وجه نيمون لمعلمه سقراط أسئلة حول الفضيلةوهل يولد الناس فضلاء وهل يمكن أن نتعلم الفضيلة فأجابه المعلم بانه يجهل الأجوبة، إستغرب التلميذ لهذا الجواب لكون معلمه فاضل، دعاه معلمه إلى محاولة بلورتها تشاركيا بالحوار، فكانت المحاورة بداية لبناء الفلسفة كتواصل مؤسس على إحترام الرأي الآخر كفضيلة.
ورغم أننا لسنا لا معلمين لأحد، ولا تلاميذ إلا لمن لقنوننا أخلاق العناية والتواضع والتفاني لفائدة المشترك الوطني، وقد شاءت الأقدار أن نجبر على شق الطريق وبجانبنا “رفاق” الضرورة والإضطرارية، في صيغة صحبة قسرية، في الإعتقال وكذا ما يشبه فضاء الحرية.
قليلهم مجتهد وكثيرهم يطوقه الخمول أثناء الحلم واليقظة، يعارضون النظام وأي نظام يقابل الفوضى، يكرهون التنظيم والإنضباط باسم الحرية والإستقلالية؛ نسبيا لسنا ولن نكون متفقين مع هؤلاء الكسالى الذين يبررون عجزهم وفشل مشروعهم «التغييري» بأن طبيعة النظام كونه «مخزن لا ديمقراطي ولا شعبي» كمسلمة يقينية غير قابلة للتفكيك، مناقضين بذلك حتمية التحول والتغيير، مما يشل الإرادات والطموح، لأن الطبيعة أو الطابع يحتاج فزيائيا إلى قوة عظمى لتفكيكها، وبالنظر الى حجم قوة اليسار وتقهقر مواقعه عالميا واضمحلال كل إمكانيات التعويل على التحالفات الموضوعية والدعم «الرفاقي الأممي» بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الشيوعية و«التحررية» والقومية والناصرية و «رأسماليات الدولة»، وبالنظر الى انهاكات المشاريع التحررية والتقدمية الوطنية بالقمع والإنتهاكات.
فإن المطلوب هو إعادة النظر في هذا الإستنتاج الإطلاقي لطبيعة النظام وتصوره قانونا أزليا، مع استحضار كل إمكانيات التفكيك لتناقضات نفس البنية المستندة لعدة شرعيات، دينية و «ليبرالية هجنة»، ولسنا بصدد البحث عن مقومات حصول التغيير أو حتى أسباب سقوط الفساد والإستبداد، وانما نحن بصدد الحض على سؤال تأخر حصول التغيير، وشكله ووسائله، فقد سبق لبعض مكونات اليسار ان تبنت مطلب الملكية البرلمانية، كحل توفيقي لتعايش ارهاصات الدمقراطية مع نظام وراثي، وساندها موضوعيا في ذلك طموح الطيف الحقوقي الى رد الإعتبار لقيم المواطنة وحقوق الإنسان، في مواجهة كل السياسات والمقاربات ذات البعد الأمنوي الضيق، لكن ارتكاز المطالبين على «مناخ» الحراك الإجتماعي المختزل في حماس الفبراريين، جعل العبور عسيرا وثقيلا، لأن «التمثلات» الأبوية لم تبرح مكانها داخل عقول المهندسين وكذا المدبرين هنا وهناك، فخانت الدقة الجميع بسبب انعدام الثقة البينية، وصار كل طرف يتبجح بملكيته «الخاصة» للحقيقة الثورية، فعلا الموروث ثقيل.
ولكن الأصل في الأشياء أنها قابلة للتغيير والتحول، مما يعني أن تأملات هؤلاء العجزة ليست طبيعية، لأنها لا تنتج فقط التشاؤم بل تخيف التعبير السلمي والطموح الى التغيير بفزاعة «انهيار الأوطان» التي تساوم الشعوب بالإستقرار مقابل العدالة الإجتماعية. علينا إذن أن نبادر إلى افتعال وتخيل أننا بصدد الإحتفال بعيد إفتراضي للتسامح والنقد الذاتي المنتج لمصالحة ولو مؤقتة نسرق بعضا من لحظاتها من غفلة زمن التحالفات غير الطبيعية مع خصوم النظام بلبوس ديني، لا يجمع بينهما إلا التطرف والأصولية.
وبالمقابل علينا تثمين جميع المبادرات التي تهدف الى رفع التوتر وتصفية البيئة الحقوقية والسياسية دون أن ندقق في الخلفيات والنوايا التي لا تهمنا، ما دامت النتيجة العمل على تقليص الكلفة لكي تكون غير ثقيلة نسبة ومقارنة مع ما جرى خلال ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، وبالمناسبة ننوه بجميع التنازلات الإيجابية التي تضحي بما هو سياسوي لفائدة المصلحة الحقيقية للوطن، ولنتحلى جميعا بتواضع نمتح منه توقيرا مناسبا يغنينا عن شر التقديس وخير التبخيس معا، و حذار من النفخ المنافق في القرب، فإذا كانت الفضيلة وسط بين رذيلتين، كما يقول ابن مسكويه، فإن العدمية رذيلة بين رذيلة الإطلاقية ولعنة اليقينية.