستغني عن عزفه الشخصي الذي يبدأ به لحنه ويحدد معالمه ثم يجعل العازف الثاني مرافقا ومجيبا في الوقت المناسب، ومعينا في حالة العياء، لأن أداء القصائد لا سيما الطوال مثل قصيدة بوسالم يتطلب جهدا مضاعفا، جهد الغناء والتذكر، وقلما نجد الروايس الذين يجتمع لديهم كل ذلك مع العزف المتقن وطول النفس لا سيما أثناء التسجيل.

اشتهر أحمد أمنتاكَ بالأغاني الوطنية قُبيل وبعد الاستقلال، والتي صاحبَت الشعور العام للمغاربة بوطأة الاستعمار الفرنسي والرغبة في التخلص من ربقته، والتطلع إلى الحرية والسيادة الوطنية، وتأثر أمنتاكَ في ذلك بروايس المقاومة مثل الحسين جانطي و بوبكر أزعري وساسبو، لكنه أبدع أيضا في أداء الأغاني العاطفية والتغني بجمال المحبوب وأوصافه، وبوصف الطبيعة الخلابة وجمال البلدان وخصائص أهلها، وبرع في الشعر الأخلاقي والديني، وكذا بأشعار الحكمة المستمدة من تأملات عميقة في الحياة واستجماع لخلاصة التجارب، على أن معظم الشعر الذي غناه أمنتاكَ من التراث الشعري الأمازيغي القديم، الذي تعامل معه بحذق ومهارة كبيرين، ترتيبا وتنسيقا وأداء متميزا.

يقدر إنتاج ارايس أحمد أمنتاكَ بثمانين (80) أسطوانة، وبحوالي خمسين (50) شريط كاسيط. وسجل أغاني لفائدة الإذاعة الوطنية والقنوات التلفزية الوطنية. ومن أشهر قصائده/أغانيه: إيموريكَ ءيكَز ءيكالنْ- بوسالمْ- ءاياجدّيكَ- بوشاهوا- قصيدة الحج- ءيميكّ ءايكَا زّينْ- القسارياتْ- الله ءالوطنْ- المسدّسْ – تادواريتْ- مرحبا ييويد أوغاراس- ءيزنكاض- الوردْ- تاركَا تاكَوكي- دّرستْ ءيتبيرنْ…إلخ.

وقد كان بارعا في العزف على آلة الرباب، بل صنع لنفسه طريقة متفردة في عزفه، وكان من مراجع مقامات العزف وأساتذته، وإليه يرجع الفضل في تقويم الألحان القديمة وتصحيحها وتجويد الأداء، وأسهم بعزفه في تسجيل بعض الروائع المعروفة في فن الروايس مثل قصيدة الحج للرايس المهدي بن مبارك. كما أنه أسهم في أداء أغاني الحاج بلعيد الخالدة في إطار مشروع “أماركَ المغرب” الذي تبنته وزارة الشؤون الثقافية إلى جانب عموري مبارك، رقية الدمسيرية ومحمد بونصير.

شارك في مهرجان تيميتارْ بأكَادير، والمهرجان المتوسطي بطنجة، ومهرجان تيفاوين بتافراوت (2007، 2008)، وفي مهرجان “شاوي” بمدينة مارسيي في فرنسا، وقد تم تكريم أحمد أمنتاكَ من طرف الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي سنة 1990، وصدر كتاب جماعي عنه بتلك المناسبة، كما تم تخصيص المهرجان الوطني لفن الروايس في عام 2017 له، تقدير لإسهاماته في فن الروايس، وفي عام 2009 تم تكريمه من قبل المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في حفل عيد الموسيقى، كما حصل على عدة جوائز.

ونظرا لأنَفته واعتداده بنفسه من جهة، وإيمانه بأن الرايس يجب أن يتنزه عن السفاسف ويجعل نفسه في منأى عن سهام العامة من جهة أخرى، لذلك فقد أثار حفيظة البعض، مثل الرايس عمر إجيوي الذي انتقده قائلا:

“ءاماركَ ن بجكَي هاتْ دارْ احمادْ ءامنتاكَ

ءار ءيسكارْ شيكي خ واوالْ ؤلا ريبابْ”

لكن ذلك ما انتقص أبدا من شأنه، بل عدّ دائما رمز أصالة أغنية الروايس والمدافع عن هيبتها وحضورها المشرف، بعيدا عن لوثة الاستهلاكية والسطحية والتمييع الذي تأسف الراحل أكثر من مرة على الإساءة التي لحقت فن الروايس جرّاءه، وعلى الإخلال بشروط تيرويسا وضوابطها وآدابها من قبل الروايس أنفسهم، وكثيرا ما ردّدد ” تشقّا صّنيعتْ” أي أن الفنّ عسير صعب ولا يخوض غماره إلا من له قرة البذل والتضحية، والصبر على التعلم والحرص على الضبط والإتقان، وإلا فالكل يحمل آلة ويغني ويُصدق وهمًا خادعا يزيّن له سراب اللقب.

بعد مرض أقعده، توفي الرايس أحمد أمنتاك يوم الثلاثاء 24 نوفمبر 2015 في مدينة الدشيرة، بنواحي أكَادير.

سعيد جليل، باحث

اقرأ أيضا

أكادير تُخلد السنة الأمازيغية ببرنامج متنوع يغطي المدينة

تستعد الجماعة الترابية لأكادير، بشراكة مع مجلس جهة سوس ماسة، المجلس الجهوي للسياحة سوس ماسة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *