قراءة الكاتب عبد المجيد عزوزي في رواية: ” أوراق الخزامى”

قدم الكاتب عبد المجيد عزوزي  قراءة في رواية محمد أمزيان والتي تحمل عنوان: “أوراق الخزامى” بعد تقديمها عبر برنامج “حوارات بادسية” خلال شهر أكتوبر الماضي.

“أشير بداية إلى أن تقديم الرواية التاريخية لمحمد أمزيان، النشاط الذي نحن بصدده الآن، يعتبر في حد ذاته حلقة خامسة من الحلقات المخصصة لانتفاضة الريف وقائدها امحمد ن الحاج سلام أمزيان، فالرواية هي بمثابة شهادة موثقة وموثوق بها عن هذه الانتفاضة وشخصياتها.

صدرت رواية أوراق الخزامي في سياق طفرة لا بأس بها للكتابة الروائية المتعلقة بالريف، كالحاج أليمان لإبراهيم أحمد عيسى، وأماس الريفية لحسين العمراني، وأعمال امحمد لشقر عن انتفاضة الريف والحرب الأهلية الإسبانية وحدو لكحل، والترجمة العربية لروايتي ستيفنس كون، رغم الطابع الأنثروبولوجي بدل التاريخي لهاتين الروايتين الأخيرتين. وتقودنا هذه الملاحظة إلى مسألة تحديد الجنس الأدبي لهذا العمل، فهل يمكن تصنيفه بشكل قطعي ضمن الرواية التاريخية؟ أم هناك هوامش وانزياحات تعطيه خصوصية متميزة؟

يشدنا في البداية غلاف الكتاب باللوحة الجميلة والمعبرة للفنان محمد أبطوي، حيث تبدو صورة المغترب الحامل لحقيبته المنكسرة الجناح وهمّه الفكري المتشابك، والباحث عن الذات في مسار لانهائي. هذا المغترب نموذج للعدد الكبير من الريفيين المتواجدين بالمهجر الذين لا يهدأ لهم بال أبدا، فلا هُمْ اندمجوا بشكل كلي بمكان إقامتهم، ولا هُم انقطعوا عن أصلهم وتعافوا من آلام الغربة والحنين إلى البلد الأم. يُثقل كاهلَهم إرثٌ غنيٌ ومؤلمٌ في نفس الوقت، وفي هذا الجانب بالتحديد يكمن التقاطع بين بطل الرواية وكاتبها. عنوان الكتاب محفزٌ آخر يدفع لطرح تساؤلات عن أي خزامى ستتحدث الرواية، وإن كانت أوراقا متساقطة أو يانعة.

يخبرنا الكاتب منذ البداية أن العملَ المقدَّم رواية تاريخية، فتزداد الرغبة في معرفة مدى تقاطع التاريخ مع السرد الروائي، وأي الجانبين سيطغى على الآخر. نعلم أن الكاتب يشتغل على التاريخ بالأساس، وقد وقفنا على دقته وصرامته في هذا المجال، لكننا لا نعلم علم اليقين إلى أي حد سيمتعنا بكتابة الأدبية، رغم المؤشرات المشجعة المستقاة من أعمال سابقة. وهنا نتساءل: لماذا اختيار هذا الجنس الأدبي بالتحديد؟ أي الرواية التاريخية؟ هل هو نتاج تكوين محمد أمزيان الأكاديمي الأساسي في مجال التاريخ الذي ينضاف إليه حسه الأدبي والفني، والذي يميزه عن المؤرخين الآخرين؟ لن أقدم إجابة قطعية، لكنني أضيف عاملا آخر من باب التخمين، وهو رغبة المؤلف في التخلص من قيود التاريخ واكتساب حرية أكبر لإدماج الأحاسيس والقناعات الشخصية عند الحديث عن موضوع يصعب فصله عن الذات.

يعتبر التاريخ خزانا يستقي منه الروائيون معطيات أعمالهم فيشكلونها بطريقة خلاقة مبتكَرة حتى تصبح أكثر استساغة وتأثيرا، بل قد تصبح مادة تاريخية منافسة وأكثر مصداقية، خصوصا عندما يتعلق الأمر، كما في حالتنا هذه، بالتاريخ القريب الذي تعرض للتشويه، وتكون المادة التاريخية عبارة عن شهادات مستقاة من المعنيين بالأمر مباشرة. ولإثراء النقاش أطرح مجموعة من التساؤلات القبلية للقارئ الذي ينوي الغوص في ثنايا الرواية والاستمتاع بالقراءة، ولم لا شفاء الفكر والروح، كما يوحي بذلك عنوان هذه المقالة، والتساؤلات البعدية للقارئ الذي يحب القراءة بين السطور والنبش في خبايا الكتابة والإبداع، ولهذه القراءة لذتها أيضا.

  • أي أسلوب نهجه السي محمد إذن؟ ضمن هذا الجنس الأدبي، أي الرواية التاريخية؟
  • وما مدى نجاحه في تطويع المادة التاريخية من خلال الابتكار الروائي؟
  • وما العلاقة بين التاريخ والخيال؟ أو بعبارة أخرى هل يمكننا اعتماد أوراق الخزامى كوثيقة تاريخية، بمعنى أن الروايه هي أحد مصادر التاريخ، أم نكتفي بالاستمتاع بالرواية وبجمالية سردها الروائي بالأساس؟ أم هما معا؟
  • وهل كتابة هذه الرواية هي محاولةٌ من المؤلف للهروب من تاريخ مؤلم؟ أم اجتهادٌ لفهمٍ أفضل لهذا التاريخ؟
  • ثم كم هي مساحة الذاتي والموضوعي في الرواية؟ سواء بالنسبة للشخصيات الحقيقية أو المتخيَّلة؟ أو بصيغة أخرى، ما العلاقة مثلا بين شخصية الروبيو بطل الرواية، وكاتبها محمد أمزيان؟ وما نسبة تدخل الذاتي (ذاتية المؤلف) في وصف شخصية امحمد ن الحاج سلام أمزيان الذي هو والده؟

كل هذه أسئلة لن أستطيع تقديم أجوبة شافية حولها، لكنني أطرحها لفتح زوايا تسمح بالنظر إلى رواية محمد أمزيان بشكل مختلف وتجعل القراءة أكثر عمقا ومتعة.

يعتمد التاريخ كما الرواية على نفس العناصر التي هي الانسان والمكان والزمان والحكي، أليس التاريخ في آخر المطاف هو رواية لأحداث سابقة؟ حقيقة أن المؤرخ يروم أكبر قدر من الموضوعية والمصداقية فتراه يعتمد على أدوات وعلوم أخرى كالوثيقة والأركيولوجيا، ويصبح بالتالي مقيدا في استنتاجاته وجافا في أسلوب كتابته، بينما الروائي أكثر تحررا وتخيلا وإبداعا، فيقدم لنا منتوجا ممتعا، بل حتى أكثر مصداقية كما هي حالة رواية محمد أمزيان لأنها تعتمد على مادة مستقاة من المنبع ومن الفاعلين في نفس الأحداث المراد سبر أغوارها.

إن المادة التاريخية التي يقدمها لنا محمد أمزيان في هذه الرواية ليست مجرد كتابة عما حدث، أي تأريخا، بل محاولة لإعادة قراءة ما حدث وكتابته ثانية بشكل أقرب إلى الحقيقة التاريخية، وذلك في بنية فنية مشوقة. وهنا تكمن إحدى مميزاتها القوية.

تكمن أهمية العمل الروائي لمحمد أمزيان أيضا في قدرته على استنطاق المسكوت عنه والمغيب والمقموع في تاريخ الريف الذي تعرض ولا يزال لأبشع أنواع التزييف. إنه التاريخ غير الرسمي، والتاريخ المنسي أو المتجاهل، وهذا التاريخ المهمش كما نعلم هو الأكثر تغلغلا في التفاصيل التي يتجاهلها التاريخ الرسمي الذي يدون الأحداث الكبيرة فقط ويمجد الشخصيات التاريخية البارزة إلى حد الأسطرة.

لن نجد في الكتابة التاريخية أية إشارة إلى حياة الأشخاص المهمشين ولا إلى المشاعر والأحاسيس ولا إلى العادات والتقاليد، ولا إلى التفاصيل الدقيقة والجميلة عن الأشخاص والأمكنة، عكس الرواية التاريخية الغنية بهذه المعطيات، كما هو الشأن بالنسبة لرواية أوراق الخزامى.

تقدم الرواية عادة ودون قصد خدمة هامة للمؤرخ لما تورده من وصف دقيق للأنظمة القيمية والأخلاقية في حقبة معينة، وعندما يكون كاتب الرواية، كما هو الحال هنا، يشتغل على التاريخ في المقام الأول، فإن هذه الخدمة تصبح مزدوجة، فمحمد أمزيان يقدم لنا مادة تاريخية دقيقة تخضع لصرامة المؤرخ، ومعطيات إضافية تغيب في الكتابة التاريخية رغم أنها لا تقل أهمية، كالعلاقات الإنسانية في المجتمع الريفي والملبس والمأكل والقيم ورأي العامة فيما يدور حولهم من أحداث وفي الحكام والمسؤولين، خصوصا وأن التاريخ الرسمي لن يتطرق أبدا إلى هذه العناصر.

تنبني لعبة قراءة الرواية التاريخية على عملية ذهنية متواصلة لفرز الواقع عن الخيال، أي اكتشاف أين يبتدئ الخيال وأين ينتهي. فيحاول القارئ تحديد زمن الرواية الذي يقدمه المؤلف بشكل واضح فيعطيها بعدها التاريخي الواقعي، أي أننا فعلا أمام معطيات تاريخية حقيقية ودقيقة. يحاول القارئ إذن، التأكد مما إذا كانت أسماء المواقع حقيقية أم متخيلة، واستكشاف مدى واقعية شخصيات الرواية. هكذا نجد أسماء أعلام جغرافية معروفة يسهل تحديدها، كألميريا وسبتة والحسيمة وغيرها، وأخرى مغمورة كفرقذ وثراث نمزرا وثيمامايين، يحتاج أمر التأكد من وجودها في الواقع معرفة للجغرافية المحلية شديدة الخصوصية، وأخرى مشفرة كالخزامى وبييا اللتين تحيلان إلى الحسيمة. أما الشخصيات الواردة في متن الرواية، فمنها التاريخية المعروفة والمذكورة بأسمائها الحقيقية، كوالد المؤلف امحمد ن الحاج سلام أمزيان، وأخرى متخيلة تؤثث مسرح الرواية، ونموذج ثالث ليس بالمتخيل كليا ولا بالحقيقي كليا، كالروبيو مثلا. وهنا تكتسي لعبة الفرز ذروتها، فمن يكون الروبيو يا ترى؟ تقديم اسم قدور أولاد حدو لم يزد سوى الأمور تعقيدا. ما يمكن قوله أن الروبيو يحمل العديد من سمات المؤلف لكنه ليس هو المؤلف ذاته، وإلا ستصبح الرواية سيرة ذاتية. شخصية الروبيو المحورية في الرواية كلِّها هو نموذج الريفي بشكل عام، لكن على مستوى الأفكار العميقة ومساءلة الذات فهو قناة لتمرير الفكر المشاغب للمؤلف نفسه، إلى درجة نحس معها بوجود نوع من التعارض في المستوى الفكري للريفي العادي، وهو الجزء المتخيل من شخصية الروبيو من جهة، والمغترب المتعلم الذي تعذبه ذاكرته فيخلق حوارا فلسفيا مع هذه الذاكرة، ويبدو هذا المستوى الفكري بالتالي متعاليا عن السمات العادية الأخرى في هذه الشخصية.

انتهت الرواية قبل الارتواء من المعطيات الهامة حول حيثيات انتفاضة الريف، لأننا توقفنا عند نقطة إسناد الريفيين الغاضبين لدور القيادة لوالد المؤلف، والتي قبلها على مضض لأنه كان يدرك حجم المسؤولية وصعوبة حجم اندفاع المنتفضين والتصرفات غير المحسوبة العواقب لدى شريحة كبيرة من هذا المجتمع، إذ سرعان ما انتقلنا من مرحلة تلمس طريقنا في الصفحات الأولى إلى مرحلة طي آخر صفحة ولا زلنا نتشوق لمزيد من الجرعات لنطفئ بها عطش معرفة إضافية حول أحداث هامة من تاريخ الريف وعن مآل شخصيات الرواية، وهنا لا يسعنا سوى تثمين نية المؤلف إصدار جزء ثان يشبع فضولنا المعرفي ويمتعنا مرة أخرى.

ينسينا السرد الجميل والوصف الدقيق في الفصلين الأولين أهمية الإشارات التاريخية التي لا يتهاون المؤلف في تمحيصها وتقديمها بأكبر قدر من الدقة مع توضيح حيثياتها وتصحيح المغالطات المرتبطة بها، ولنا في أسباب انخراط الريفيين في الحرب الأهلية الإسبانية خير دليل. انطباعات الطرفين الإسباني والريفي حول الآخر، موضوع آخر تصدى له المؤلف، حيث وجب التمييز بين موقف العسكريين والمدنيين، والأطماع الاستعمارية، والعلاقات الإنسانية بين الشعبين التي تتجسد في علاقة الروبيو الريفي وماريا الإسبانية.

خلال رحلة البحث عن الذات يعود بطل الرواية إلى أصله المادي بعد أن كان يزوره باستمرار عبر استقراء الذاكرة. هكذا يقودنا المؤلف إلى مدينة الخزامى ويتوغل إلى قلب أربعاء توريرت، بل يجرنا إلى أماكن شديدة الخصوصية والمحلية من قبيل فرقذ ومزْرا وثيمامّايين، حتى يخال لغير العارف للمنطقة أنها أسماء من وحي خيال المؤلف. لذا من نقط قوة الرواية أيضا نجاحها مستقبلا في تخليد وترسيخ مثل هذه الأسماء المحلية المغمورة.

قد يحس القارئ خلال قراءة هذا الجزء الثاني بطغيان الجانب التاريخي على الروائي، لكن ما نجنيه أهم نظرا للمعطيات المقدمة حول انتفاضة الريف، والدور البشع لحزب الاستقلال في الريف. تكتسي هذه المعالجة أهمية أكبر لأن قائد الانتفاضة وأحد شخصيات الرواية ليس رجلا آخر غير والد المؤلف الذي استقى منه ابنه مباشرة أو عبر أعماله غير المنشورة معطيات كانت مجهولة لدى العموم إلى حدود قراءة هذا العمل. سمح السرد الروائي، أو بالأحرى التاريخي إذن، بقراءة جديدة لانتفاضة الريف من زاوية أخرى كانت مغيبة لعدة عقود، وهي الأقرب لما جرى. تعرفنا أيضا على عناصر أخرى لا تقل أهمية أذكر منها علاقة محمد بن عبد الكريم بانتفاضة الريف وجيش التحرير وحزب الاستقلال، وإشارات دالة كقضية اختطاف وتصفية كل المتصديين لديكتاتورية حزب الاستقلال كحدو أقشيش مثلا.

شكرا السي محمد على هذه التحفة، ومزيدا من التألق في هذا الجانب الأدبي والفني وهذه التجربة الجديدة”.

اقرأ أيضا

التجمع العالمي الأمازيغي يدين التصرف العدائي والاستفزازي للسلطات الجزائرية

عبر “التجمع العالمي الأمازيغي” عن استغرابه من تنظيم السلطات الجزائرية ما أسمته “يوم الريف”، واعتبر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *