أخبار عاجلة

قراءة في المشروع الأدبي والإبداعي للكاتب لحسن ملواني

  • عبد العزيز الدريج

ليس لحسن ملواني كاتبا عابرا في مشهد ثقافي مزدحم بالأسماء، بل هو علامة إبداعية قائمة بذاتها، فنان يكتب كما يرسم، ويرسم كما يفكر، ويبدع كما يتنفس. وحين نتأمل لوحاته التشكيلية، بألوانها الزاهية وجرأتها التعبيرية، ندرك أن هذا الرجل لا يؤمن بالفواصل الصارمة بين الفنون، من هنا، تبدو الكتابة عنده امتدادا طبيعيا للوحة، كما تبدو اللوحة نصا صامتا مكتوبا بلغة الضوء والظل. لحسن ملواني خزانة ثقافية متنقلة، ذاكرة خصبة، وعقل موسوعي يتنقل بسلاسة بين الأجناس الأدبية، فيكتب الشعر بذائقة الشاعر، ويقترب من القصة والرواية بوعي السارد، ويخوض غمار النقد بعين فاحصة لا تفتقد الحس الجمالي ولا العمق المعرفي.

في رصيده الإبداعي كتب عديدة تشهد على هذا الثراء والتعدد الخلاق، من “الحمامة الصفراء” بما تحمله من إشراق رمزي وإنساني، إلى “جمالية الفن الأمازيغي في الفن التشكيلي” الذي يكشف فيه عن وعيه العميق بالبعد الجمالي للهوية، قارئا الفن الأمازيغي قراءة تحليلية تحتفي بالرمز واللون والتشكيل، وتعيد الاعتبار لذاكرة بصرية طالها التهميش. وفي “نظرات في الإبداع وجدواه” يتأمل فعل الخلق الفني ذاته، متسائلا عن معنى الإبداع ووظيفته في زمن تتلاشى فيه القيم، أما “كلمات في لوحات” فهو كتاب العبور الحر بين النص والصورة، حيث تتحول الكلمة إلى ريشة، وتغدو اللوحة سؤالا لغويا مفتوحا. وفي كتابه “اللغة العربية: جمال وإهمال” ينتصر للغة الضاد بوصفها كيانا حيا وهوية حضارية….

وعلى مستوى السرد الروائي، يقدم حسن ملواني أعمالا لافتة مثل “رواية الفريد”، و” رواية المتعبون” ، و” رواية تثريت ” حيث تنشغل نصوصه بالإنسان الهش، وبأسئلة الوجود والهوية والتعب، في كتابة سردية لا تركن إلى الحكاية السطحية، بل تغوص في عمق التجربة الإنسانية، وتستثمر الرمز واللغة لبناء عوالم روائية مشحونة بالدلالة. كما يطل على الفن السابع من زاوية نقدية في كتاب “أفلام أمازيغية: ملاحظات وقراءة أولية”، مقدما قراءة تأسيسية تسائل التجربة السينمائية الأمازيغية في بداياتها، وتفتح أمامها أفق التحليل والتقويم. ولا يغيب الشأن التربوي عن مشروعه، إذ يخص “المسرح المدرسي (مسرحة النصوص: لماذا وكيف)” بمقاربة تجمع بين النظرية والتطبيق، إيمانا منه بدور المسرح في بناء شخصية المتعلم وتنمية حسه الجمالي والتواصلي..

في كتابه “الحكاية الشعبية الأمازيغية: خصائص وفوائد” الصادر سنة 2025 عن جامعة المبدعين المغاربة، يقدم الكاتب لحسن ملواني عملا معرفيا رصينا، ينهل من الذاكرة الجماعية ويستثمرها، ويعيد للحكاية الشعبية الأمازيغية اعتبارها بوصفها فعلا ثقافيا حيا، لا مجرد تراث شفوي عابر. يقع الكتاب في 141 صفحة من القطع المتوسط، ويستوقف القارئ منذ الغلاف، حيث اختار المؤلف لوحة تشكيلية متعددة الألوان من إنجازه، كأنها تعبير بصري عن تعددية الحكاية، وغناها الدلالي، وتنوع عوالمها..

يفتتح الكاتب عمله بإهداء دال، موجه إلى الجدات والأجداد والآباء والأمهات، ثم إلى عشاق الحكاية الأمازيغية والقراء عموما، في إحالة رمزية على أن الحكاية ذاكرة أسرية وجماعية، انتقلت عبر الأجيال شفهيا، وحفظت القيم قبل أن تحفظ الألفاظ. ثم يمهد بمدخل عام يعرف فيه الحكاية باعتبارها أحد الأنواع الأدبية الضاربة في القدم، مستعرضا تعريفاتها في عدد من المعاجم اللغوية، قبل أن يخص الحكاية الأمازيغية بالتحديد، محددا ماهيتها وخصوصيتها ضمن النسيج الثقافي المغربي..

ويتوقف الكاتب عند العلاقة بين القصة والحكاية، مبرزا الفواصل الدقيقة بينهما، فالقصة في نظره تخضع لسرد منظم، وتقوم على التشويق وبناء الأحداث بما يجعل المتلقي يميل إلى تصديقها، بينما الحكاية من حيث أصلها اللغوي مأخوذة من الفعل (حكى) وهي فعل شفوي في جوهره، يتأسس على التداول الجماعي، وعلى الخيال أكثر من الواقعية، وعلى الحكمة أكثر من الحبكة المحكمة.

وفي محور بالغ الأهمية، يسلط المؤلف الضوء على طبيعة الحكاية الشعبية وأهميتها، معتبرا إياها ركيزة من ركائز الأدب الشعبي، أدبا لا تعترف حدوده بالجغرافيا ولا باللغات، لما يحمله من قواسم إنسانية مشتركة. ويشبه الحكاية بالمسرح الشعبي، لتداخل الشعر، والألغاز، والنكت، والحوار، والسرد فيها، فضلا عن دورها التربوي في غرس القيم الأخلاقية والاجتماعية في نفوس الأطفال، عبر قالب حكائي ممتع وسلس..

ثم ينتقل الكاتب إلى تصنيف الحكايات، مستعرضا تعدد المقاربات التصنيفية، من الثلاثية (الدهاليز، الحكايات الطويلة، الحكايات القصيرة)، إلى الخماسية والسباعية، قبل أن يفصل في الأنواع، فيتحدث عن الحكاية الشعبية، والعجيبة، والخرافية، والمرحة، وحكايات الحيوان، مع إبراز عناصر الحكاية الأساسية من شخصيات، وأحداث، وزمان ومكان، في قراءة تجمع بين الوصف والتحليل.

ولا يغفل الكتاب الإشارة إلى الإهمال الذي طال الحكاية الشعبية في ظل التحولات الاجتماعية والثقافية، فيقف عند مظاهر هذا التراجع، ويقترح حلولا عملية لإعادة الاعتبار لهذا الموروث، من خلال التدوين، والإدماج في المناهج التعليمية، وتشجيع البحث الأكاديمي، وحفز الأجيال الجديدة على التفاعل معه.

وبعد هذا التأصيل النظري، ينتقل الكاتب إلى الجانب التطبيقي، حيث يقدم قراءات تحليلية في حكايات شعبية من الجنوب الشرقي، معتمدا منهجية واضحة المعالم: يبدأ بعرض الحكاية مترجمة، ثم يحدد موضوعها، ويدرس عنوانها، ويحلل طابعها العجائبي، وشخصياتها، وبنية الصراع داخلها، قبل أن يستخلص القيم والدلالات الكامنة فيها، مقدما بذلك قراءة نقدية متكاملة. ومن بين الحكايات التي تناولها: الحمامة الصفراء، نص فلوس، النخلة الفريدة العجيبة، الفتى الشره (آكل القنطار)، ابن الثعبان، علي اتوينست، فاطمة مشردة إخوانها، صاحب الفخ، جوهرة الصغيرة، معزة الرعاة، القنفذ والذئب، والكلب والذئب..

ويختم الكتاب بخلاصات عامة تؤكد أن الحكاية الشعبية الأمازيغية بالجنوب الشرقي ليست مجرد نصوص للتسلية، بل خطاب ثقافي وقيمي، يعكس رؤية المجتمع للعالم، ويجسد صراعاته، وأحلامه، ومخاوفه، وحكمته المتراكمة، مع إيراد قائمة المراجع المعتمدة، بما يضفي على العمل طابعا علميا موثوقا..

إنه كتاب يزاوج بين التأصيل النظري والتحليل التطبيقي، ويجمع بين حس الباحث وذاكرة الحكاء، ليشكل إضافة نوعية إلى مكتبة الأدب الشعبي الأمازيغي، ومحاولة جادة لإحياء صوت الحكاية في زمن يكاد يطغى فيه الصمت على الذاكرة..

ويحسب للكاتب، فضلا عن عمق اشتغاله على الحكاية الشعبية، تمكنه اللافت من اللغة العربية، إذ يروضها بقلمه ترويض العارف بأسرارها، فيجعلها طيعة، سليمة المبنى، مشرقة الدلالة، تجمع بين الدقة العلمية والنفس الإبداعي. حيث لا تبدو العربية في هذا الكتاب أداة محايدة لنقل الأفكار فحسب، بل تتحول إلى وعاء جمالي، ينم عن حس أدبي رفيع، ويمنح النص سلاسة في العرض، ووضوحا في التحليل، ورشاقة في الانتقال بين المفاهيم والمحاور. إن لغة لحسن ملواني لغة واثقة، متوازنة، تخلو من التكلف، وتؤكد أن الاشتغال على التراث لا يكتمل إلا بلسانٍ مبين، قادر على أن يحيي الموروث لا أن يجمده، وأن يجعل من البحث الأكاديمي فعل إبداع لا يقل جمالا عن الحكاية ذاتها..

وعلى الرغم من هذا العطاء الغزير، والتجربة المتعددة، والحضور الثقافي والإنساني الوازن، فإن لحسن ملواني، ومعه كثير من المبدعين الحقيقيين، لم ينل بعد ما يستحقه من تكريم يوازي قيمة منجزه وعمق أثره. وهي مفارقة مؤلمة تكشف خللا في منظومة الاعتراف الثقافي، حيث يهمش الإبداع الجاد الهادئ لصالح الأضواء العابرة. غير أن أعمال لحسن ملواني ستظل شاهدة عليه، نابضة باسمه، تؤكد أن القيمة الحقيقية لا تصنعها المنصات ولا الألقاب، بل يصنعها الأثر العميق الذي يتركه المبدع في الذاكرة والوجدان..

اقرأ أيضا

أكادير: هيئة دكاترة العدل بالمغرب وشركاؤها يبحثون سبل تنزيل مستجدات المسطرتين الجنائية والمدنية

في سياق التطورات التشريعية الهامة الذي تشهدها منظومة العدالة بالمغرب، احتضنت قاعة الندوات بمركب الاصطياف …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *